في القرن المنصرم تبنّت القيادة الأميركيّة سياسة الاحتواء تجاه الكثير من الدول المناوئة لسياستها، وأخذت تقوم بدعم الأنظمة الرأسماليّة والموالية للسياسة الأميركيّة، عن طريق المساعدات الاقتصاديّة والفنّيّة، كما أخذت تحيط الاتّحاد السوفييتيّ بسلسلة من الأحلاف العسكريّة، مثل الناتو ،والسيتو ،وحلف بغداد، وتقف المواقف الصلبة في وجه السياسة السوفيتيّة، كالموقف من حصار برلين، وقد تطوّرت هذه السياسة نفسها على يد جون فوستر دالاس وأصبحت تسمى حافّة الهاوية.
والواقع أن محاربة الشيوعيّة، واحتواء التوسّع السوفييتيّ، استخدما لمحاربة حركة التحرّر في العالم الثالث، وفي الوطن العربيّ استخدم حلف بغداد لمحاربة حركة التحرّر العربيّ، فقامت بتشجيع التحرّش التركيّ بالحكم الوطنيّ في سوريّة (1956-1957)، وبالعمل وفق مبدأ إيزونهاور بعد فشل العدوان الثلاثيّ على مصر عام: 1956 وبإنزال الجيوش الأميركيّة والبريطانيّة في لبنان والأردن، بعد قيام ثورة: 14 تمّوز 1958 في العراق، ارتبطت هذه السياسة ارتباطاً وثيقاً ومباشراً بالحرب الباردة.
يعتبر برنارد لويس هو صاحب نظرية الاحتواء المزدوج التي صدرت بعد حرب الخليج الثانية وقال لويس من خلال نظريته تلك بما أن العراق وإيران قوتان متعاظمتان بالمنطقة لذا على أمريكا أن تستخدم استراتيجية الاحتواء.
“فلسفة نظرية الاحتواء الامريكية”
وتعتمد سياسة الاحتواء المزدوج على اعتماد القوى المستعمرة على تضارب مصالح القوتين الرئيستين في المنطقة، وعداء هاتين القوتين لها ، وتقوم بتغذية هذا التضارب ليصل الى مرحلة الصراع وعندها يتغير جدول العداء لدى القوتين فيصبح العدو الأول في جدول العداء هو القوى الأخرى أما قوى المستعمرة فتصبح العدو الثاني في الجدول، وحين يصل الصراع الى مرحلة خطرة عندها يصبح الحصول على مساعدة العدو الثاني للتخلص من العدو الأول أمرا ضروريا على شرط أن يكون سريا، أو عبر طرف ثالث أو بطريقة غير مباشرة فتساعدها القوى المستعمرة سرا في البداية ثم تقوم بنشر هذه المعلومات بطريقة أو بأخرى دون الإخلال بالاتفاق، الأمر الذي يؤدي الى اشتعال الصراع حيث يظن كلا القوتين (الطرفين)أنه يواجه العدو الأول، (القوة المستعمرة)والعدو الثاني (الطرف الأخر)في آن واحد ولابد من تسخير كل الطاقات والقدرات للفوز بالنصر في المعركة، وتتدخل القوة المستعمرة من حين لأخر إما بنشر أكاذيب او فبركة أخبار أو حتى بالمساعدات الفعلية لإعادة التوازن بين الطرفين حيث إن النصر لإحدى القوتين يعتبر خطاً أحمراً لدى القوة المستعمرة، وبذلك تصبح القوة المستعمرة في وضع قوي ويزداد قوة لا بقوته الذاتية وإنما بضعف القوتين الأخيريتين اللتين استنفذتا طاقاتهما وقدراتهما في مواجهة بعضهما البعض.
“أمثلة تاريخية على تطبيق نظرية الاحتواء في السياسة الأمريكية”
وهذه الاستراتيجية طبقتها أمريكا مع كل من العراق وإيران حيث ان كلا الدولتين تعلنان العداء لأمريكا لكن عندما قامت الثورة الإيرانية(1979) بقيادة الخميني كانت أمريكا بالنسبة للشعب الإيراني هي ”الشيطان الأكبر”، وعندما وقعت الحرب العراقية/الإيرانية خلال عقد الثمانينيات، كانت أمريكا منحازة انحيازًا مباشرًا لصدام حسين في حربه ضد الثورة الإيرانية الوليدة، التي أثارت القلاقل في الشرق الأوسط بأكمله.
