يدينُ الخطاب العام الحاضر بوضوح ظاهرة التعفيش في معظم الأحاديث المتداولة، بين ركاب النقل العام، الأصدقاء، الأقرباء، الزبائن والباعة في الأسواق، ذلك في الوقت نفسه الذي لم تعد فيه هذه الظاهرة تقتصر على مكان أو أمكنة واضحة (ما عُرِفَ بأسواق السنّة مثلاً)، بل باتت متفرقة على عربات وبسطات كثيرة، ومحلات فُتحت خصيصاً لفترات وجيزة بهدف الاتجار بالمُعفّشات.
في باص جرمانا وبعد انتهاء معركة الغوطة، كان ممكناً سماع ملاحظات الركاب حول الشاحنات المارّة قربهم والمليئة بمفروشات منزلية وخزانات مياه وأدوات كهربائية صغيرة، أو أدوات ضخمة خاصة بورشات خياطة. يلعنُ الركابُ اللصوصَ مترفعين عن سلوكهم، ليترجّلَ أحدهم ثم يقف ليُعاين أواني مطبخ مستعملة في بسطة على الطريق.
لا يعدو تناول الظاهرة كلامياً كونه أحد امتعاضات الحرب الكثيرة التي تنتهي غالباً بعبارة «الله يفرّج»، التي تضع المسؤولية بين يدي المجهول دوماً، خوفاً من أي تبعات أمنية أو خِلافية. إلقاءُ المسؤولية بعيداً والتأفّف من وجود المشكلة في آن واحد، يُكسِبُ جميع الأطراف رضاً أخلاقياً مزيفاً، وإحساساً بغبن الضحية يُعفي من مساءلة الشخصيّ في الأمر، ويرسم حدود الحق والواجب المُغرقة بالضبابية في زمن الحرب.
ضمن الواقع السوري الجديد، قد يكون التعفيش عقداً اجتماعياً سورياً جديداً، ويبدو مصطلح «التعفيش» هنا مناسباً تماماً للمرحلة، فهو يعني الاستيلاء على ما لا يمكن الدفاع عنه، من يد صاحبه الذي يخشى على ما هو أهم، على وجوده ذاته. وهو يرتبط بمآل السوريين وضعفهم أمام مصطلح آخر هو «التشبيح»، الذي يعني الاستعانة بقوة النظام بشكل مباشر أو غير مباشر، لفرض ما لا يرغب به «المُشبَّحُ عليه». التشبيح يكمن في فعل التعفيش، مستتراً وظاهراً، ولعلّهما الفعلان اللذان سيسبغان على حياتنا لبوساً من الشقاء، لن تؤطره سوى محاولات الوقوف في وجههما أياً تكن.
من هو المشتري؟
شراءُ الممتلكات المُعفّشة ملحقٌ بالموقف المؤيد للنظام، تحديداً لأن معظم الأسواق المستعجلة لعرض البضائع المنهوبة كانت في مناطق مثل جرمانا وضاحية حرستا والكشكول ذات السمعة الموالية، ولعل الموقف السياسي يساهم فعلاً في تخفيف حدة الموقف الأخلاقي والقانوني بالغ الوضوح بوجوب الامتناع عن شراء بضائع مسروقة، لكنه رغم ذلك ليس الرأي الأثقل وزناً. يتأثر المؤيدون بخطاب السلطة ذي الصبغة الوطنية، فلا يُتاح الدفاع عن شراء بضائع مسروقة والحفاظ على الاتساق نفسه.
الابتزاز الأخلاقي يتمّ في صفوف المؤيدين على أساس التضحية التي قام بها المقاتلون على الجبهات بينما كان الآخرون مرتاحين في بيوتهم، ما يبيح لهم أن يسرقوا أو يفعلوا ما يشاؤون بالإرهابيين وما يخصّهم من ممتلكات، فهم سبب المشكلة والمعاناة من وجهة نظرهم. يبرر المؤيدون للمُعفشين تعفيشهم كونهم فقراء، يعانون بشدة للدفاع عن البلد ضد الإرهابيين، ما يجعلهم في مكان يحق لهم فيه ما لا يحق لغيرهم، وهو ما يُلحِقُ التعفيشَ بمفهوم الغنيمة الموجود إسلامياً.
