مع استمرار الهيمنة والتسلط، واستفحال مآلات العسف والهدر للكرامة الانسانية، وتعويم الفكر الاستبدادي البوليسي ، يتبدى اليوم وأكثر من أي وقت مضى، حال الدولة / العصابة البوليسية الأمنية المنفلتة من عقالها ، بل من كل عقال، والباسطة أذرعها الضاربة، فوق رؤوس العباد والبلاد ، وهذا الهيجان الطغياني الملحوظ، والملموس في واقعنا السوري ومشرقنا العربي على وجه الخصوص، ضاربة عرض الحائط بكل القيم الانسانية، بل وما قبل الانسانية ، هائمة على وجهها شرقاً وغرباً، شمالا وجنوباً ، هادرة الدم والأرض والعرض، باسطة عنفها وإجرامها، بل بصطارها العسكري البوليسي، على كل ما هو موجود وممدود، غير آبهة بما يمكن أن ينتج عن ذلك مستقبلاً، من ردود فعل لا تحمد عقباها ، ونواتج صدامية غاية في التطرف والعسف، وهي كذلك أيضاً. ففي مفهوم الدولة البوليسية يتحدد المعطى الممارس، في الولوج نحو ذات الانسان، منتهكة كل محرماته وتابواته، داحرة أمامها كل (ما خلق الله وما لم يخلق)، عبر فعل هدري بوليسي يعبر عن مكنونات في الدواخل، لا بد من الغوص وراءها، ومعرفة كنهها، لنستطيع أن نلامس منعرجاتها، ونمسك بحوافها، قبل أن تصبح هلامية، لا حافة لها ولا ملمس، يصعب الامساك بها تحت أي ظرف، وضمن أية متحققات.
ان هذا النهج الشمولي البوليسي النازل كحق مطلق من فوق المجتمع والشعب، قد أقام سداً في وجه العمل السياسي والديمقراطي على صعيد المجتمع سابقا، وفي وجه أي نشاط سياسي أو اجتماعي أو ثقافي مستقل، وخارج أطر الهيمنة المطلقة ، فلا رأي آخر غير رأيه ، ولا يقبل بقيام أية معارضة في أي موقع من المواقع لنهجه ، فإما أن تكون مع السلطة -أي مع الدولة البوليسية- راضياً ومؤيداً ومسلماً بكل ما تقول وتفعل، أو أن تدخل في الأطر والأقنية التي ترسمها أجهزة النظام للعمل والولاء، وإلا فأنت خارج على القانون والنظام ، وأي تعبير عن معارضتك لهذا الواقع ، وما يجري، أو جهر برأي آخر، أو موقف لا يتفق مع مقولات نهج الحكم ، يعتبر تهديداً لأمن الدولة البوليسية هذه، واذا ما جهرت من عندك وأعلنت في موقف معارضتك لواقع الظلم والفساد والتمييز ، ومارست حقك كمواطن وانسان في التعبير عن مطالبك ، أو مارست بعضاً من حقوق المواطنية في حرية الكلمة والتعبير ، وحرية التجمع والتنظيم الديمقراطي المستقل عن التنظيمات التي فرضها النظام السوري المجرم وأجهزته ، تكون شققت عصا الطاعة ، وأنت من العصاة ، ويطالك التحقيق والأجهزة والمحاكمات الاستثنائية .
في الدولة البوليسية هناك صنفان من المواطنين وطبقتان: صنف الحاكمين وطبقة المنتفعين من الحكم ، وكل من يلوذ بهم وينتهز الفرصة ويتبع ، وهو يحظى بالمكاسب والثراء والنعم ويباح له ما لا يباح، ويغفر له مالا يغفر، أما الصنف الآخر ، والذي لم يدخل في مراتبية الطبقة الحاكمة ومجتمع أهل الحكم، وذلك الذي لا يقبل أن يخضع ويتبع ، فليس له من حقوق المواطن شيئاً يذكر، واذا ما ضاقت أمامه سبل العيش الكريم وفرص العمل ، واذا ما ضاق ذرعاً بكبت حريته والغاء حقه في التعبير عن مطالبه وممارسة مواطنيته ، فليس له الا أن يواجه التهميش والقمع ، او ليس له الا أن يهاجر أو يهجر قسريًا ويرحل ، والكثيرون هُجروا وهاجروا خارج البلاد .
يؤكد الدكتور خلدون النقيب في كتابه ” الدولة التسلطية في المشرق العربي ” بأن الإطار التاريخي الذي ولدت فيه الدولة البوليسية في العالم الثالث عامة ومنه العالم العربي هو الاتجاه العالمي نحو توسع وتعاظم دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع الذي أصبح حقيقة واقعة وتياراً كونياً على مستوى العوالم التالية.. الأول: الرأسمالي الذي أنتج دولة الرعاية والليبرالية التجارية (أي الدولة الكينزية) والثاني: الشرقي الذي أنتج نوعاً مشوهاً من الاشتراكية المبقرطة، والثالث: المتخلف (عنهما) الذي أنتج رأسمالية مشوهة نسميها تجاوزاً رأسمالية تابعة “.
وفي هذا السياق وضمن كتاب ( سقوط الدولة البوليسية ) للكاتب التونسي توفيق المديني، يبين الكاتب أن الدولة البوليسية عامة هي التعبير المعاصر عن الدولة الاستبدادية القديمة وهي ارتبطت بتطور الرأسمالية في مراحلها المختلفة ، اما الدولة البوليسية التي ظهرت في العالم العربي على وجه الخصوص فقد ارتبطت بتدخل الدولة الهائل في الاقتصاد والمجتمع ، ومن ثم تعاظم دورها، وتنامي تسيدها على المجتمع .وهو يشير الى أن الدولة البوليسية ترتكز على الأسس التالية :
– احتكار مصادر القوة والسلطة في المجتمع ( بواسطة اختراق المجتمع المدني وافتراسه.