كانت إيران في حاجة إلى أسلحة في الحرب التي استنزفتها، وعقدت إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان اتفاقًا مع إيران لتزويدها بالأسلحة التي تحتاجها، وكانت الصفقة سرية للغاية، وتمت اجتماعات الاتفاقية في باريس، وكانت الأسلحة تمر لإيران عبر إسرائيل ،وحسب محللين تسببت هذه الاتفاقية السرية حين أُعلنت في اهتزاز إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان هزة عنيفة .
فقامت أمريكا بمساعدة الدولتين ففي الوقت الذي كان فيه العراق مسيطرا قامت أمريكا بإمداد إيران بقطع غيار لطائراتها أمريكية الصنع سراً و التي نشرت لاحقا في وثائق تسمى إيران –كونترا وفي الوقت الذي كانت فيه إيران مسيطرة ساعدت أمريكا العراق في تصنيع الأسلحة الكيماوية عبر شركات ألمانية وشركات أخرى وقد مهدت زيارات رامسفيلد موظف في البنتاجون آنذاك ووزير الدفاع في عهد بوش الابن لهذه المساعدات وكانت إيران تتهم العراق بأنها مدعومة من أمريكا وكان العراق يتهم إيران بانها مدعومة من أمريكا.
وطبقت هذه الاستراتيجية في العراق بعد غزوه بين السنة والشيعة فدعمت قوى الشيعة للقضاء على المقاومة السنية ثم دعمت قوى سنية لتقليص سطوة الشيعة على الحكم في الصراع وكلا الطرفين يتهم الأخر بالعمالة لأمريكا.
“من الاحتواء المزود إلى الاحتواء المزدوج المركب”
أما بعد الربيع العربي فانتقل التطبيق من الصراع بين الدول إلى الصراع بين القوى النافذة من المعارضة والنظام داخل الدولة الواحدة.
فإن هناك اختلالاً في توازن القوى داخل كل بلد عربي وربما تتطور الاستراتيجية فتصبح استراتيجية احتواء مزدوج مركب أي عملية داخل عملية بحسب بيئة كل بلد فتكون عملية احتواء مزدوج بين القوتين الرئيستين في قوى النظام الجديد داخل عملية الاحتواء المزدوج لقوى النظام الجديد وقوى النظام القديم.
“من الأمثلة على سياسة الاحتواء المزدوج المركب”
فقد نرى صراعات بين الإخوان والسلفيين من جهة، داخل صراع بين إسلاميين وليبراليين، وصراع داخل التيار نفسه بين صقور وحمائم، أو بين محافظين وإصلاحيين ، وكذلك صراع ليبرالي ليبرالي ضمن صراع بين قوى الأنظمة الجديدة وقوى الأنظمة السابقة، بعد أن غيرت جلدها (هذا ما فعلته أمريكا في العراق بين قوى المجتمع العراقي) وبهذا يصبح المجتمع مقسم الى عدة قوى قد يتراوح عددها ما بين 5 إلى 10 قوى وعلى رأس كل قوى قيادة تسعى للوصول للحكم ، ولكن عدد هذه القوى لا يسمح بانفراد احدها بالحكم وبالتالي فإنها تسعى الى التنسيق فيما بينها أو التوافق أو تسعى كل منها الى الحصول على دعم خارجي إما بالمال او بالإعلام أو بأشكال أخرى من الدعم للانتصار على القوى الأخرى في الداخل .
وبمرور الوقت يصبح بعض القوى رهائن لدى أطراف خارجية، سواء كانت قوى استعمارية مباشرة أو عبر ثالث، وتصبح كل قوى تتهم القوى الأخرى بأنها تتلقى دعم خارجي أنها عميلة للقوة الاستعمارية إما مباشرة أو عبر طرف ثالث، وهذه الاتهامات مستندة إلى تصريحات لمسؤول دولة ما أو أخبار منشور في الوكالات الإخبارية وهذه التصريحات والتسريبات مقصودة من القوة الاستعمارية لغرض إشعال الصراع، وهو ضرورة لتنفيذ الاحتواء المزدوج وتتم هذه التسريبات والتصريحات في أوقات معينة لإعادة التوازن بين القوى السياسية حتى لا تسيطر قوة واحدة على البلد أو تختفي قوة من المشهد السياسي وتستنزف طاقات وقدرات البلاد في هذا الصراع.