يرى أنصار النظام أن المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة هي مناطق إرهابيين يستحقون كل سوء، وفي هذا التبرير تحدٍّ لا أكثر، فتسويغ التعفيش لا يعني أن تشتري براداً! بل أنت تشتريه لحاجتك له ولأن سعره رخيص. ومن يقوم بهذا هو نفسه الذي يستفيد من (الكرتونة) أو الحصة الغذائية المخصصة للإيفاء بالحاجات الأساسية لمن يفتقدها، رغم قدرته على الاكتفاء. هبوط الوضع الاقتصادي عامة ساهم في إيجاد تبريرات لمكتسبات ليس لبعض السوريين الحق الكامل في الاستفادة منها، وينطبق هذا على ذوي الموقف المعارض بالقدر نفسه، لتبرز مشكلةٌ أخلاقية بمعزل عن الموقف السياسي.
نظرياً يبدو الجميع ضد شراء التعفيش، ولا يفخر بشرائه أحدٌ علانية، بل تُستخدم كلمة «المُستعمل» لوصفه. عملياً تبدو الأسعار المغرية عاملاً مؤثراً على الموقف النظري، فلا يعود مهماً الموقف المؤيد أو المعارض، بل الموقف الاقتصادي الأخلاقي حسب الرأي الشائع: «إذا أنا ما استفدت منها غيري بيستفيد، أنا أحقّ من غيري». وتتراوح بين النظري والعملي كلُّ التبريرات؛ النقاش حول كونها سرقة من عدمها: «كثيرٌ من الناس تبيع أشياءها»؛ الخيارات المتاحة: «المستعمل هو الخيار الوحيد، ولا قدرة على شراء الجديد» أو «الجديد غالٍ جداً»؛ العدمية اليائسة: «ما رح تفرق مع حدا إذا اشتريت أو ما اشتريت».
أيضاً يتمُّ التبرير أحياناً بالتعرّض للجرم نفسه، فلا يمكن إلّا ملاحظة أن كثيراً من المشترين في دمشق وريفها هم من مهجّريها أنفسهم، فانحدار المستوى المعيشي إلى ما تحت خط الفقر بالنسبة لمعظمهم يجعل التفكير بالأخلاق رفاهية لا يستطيعون تحمّل كلفتها. في الصيف وعندما يكون الحرّ كما هو الآن، يصبح شراء مروحة تعفيشاً بالمقارنة مع عدم وجود بديل إلا التهوية بقطعة ورق مقوى إمكانيةً لتحسين شرط الوجود ليس إلا، ولا مكان فيه للتفكير بأي آخر، أو بأي بُعد أخلاقي للسلوكيات الشخصية.
صراعات دولة:
«الأرض ألنا واللي فوق الأرض ألكم»، مقولةٌ متداولةٌ بين العساكر، ومن المفترض أن تكون على لسان قياداتهم. يُحكى أن وزير الدفاع العماد فهد الفريج أعلن أنه لا يريد أن يرى عزقة في المليحة لشدة غضبه مما كلّفه استرجاعها.
تتعامل الدولة هنا مع نفسها بطريقة تقسمها مرات عدة، تُباح السرقة جزاء تضحية مفترضة في القتال واستعادة الأرض، وتغدو المكافأة هي النهب، الغنيمة، الغزو المباح، وفي الوقت نفسه تقف قوانين الدولة، دستورها، وأذرعها التنفيذية والقضائية، لتحاسب أحياناً بعض الأشخاص على ارتكاب أعمال التعفيش التي سُمِحَ بها سابقاً. وهكذا فإن الخطاب الإعلامي الرسمي ينفي كل الحدث، ويزعم أن من أمسك بهم الروس ووضعوهم تحت أقدامهم مطلوبون للعدالة ويدّعون الانتماء للجيش السوري، ذلك مع أن الأخبار تتوالى عن استعادة ممتلكات مسروقة، آخرها بقيمة مليار ليرة على لسان وزير الداخلية الشعار، فيما تعجّ المحاكم بالمتهمين العسكريين بـ «السرقة أثناء الاضطرابات»، وهو الاسم القانوني للتعفيش.