_ بقرطة الاقتصاد اما من خلال توسعة القطاع العام، واما بإحكام السيطرة عليه بالتشريع واللوائح، أي رأسمالية الدولة التابعة.
– كون شرعية نظام الحكم تقوم على القهر من خلال ممارسة الدولة للإرهاب المنظم ضد المواطنين، وكل ذلك غير مستمد من ضرورات التنمية وإنما يأتي عبر، ويصب في إدامة نظام الحكم. وهنا لابد من التأكيد على ان كل هذه المحددات العلمية التي ذهب اليها الكتاب وأصحاب الفكر، قد تجاوز معظمها الزمن، بعد أن شاهدنا، ونشاهد يومياً، آليات جديدة تتجسد، وتجسد نواتج الدولة البوليسية الغارقة في دهاليز القهر والسلب والنهب. فقد أضحى للدولة البوليسية نواتج وآليات جديدة ومتجددة، سبقت زمانها وتجاوزت آليات ومحددات المنظرين، ليلمس المرء يومياً، اتجاهات في القهر وسحب الشرعية ، وانتهاك الحرمات، وممارسة الارهاب المنظم، وغير المنظم ، كنماذج يصعب تأطيرها الآن ، أو تحديد سياقاتها ، قبل مرور بضع زمن عليها، حتى يكون التحليل غير انفعالي ، هادئ ومتزن وأقرب الى الغوص العلمي، منه الى ردود الفعل الانفعالية ، فتعاظم دور أذرع الدولة البوليسية، التي لا يضبطها ضابط ، ولا يمسك بمسارها أي وازع ، ولا يقف في طريقها ، أي محرم ، أو مقدس ، يدفعنا الى القول : ان الدولة البوليسية اليوم تنخرط في بنية جديدة، هي ليست الدولة، ولا بنيتها على الاطلاق ، بل ترد الى ما قبل الدولة ، والى ما قبل العشيرة . والى ما قبل أي ما قبل، له أدوات الحكم البوليسي التسلطي العصرية اليوم، هي ليست كأي ما سبقها، وهي شيء آخر ومختلف، متعدد النواتج ومنفلت الانضباط، ينتج عنه حالات من الرعب البوليسي، ستظل أنساق المجتمع السوري عالقة بين ظهرانيها الى أزمنة أخرى قادمة.
الرعب البوليسي اليوم الغارق في نهارات وليالي خارج المنطق، وخارج حدود العقل، سيؤسس لثقافات جديدة، ليس أهمها، ولا آخرها ثقافة الخوف الثاوي في مخيال كل منا.
ولكن هناك من يعتقد أن الرعب البوليسي العصري الناتج عن الدولة البوليسية الحديثة بكل ادواتها ونواتجها، سينتج كينونة مجتمعية مختلفة، وجد متمايزة ، وستعيد بناء الانسان العربي على أسس جديدة ، مدركة ماهية الحرية بالمعنى الفلسفي، و الاجتماعي للكلمة، ان نواتج الدولة البوليسية العصرية الآنية، ستكون على عكس ما تمنى وخطط ونفذ أهلها، ستكون انقلاباً معرفياً آنياً ومستقبلياً جديداً، يلاقح كل الثقافات ، ويبني نفسه بنفسه على حافة طريق أخرى، شاء من شاء، وأبى من أبى .
وتجدر الاشارة في هذا السياق ، سياق الحديث عن الدولة البوليسية العصرية ونواتجها، الى قول الدكتور عبد الاله بلقزيز : ” ان دولة مستوردة أو مستعارة لا تعبر عن المجتمع ولا تنتمي الى تاريخه الثقافي والسياسي، لن تنجح في تأصيل نفسها ولا في ضمان استقرارها، أو تحصيل الرضا الجماعي بها ، ولن يكون من شأنها سوى استثارة، واستنهاض الاعتراض الاجتماعي الشعبي عليها “.
ويتابع قائلاً ” ان دولة مزروعة من فوق لن تنجح – مهما كانت حديثة – في أداء دور تاريخي مادامت عرضة للاعتراض الاجتماعي على شرعيتها ” .
فكيف اذا كانت هي نفسها، ليست عرضة للاعتراض فقط، بل للنسف من داخل بنيتها، لما تؤول اليه نواتجها من قهر يطال كل شيء في المجتمع، من التراث والتاريخ والاصالة، الى الانسان وجوهر الانسان، ومن ثم جسد الانسان، وقداسة الانسان. واذا ما ظل سيف القهر مسلطاً ومشهراً في وجه الشعب، وظلت حالات الهدر والاعتقال، و الموت تعج بالناس المقهورين، لإخضاع المجتمع الشعبي، وفرض هيمنة مستمرة عليه، وسد أي باب للتغيير ، ولقيام مجتمع مدني مستقل بإراداته الشعبية ، فان مصائر الأوطان رهن بأصحاب العقل والعقلانية … ومهما كانت الدولة البوليسية صاحبة السطوة والحق المطلق ، فان الشعوب لا تقهر، وستنتصر الشعوب لأنها صاحبة الحق، وصاحبة لواء الكرامة ، ولا بد من سماع صوتها … صوت الشعب، والاصغاء للإرادات الشعبية، فالمصائر مصائر الأوطان، وأمنها ومواطنيها، والمصالح ليست مصالح فئة، وهيمنة فئة، بل هي المصالح العليا للناس ولكل فئات المجتمع .