“سياسة الاحتواء المركب مع الثورة السورية”
كذلك في الثورة السورية تعددت أطراف الصراع، على شكل امتداداتٍ لاستقطابات إقليمية ودولية، من خلال أذرع داخلية تظن نفسها مستقلة سرعان ما تحولت لأذرع وظيفية مدعومة من دول مختلفة في مصالحها ورؤيتها للحل في سورية المستقبل. فتشكل بين الصراع الكبير بين القوى الثورية والنظام صراعات فرعية عبر الأذرع المتعددة الاتجاه. وصراعات أصلية بين الدول الإقليمية الداعمة للأطراف المحلية. وصار لدينا صراعاً على أساس عرقي (عربي_ كردي) وصراع على أساس أيديولوجي (إسلامي _ جيش حر) وصراع مشاريع (اسلامي وطني_ اسلامي عالمي) وصراع طائفي (علوي سني _ سني شيعي)
وهذه الأذرع منها ما هو محسوب على الثورة (جيش حر. الحراك الكردي، الإسلاميون ’ القوى المدنية) وهناك أذرع محسوبة على النظام (الشبحية، حزب الله، المليشيات العراقية، الفيلق الخامس) ومنها ما هو معاد للثورة والنظام افتراضاً (كمشروع وحدات الحماية الكردية الانفصالية Pkk , ومشروع داعش التكفيري العابر للحدود ) و هناك مشروع القاعدة الذي يمارس سياسة الاختباء خلف الثورة و التحالف المرحلي على الانتماء للثورة كمرحلة تكتيكية، وصولا إلى الهدف الاستراتيجي ( الدولة الإسلامية ) . وهذه الأطراف كلها مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر، أو عبر وسيط ثالث بطريقة تحافظ على الجميع وتضمن استمرار الصراع وإنهاك الجميع. فالجيش الحر مثلاً كان مدعوما من غرف الموك التي تشرف عليها الولايات المتحدة الأمريكية، وكان هذه الدعم محدوداً بالأسلحة التي تحقق الاحتواء وتضمن له الصمود والبقاء ولكن لا تحسم المعركة لصالحه، وهذا ما جعل الولايات المتحدة تضع خطاً أحمراً على وصول مضاد الطيران والأسلحة النوعية بحجة عدم وصول السلاح ليد الإرهابين، بينما كان يصل كل أنواع الأسلحة الأخرى ((للإرهابين)) بزعمهم ، حتى أن الولايات المتحدة لم تقبل بنشر منصات صواريخ على الحدود التركية والاردنية لإقامة منطقة أمنة وأصرت أن تكون المناطق المحررة والمدنيين تحت رحمة براميل النظام السوري .
وكان جزء كبيراً من الدعم يصل إلى فصائل صغيرة تؤدي قسم من ريعه للقاعدة وبعلم ومباركة الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت تشكل بمثابة المغذيات لمشروع القاعدة، المشروع الذي كان مبرراً لإعادة تأهيل النظام المجرم، كما كان يشكل خطف الصحفيين ودفع الفدية عبر الوسطاء مورداً هام للقاعدة في سورية.