يُحكى أنه يُسمَحُ لمقاتلي الفرقة الرابعة والميليشيات الرديفة بتعاطي حبوب الكيبتاغون والحشيش، وأنه يتمّ تزويدهم بها من قبل قادتهم، وإذا ما قُبِضَ عليهم خارج قطعاتهم العسكرية من قبل أحد الفروع الأمنية لتعاطي المخدرات، تتم مقاطعة التحقيق ويعودون سالمين، وتُزال التهمة من أصلها، لكنهم يُتركون لوحدهم في مواجهة اتهامات السرقة إذا ما قُبِضَ عليهم يُعفّشون، وتتنصل منهم قياداتهم التي سمحت لهم بذلك.
تُعطى الأوامر بتمشيط المناطق خلال فترة معينة، وما تحتويه تلك القرارات ضمناً هو أن هذا هو الوقت المحدد للتعفيش. يتم تحديد تاريخ نهائي يستعجلُ اللصوصُ من العسكريين سرقاتهم قبل حلوله، وفي مخيم اليرموك تم تمديد مدة التمشيط لعدم انتهاء العناصر من أخذ كل شيء. من الواضح أن التوقيت مهمٌّ جداً في المسألة، وللبادئ الحصة الأهم. على سبيل المثال، في داريا كانت الفرقة الرابعة والمخابرات الجوية على جبهتي قتال للمدينة، وحين آن أوان التعفيش بادرت قوات الجوية إلى دخول المنطقة أولاً، ما يعني أنها ستنال الحصة الأفضل من السرقة، وهو ما أدى إلى خلاف دفعَ ماهر الأسد قائد الفرقة الرابعة واللواء جميل حسن قائد المخابرات الجوية للتواصل بشكل شخصي، ليتمّ حلُّ الخلاف لصالح الفرقة الرابعة قبل أن ينشأ اشتباك كاد يكون وشيكاً.
الخلافات على التعفيش باتت أمراً معروفاً، يذهب ضحيته قتلى وجرحى بين عناصر النظام المقاتلة، التي تتحول إلى متقاتلة، أحياناً على مستوى الفرقة نفسها، حول «حقوق من في تعفيش ماذا»، وكأننا نسمع قصصاً عن أفلام أمريكية يخون فيها المجرمون بعضهم باستمرار، ويغدو الأكثر بطشاً هو الأكثر قدرة على الاستئثار بأشياء ليس للآخرين القدرة على دخول صراع معه من أجلها. التشبيح في التعفيش ينتقل في مجريات الحرب السورية من استهداف الشعب، إلى استهداف الأطراف في الصف الواحد لبعضهم بعضاً، إلى استهداف الأشخاص لبعضهم بعضاً داخل الطرف الواحد، ليسأل المرء نفسه: من سيبقى؟ من هو الأقوى؟ وإلى متى؟ وتغدو الحرب عملية اصطفاء كبيرة لانتخاب عصابة قوية تتحكم في سوريا.
التراتبية التعفيشية موجودة لتشير إلى من يحقّ له أن يسرق دون محاسبة وعلى رؤوس الأشهاد في هذا البلد، وإلى من يُترَكُ ليواجه مصير اللصّ إذا ما شاء له الحظ العاثر، إذ لا يبدو أن هناك أسباباً للإفلات أو العقاب سوى إمكانية القاء القبض على مرتكب الفعل من عدمها، مع معرفة الجميع القطعية بأن هناك أسماءً تبقى حتماً خارج دائرة المحاسبة.
