الشخص المرتد، لدى معظم فقهاء الدين الإسلامي، هو من يتراجع عن دينه الإسلامي، وفي اللغة يسمى الشخص مرتدًا، إذا رجع/ ارتدّ عن الشيء، فمن ترك الإسلام فهو مرتد.
بقيتُ معتقدًا أن هذا المفهوم خاص بالشريعة الإسلامية حتى بداية الثمانينيات، حين انتقلت إلى دمشق لمتابعة دراستي الجامعية في قسم الفلسفة وعلم الاجتماع، وبالتحديد عندما زودني أحد الأصدقاء بكتاب لينين المعنون: (الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي)، الذي يُعدّ كتابًا تثقيفيًا في أغلب الأحزاب الشيوعية.
أذكر أنني قرأت الكتاب مرتين، في القراءة الأولى تبلورت لدي قناعة بصحة مواقف كاوتسكي (المنتقَد) أكثر من مواقف لينين (الناقد)، حتى إنني طلبت من صديقي تزويدي ببعض كتب كاوتسكي كي أتفهم النقد الموجه إليه من قبل لينين، وكان الجواب عدم توفرها، وفي القراءة الثانية ظلّت لدي القناعات نفسها، ولكن حاولت أن أتفهم مواقف لينين وتمثلها مع أصدقائي، خاصة أنني كنت متحمسًا للاتجاه الماركسي الثوري الجديد، وفي الوقت نفسه تخوفت من وصمي بـ “المرتد” من قبل الأصدقاء، حيث كان يوصم بـ “الكاوتسكي المرتد” كلّ من يخرج عن المنظومة الفكرية الماركسية اللينينية، لدى معظم الشيوعيين في تلك الفترة.
أما كارل كاوتسكي (1854 – 1938)، صاحب وصمة المرتد، الذي يُعدّ المفكر الثالث بعد ماركس وإنجلز، والمعروف بـ “أبو الماركسية”، فقد نعته لينين بالمرتد؛ لأنه اختلف معه في ما يتعلق بمسار ثورة أكتوبر، حيث فضّل كاوتسكي مسار الثورة الديمقراطية، بينما اختار لينين مسار الثورة الاشتراكية عن طريق ديكتاتورية البروليتاريا، وقضى على إمكانية بناء دولة ديمقراطية في روسيا حتى يومنا هذا.
كانت رؤية كاوتسكي في كتابه: (الماركسية والبلشفية) الصادر عام 1934، أن لينين أرسى دكتاتورية جديدة حلت محلّ الديكتاتورية القيصرية من دون وجود القيصر فيها، تفتقر إلى الملامح الديمقراطية، حتى داخل الحزب الشيوعي السوفياتي ذاته، إضافة إلى إنتاج ثقافة استبدادية بعيدة عن الحس النقدي باسم دكتاتورية البروليتارية.
على إثر هذه الآراء، اتُّهم كاوتسكي بالماركسي المرتد والتحريفي، وصار مثالًا لكل من يخرج من الأحزاب الشيوعية، حيث يُنعت بـ “الكاوتسكي الجديد المرتد”. واعتمدت الأحزاب الشيوعية التي تدور في فلك الحزب الشيوعي السوفييتي كتابَ لينين (الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي)، ككتاب تثقيفي لكل المنتسبين الجدد إليها، في بلدان العالم كافة.
هنا لا بدّ من التنبيه إلى أن النتاج النظري الماركسي في أوروبا كان المُبادر الأول في العالم الذي قطع مع النتاج النظري الماركسي التقليدي (لينين، غرامشي، روزا لوكسمبورغ، تروتسكي… الخ) وانتقل إلى متخصصين بالفلسفة والعلوم الاجتماعية أمثال (أدرنوا، ماركوز، ألتو سير، بولا نتزاس، بيير بوردو، يورغن هابرماس… الخ)، من خلال القراءة النقدية لأعمال ماركس، والتخلي عن العديد من المقولات والمصادرات المؤسسة للعقيدة الماركسية اللينينية التقديسية، حيث لم يعد من شأنها بالمقابل إصدار الوصايا وممارسة النبوءة على أحد.
أما بالنسبة إلى معظم الماركسيين العرب، ومنهم السوريون، فلم يقوموا بإعادة النظر في هذه العقيدة إلا إثر انهيار التجربة الاشتراكية اللينينية في التسعينيات، حيث أقام العديد من الباحثين الماركسيين جردة حساب مع الأيديولوجيا الماركسية اللينينية التقديسية، من خلال نشر العديد من الدراسات النقدية متحررين من التحزب التقديسي لها، في محاولة لفهم طبيعة التجربة الفاشلة، إضافة إلى فهم التغيرات الجديدة، متخلين عن المقولات الدعائية التي تعتمد الحتميات التاريخية التي أثبت الواقع عدم صحتها، حيث تبين أن التاريخ يتضمن نصيبًا مهمًا من اللاحتميات، بمعنى آخر: انحازوا إلى ماركسية الاختيار العقلاني.
لكن هذا لم يمنع بقاء رواسب أيديولوجية تعيش في كهوف الماركسية اللينينية أو “الماركسية المُسَفُيتة”، حسب تعبير ياسين الحافظ، حيث استمرت هذه الرواسب باجترار مقولات دعائية تجاوزها الواقع المعاش، يتقوقعون في وهم التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي سابقًا، وكأن شيئًا لم يحدث في العالم؛ إذ يجترون المقولات الماركسية عن الحراك الاجتماعي والسياسي العالمي والأوروبي خاصة في القرن التاسع عشر، واصفين من يختلف عنهم بالمرتدين والخونة، يلاحقون من يتحدث عن الديمقراطية، دولة القانون، الحرية والكرامة، المواطنة وحقوق الإنسان… إلخ، بأحكام مسبقة وجاهزة؛ بأنهم “عملاء الإمبريالية والصهيونية والبرجوازية الأوروبية المتوحشة”، وفي الوقت نفسه يغضون نظرهم عن استبداد النظام السوري، وتدميره المدن السورية، وتهجيره ملايين السوريين إلى الخارج، واعتقاله آلاف المعارضين، فضلًا عن المفقودين وشهداء التعذيب، بل إنهم يتعايشون مع النظام الاستبدادي بمستوى أدنى من العبودية، مؤدّبين في خطابهم اتجاهه، ويرجون إصلاحاته بكل أدب واحترام، بينما تظهر وقاحتهم الثورية في وجه حاملي قيم الليبرالية والديمقراطية والعقلانية ومعارضي الاستبداد والدكتاتورية.
هكذا تلتقي رواسب الأيديولوجيات الكهفية في نعت المختلف عنها بالمرتد والعميل للإمبريالية المتوحشة، الذي يجب ممارسة الحد عليه لخروجه عن نصوصها المقدسة. رواسب أيديولوجية تقوم على أساس أن الماضي هو الأساس، وأن على الحاضر أن يُشاكله، وإذا ابتعد الحاضر عن صورة الماضي؛ صار مرتدًا! ولأن ذلك مستحيل، اتجه أصحاب هذه الرواسب الأيديولوجية إلى ميدان الوعظ والإنشاء، وجنّدوا نضالهم الاستراتيجي فقط على ضرورة سحق أي إمكانية لتبلور الذات الباحثة العقلانية، الذات التي تعتز بفردانيتها الثقافية، وتحترم الغير وتُقرّ بحقه بالاختلاف عنها، أي الفردانية المناقضة للاستبداد والدكتاتورية.
المصدر: جيرون