بالمقابل كانت داعش تجوب عباب الصحراء بأرتالها ولم تكن الأقمار الصناعية الأمريكية التي ترقب النملة، تلحظ ذلك بل إنها ساهمت في اسقاط الموصول لإمداد داعش بمزيد من السلاح والأموال التي استولت عليها من فرق الجيش العراقي التي سقطت بشكل غريب وبدون أي مقاومة تذكر،
كما أن الولايات المتحدة لم تقم بضرب أي من أبار النفظ التي كانت تشكل شريان الحياة لداعش ، ولم تجرم شراء النفط ممن تصفهم بالإرهابيين بل غضت الطرف عن اسواق الاستهلاك للنفط الذي يورد من مناطق سيطرة داعش
وعندما كانت داعش تكتسح الريف الشمالي في حلب كانت طائرات الاستطلاع الأمريكي تراقب المشهد عن كثب وتروج لقوات سورية الديمقراطية ( PYD) بأنها القوة المنظمة القادرة على مواجهة داعش، وأن الجيش الحر غير قادر على هذه المهمة. هنا ابتدعت الولايات المتحدة الأمريكية مشروع البنتاغون لدعم بعض الفصائل من الجيش الحر لمحاربة داعش ولكن كان هذا الدعم تغطية على مشروع أخبث وهو تدفق السلاح على قوات الحماية الكردية (PKK ) بما يكفي لتمويل جيش دولة . كما غضت الولايات المتحدة الطرف عن تدفق المليشيات العراقية والإيرانية وجنود حزب الله، الذي يفترض أنه مصنف كمنظمة إرهابية الى سورية ليشارك في الإعمال القتالية في سورية. وفي الوقت التي كانت تفرض العقوبات على الشركات الأمريكية المتعاملة مع النظام السوري كانت أمريكا تسعى للإفراج عن رؤوس الأموال الإيرانية المحتجزة لديها حيث كانت إيران من أكبر الداعمين الماليين للنظام.
وقد استطاعت الولايات المتحدة أن تمرر الاتفاق النووي مع إيران الذي عقد في العاصمة النمساوية فيينا يوم 14 يوليو/تموز 2015.من خلال الورقة السورية واطلاق يد إيران في سورية، ولقاء الصمت الأمريكي عن الإجرام الايراني في حق الشعب السوري لتعود لاحتواء ايران من جديد في المستنقع السوري.
أما بالنسبة للنظام السوري فبرغم من أنَّ نظام الأسد قد ارتكب مجزرة في أهالي منطقة الغوطة الشرقية والغربية بريف دمشق باستخدامه السلاح الكيماوي(غاز السارين) في أغسطس2013، إلا أنَّ أحدًا لم يتحرك تحركًا عسكريًّا كما كان من المقرر بعد حديث الولايات المتحدة عن تدخل عسكري، وتوافقت الولايات المتحدة وروسيا بالتعاون مع حكومة الأسد على التخلص من السلاح الكيماوي السوري، مقابل عدول الولايات المتحدة عن توجيه ضربات عسكرية للنظام السوري ، وبذلك عادت أمريكا لسياسة الاحتواء المزدوج المركب مع النظام السوري بدلاً من كسر ميزان القوة. وبذلك تضح لدينا خارطة الدعم لجميع الأطراف المتصارعة وكيف يصل لها بالتساوي سواء أكان بالدعم المباشر أو بالإشراف أو عبر وسيط أو بتركه يمر دون منع مع القدرة على منعه، وهذه الخارطة المعقدة من شرايين الدعم هي التي أوصلتنا لهذه الحدود الجغرافية للقوى المتصارعة على الأرض، والتي تظن أنها تعمل في ممرات تقاطع المصالح مع الدول الكبرى، بالوقت التي تدخل هذه القوى في نفق حروب الوكالة والأدوار الوظيفية من حيث تدري أو لا تدري وهي مرهونة لحركة المحور الكبير الذي تلتحق به . وهذه المحاور الكبرى المتمثلة بإيران وتركيا وروسيا والخليج كلها تلتقي عند حدود الاحتواء الأمريكي لمسارات الصراع ، ومن يراقب إعادة تشكل الخارطة الجغرافية في الشمال السوري يدرك تماماً أننا كنا أمام شطرنج سياسي من العيار الخبيث، والذي يريد إعادة تشكيل الخارطة لصالح امتداد اللاعب الداعشي على حساب الجيش الحر، ثم امتداد اللاعب الكردي وانحسار اللاعب الداعشي، ثم انحسار اللاعب الكردي لصالح النظام ، الأمر الذي يفضي إلى شكل جديد لسورية الجديدة. يعبر عن مصالح الدول المتصارعة على سوريا أكثر مما يعبر عن تطلعات الشعب السوري في دولة الحرية والكرامة والمواطنة.
وسيبقى السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح. كيف يمكن لنا الخروج من هذه المصيدة السياسية التي نساق لها في كل مرة عن رضا وطواعية.؟؟ إنها لا شك أن الحل هو مناعة الوطنية السورية التي يتحرك الجميع في فراغها.