المعامل، المنشآت، حتى مؤسسات الدولة، وكل ما يمكن أن يحتوي على معدات ثقيلة، هو من حقّ اللصوص الكبار. مكنات كبيرة، آلات زراعية، وتجهيزات كثيرة من الغوطة كانت تُعدّ رأسمال حقيقي لأصحابها، شوهدت مكومة في مستودعات على أرض معرض دمشق الدولي القديم وسط دمشق. حركة المرور تقف، والشرطي يسيّرُ الأمر لتدخل الشاحنات الضخمة أمام شعب متفرّج، هنا تُنسَجُ خيارات لاعنفية لسوريين راضين بالخسارة في مواجهة العنف، ويعودون للابتسام في وجه اللصّ الكبير، ذاك الذي لا يحتاج تبريراً لما يفعل، في حين يبرر اللصوص الصغار أفعالهم بمعاناتهم. قد يستطيع من يملك المال إعادة شراء ما يحتاجه بأسعار مخفّضة، وبدلاً من التحدي والمطالبة بالحق، يمارسُ الاستكانةَ الخانعةَ أمام القادرين على كل شيء، ويكافح التشبيحَ بشراء التعفيش ليغدو نجاحه محسوباً بقلة حجم الخسارات، والاستمرارُ هو الإمكانية الوحيدة بديلاً عن الاستسلام.
تطوّر ومأسسة:
يقول بعض المقاتلين في الميليشيات إنهم كانوا يفخرون بما يفعلونه سابقاً أكثر من اليوم، إذ كان إتيانهم بغسالة أو براد لعائلة مفقرة دليلاً مادياً على الانتصار والأخذ بالثأر من أولئك «الإرهابيين»، الذين قتلوا رفاقاً لهم وكان لا بدّ من معاقبتهم باسم الدولة انتقاماً لا قصاصاً، وكأن الدرس المطلوب تقديمه هو للتاريخ، وليس لهم فقط. لكن الذهول يسيطر الآن أمام المكنة الاقتصادية التعفيشية الفعّالة، والترتيب المنظّم للأمر، ودخول من لم يشارك في معركة قط للسرقة فحسب.
تقعُ الشركة السورية للنحاس والمعادن في المزة، مهمتها إدارة عمل محمد حمشو وماهر الأسد، وشراء النحاس المسروق من قادة الفرق المقاتلة، الذين يأتون من كل مكان بسياراتهم ذات الزجاج الأسود، التي لا تحمل لوحات تسجيل، ليبادلوا فواتيراً أخذوها سابقاً من الشركة بأكياس من المال. ثلاثة حمالين يقفون مع مرافقة من الفرقة الرابعة ليساعدوا في تحميل النقود، موظفو الشركة القلائل يرتدون لباساً عسكرياً ويحملون أسلحة، لينظّموا عمليات النقل والوزن والدفع، التي تجري بين المناطق المسروقة ومعمل حمشو للحديد في عدرا، إذ تصل سيارة الشحن إلى المنطقة المُعفّشة لأخذ النحاس وترفيقه على الطرقات وعبر الحواجز ليصل إلى عدرا، ثم يبيعه محمد حمشو بمعظمه إلى الأسواق اللبنانية والسورية بأسعار منافسة. يشتريه بما يقارب الألف وخمسمائة ليرة سورية للكيلو، فيما يساوي سعره الحقيقي حوالي الخمسة آلاف.
طريقةُ استخراج النحاس تنمّ عن فُحش تخريبي لا مثيل له، يُحرَقُ زفت الطرقات بالبنزين وتُحفَرُ الأرض بالجرافات لتُستخرج كابلات النحاس من الأرض، لأنه بين كل عمود كهربائي وآخر حوالي خمسة عشر متراً. يباع النحاس الذي يحتويه المتر الواحد بحوالي المئة ألف ليرة، ثم توضع تلك الكابلات في ما يدعى «البورات»، حيث يذوب البلاستيك ويُستخرج النحاس.
بعد انتهاء المعارك في المخيم، كانت الأدخنة المتصاعدة لأيام كثيرة تلت هي أدخنة سرقة النحاس، وكان كل من في المدينة يشاهدون ما عهدوه سابقاً من سواد سماء الحرب، لكنها هنا سماءٌ أخرى، بدخان لا يعني قتلى جدداً بل سلاماً مبهماً سيعيشون فيه طويلاً منذ اللحظة.
اقتصادٌ يأكل نفسه:
يُفاقِمُ التعفيش أضرارَ الحرب الاقتصادية إلى مراحل، ويرفع من فاتورة إعادة إعمار ما تمّ بيعه بأثمان بخسة. إعادةُ أحياء بأكملها إلى حالة ما قبل الإكساء، وتدمير ما لم تدمّره الحرب من جدرانها لإخراج وسرقة ما فيها بسهولة، هي في الواقع عمليات إفقار ممنهجة لسورية البلد، هي عملية تبديل الإنتاج بإعادة تدوير الممتلكات، تبخيس أثمانها، تبديل أصحابها، كجيفة تأكل ما تبقى فيها من حياة حتى تنتهي كلها.
مع الهبوط الشديد في مستويات المعيشة، وإذا تركتَ أسواق المستعمل ووجّهتَ أنظاركَ إلى ما يتوفر من منتجات جديدة، ستجدُ أنخاباً ثالثة ورابعة من كل شيء، اقتصادٌ موازٍ يطرح ما يلائم حاجة السكان على شكل منتجات أكثر رداءة من أن يضمنها البائع لحظة شراءك لها، ليغدوا شراؤها مقامرة لا يكفلها إلا التمسك بالماورائيات والدعاء أملاً.
البيوت التي كانت تُكسى وتُفرش وفكرة الأبدية في البال، تحولت إلى نظرية (التسكيج)، أي قضاء الحاجة الآني والاستعداد للاستغناء في أي لحظة. حتى العاملون في الصيانة باتوا يتحولون إلى إطالة أعمار الخدمة، بدل الحلّ الحقيقي للمشاكل المطروقة، وكثيراً ما يستخدمون معدات ينكرون مصدرها، في صيرورة مستمرة للحرب، التعفيش، استخدام المُتاح، ثم خسارته مجدداً.
السؤال الأخلاقي:
تبقى إشارات المقاومة الضمنية هي المسعى الوحيد الذي يمكن تتبع الأمل فيه، ذلك أن ذمَّ التعفيش قد يُهاجَم بالترّفع الأخلاقي الكاذب، عبر القول إن الحاجة أو الرغبة هي المُسيّرة للفعل، وإن المُثُل الأخلاقية زيفٌ وادعاء، لكن ضرورة الدفاع عن الفعل أو تبريره بدعوى الاضطرار أو الحاجة تعني أن الأمر ليس ببساطة الحرب واستحقاق العدو للأذى، وفيه إعادة اعتراف بأهالي المناطق الثائرة أو على الأقل النازحين منهم إلى مناطق النظام. نتحدث هنا طبعاً عن المؤيدين المُشرعنين لإفناء آخرين غيرهم.
كثيرون يرفضون شراء مسروقات التعفيش، وكثيراً ما يكون السبب دينياً، مبنياً على رفض شراء ما هو حرام، لكن الصعوبة تكمن في أن يأتي هذا الموقف من المُهجّرين الذين ينامون على فرشات وحصائر تحمل شعار الأمم المتحدة، وفي هذا من القيم الأخلاقية ما يستحق الإشادة، لكن التراجع عنها قد لا يكون سبباً كافياً لنبذ أخلاقي والحال كما هي اليوم، فمن السهل تسويق خطاب استعلائي على من يشتري أغراضاً مسروقة، لكن تحوّل المفروشات والأدوات الكهربائية الجديدة –سوى المنتجات الصينية السيئة- إلى قطاع مستهلكين يضمّ نخبةً ممن لم تمسّهم الحرب اقتصادياً بالشدة نفسها، يُرغِمُ على التفكير بأخلاقيات ملائمة تفي بالغرض وتحقّق الصالح العام.
لعل المبادرات الأخلاقية المناوئة للتعفيش في السويداء مؤخراً، التي شملت الحملات الإعلامية البصرية والاجتماعية، والفتاوى الدينية، ونقل الأمر إلى ساحة النظام القضائية عبر رفع دعاوى حسب القوانين المتبعة، كلها أمورٌ تأخذنا إلى مجال الجدل الأخلاقي حول المسألة، الذي يبدو فيه أن بعض السوريين يفكرون بمصالحهم المشتركة، ويطرحون كل ما لديهم على طاولة النقاش ولو افتراضياً.
هذا النقاش الافتراضي وتحوله الطبيعي إلى مساحات أكثر واقعية، وإن أتى متأخراً جداً مع نهاية فصول في الحرب السورية وبداية أخرى، يؤسِّسُ لموجات فكرية شعبية يمكن أن تبقى وتترسخ لتكون ثوابت أخلاقية لدى السوريين. لا نملك اليوم القدرة الكاملة على التمييز والاختيار، إذ ينخفض مستوى معيشة أغلبية السكان إلى أدنى من معدل الفقر المدقع عالمياً، وليس بقاء هذا الحال إلا إنذاراً بخراب في رأس المال المجتمعي يزيده الاستقطاب فساداً، ولا ممكن إلا الاستمرار بالتنويه بالأخلاقي والابتعاد ربما عن التجريم، إذ بالإمكان تحويل البلد بأكمله إلى مجرمين، لذلك ربما يكون التركيز على الفضائل في هذا الوقت الإمكانية الوحيدة للاستمرار في العيش، وليس غير ذلك إلّا الخراب العميم.
عدم الاستقرار الذي يفرضه النزوح والحرب، بالإضافة إلى المستقبل الغائم، أمورٌ تدفع باتجاه خيارات غير مُحكمة أخلاقياً أو غير مُفكَّر بها، فيعود السوري للدفاع عن نفسه وتبرير أفعاله ضمن معطيات لم يطوِّر بعد أدواته للتفاهم معها وإدراكها، وهذا الإدراك هو مسؤوليةٌ مشتركة بين من يعي مدلولات فعل ما ومن لا يعيها. ولعل النقاش الأخلاقي حول مسألة التعفيش يكون محطّ رحال ممكن للحوار، لأن الحوار على خلفية المواقف من النظام في مناطق سيطرته انتهى إلى حين، ولن تزيد العودة إلى ذلك المربع سوى الطين بلة، أمّا الارتكاز على أخلاق جامعة للسوريين تكرّسُ المشترك والأكثر علواً أخلاقياً ضمن الشرط الموضوعي المُعاش، فهو ما يحتاج إلى مثقفين يطورون حسّاً مشتركاً مع باقي السوريين.
تمت سرقة شقاء أعمار سوريين كُثُر، ودُمِّرَ منه الكثير، ولعلّ الاستفادة مما جرى ممكنة على مستويات عدة، على المراقب استبطان أكثرها عضوية والبحث فيها ومحاولة تحويرها إلى ثقافة تستطيع الوصول إلى المعنيين بالتعفيش من متضررين وممارسين، ويمكن أن يكون اتهام النظام بالسرقة، ومن قبل مؤيديه، نقطةَ بدءٍ يجب استغلالها وتطويرها ما أمكن، إذ ليس للسخرية من دنو سقفها أي فائدة بين أهل سوريا اليوم. يكفي أن المواطن غير القادر على شيء اليوم يدرك أن نفط البلد لبشار الأسد، اتصالاته لرامي مخلوف ومعادنه لماهر الأسد، ويكرر معرفته المعاشة ببساطة لن تبقى على حالها في المستقبل.
كؤوس الزجاج القديمة التي لطالما حُفِظَت في الفاترينات من جهاز الأمهات، صحون روميو وجولييت التي هي معلمٌ خاصٌ يشير إلى حقبة عاشها السوريون صاغرين، كلّها أشياء رقيقة قابلة للكسر تُعرَضُ على بسطات في الشوارع، لترسم صورة هشّة وحزينة لنهاية ارتجاج الحرب، وللكيفية التي ستنحفر فيها مجرياتها في ذاكرة السوريين.
المصدر: الجمهورية نت