في محاولة للوقوف مع رأي باحث سوري مهم هو الدكتور مخلص الصيادي، بما يخص الحالة السورية، والمسألة التي باتت تؤرق كل سوري شريف، وتقلق كل صديق حقيقي للشعب السوري، حيث أجاب الدكتور الصيادي عن أسئلة (مصير) في استطلاع للصورة الراهنة للوضع السوري، واستشراف ما يمكن أن تتطور اليه الأوضاع، وهي محاولة جادة ومهمة، لأن تعقيدات هذا الوضع جد معقدة، ومنعرجاته باتت من الصعوبة بمكان، بحيث يتعذر الإمساك بها جميعًا من خلال حوار واحد فقط. وسألناه:
_ما الوضع الراهن لمشهد الصراع في سورية؟ فقال:
“وفق معايير الصراع العسكري فمما لاشك فيه أن النظام حقق تقدما حقيقيا واسع النطاق على مختلف القوى العسكرية المناهضة له، وما كان له أن يفعل ذلك بقوته الذاتية، ولا بقوة الميليشيات الطائفية التي استدعاها من كل مكان في العالم، ولا بقوة إيران التي انخرطت في الصراع إلى جانب النظام بكل قوتها، كل هذه القوى باتت غير ذات شأن قبل شهر سبتمبر ايلول 2015، ففي نهاية هذا الشهر قررت روسيا أن تلكؤها في الدخول العسكري الحاسم إلى جانب النظام السوري يعني سقوطه، فدخلت الى هذا الصراع بقوة غير مسبوقة، وغير متوقعة، وقد غير هذا التدخل موازين القوى كلها، وبدأت قوات النظام وحلفائه يحققون تقدما على الأرض، وكان حسم معركة حلب هو الجائزة الأولى والمؤشر الأوضح في تغيير موازين القوى، ثم كرت المسبحة تدريجيا حتى وصل الوضع إلى ما وصل إليه.
والآن لم يبق على أرض المعركة العسكرية إلا ثلاث مناطق خارج سيطرة قوات النظام المكونة من القوات النظامية، والميليشيات الطائفية وفي مقدمتها ميليشيا حزب الله اللبنانية والميليشيات العراقية الطائفية، وقوات الحرس الثوري الايراني، وكل هذه القوات تحت مظلة القوة الجوية الروسية، وتحت إرشاد وتوجيه القوات الروسية، والعقل السياسي الروسي الذي ينفذ رؤية موسكو لسوريا التي يريد:
المنطقة الأولى: ما هو تحت سيطرة مقاتلي دولة الخلافة الإسلامية في مناطق مختلفة من البوادي السورية. وريف دير الزور الشرقي.
المنطقة الثانية: منطقة واسعة من الجزيرة السورية، ومناطق الثروات السورية الزراعية والنفطية، ومناطق الحدود التركية السورية والتي تعتبر القامشلي، والحسكة والرقة والطبقة أهم مدنها الراهنة، وهذه تحت سيطرة القوات الكردية المحمية بشكل مباشر من قوات أمريكية وفرنسية، ومن طائرات التحالف الدولي.
المنطقة الثالثة: وتضم قطاعات من أرياف حلب، وإدلب وحماة، وهذه يتواجد فيها تجمع من القوى العسكرية السورية غير المنسجمة، لكن وجود الجيش التركي في مناطق واسعة من ريف حلب وإدلب هو الذي حفظ لهذه المنطقة استقرارها الراهن، وقد أضيف إلى هذه القوات مؤخرا تشكيل عسكري سوري عملت تركيا على إنشائه تحت اسم الجيش الوطني السوري، والذي بات يضم حتى الآن 35 ألف عسكري.
وهناك خارج هذا التوزيع مناطق صغيرة تنتشر فيها قوات أمريكية مثل منطقة التنف في جنوب سوريا.
ووفق تقديرات مراكز متابعة متخصصة فإن قوات النظام باتت تسيطر على 58 بالمائة من مساحة سوريا، والقوات الكردية التي تعمل تحت مسمى قوات سوريا الديموقراطية على 25 بالمائة من مساحة سوريا، وقوات المعارضة السورية المسلحة مع القوات التركية على 10 بالمائة، وداعش على 7 بالمائة.
هذا هو المشهد الجغرافي لتوزع القوى العسكرية في سوريا، وهو مشهد يؤكد دون أدنى شك تحقيق النظام وحلفائه لانتصارات على قوى المعارضة المسلحة، لكن …
إلى أي حد يمكن النظر إلى هذه الانتصارات على أنها تمثل خطوة حاسمة على طريق إعادة سوريا: الجغرافيا الطبيعية والسياسية، والشعب، وثروته، إلى سلطة النظام؟
إلى أي حد يمكن اعتبار هذه الانتصارات خطوة تقرب الوصول إلى حل سياسي للمسألة السورية؟
وإلى أي حد يمكن اعتبار ما حققه النظام وحلفاؤه، والتحالف الدولي والقوى المختلفة من انتصارات على داعش يمثل شيئا فارقا في المعركة التي جعلوها تحت شعار محاربة الإرهاب؟” وأردف قائلا ومجيبا ” أعتقد أن تدقيق النظر في المسألة السورية سوف يدلنا على إجابات مختلفة عن تلك التي تستدعيها النظرة المتعجلة. في مارس 2011 كانت بداية الحراك الثوري في سوريا، حراك عجلته أحداث الربيع العربي، لكنها لم تخلقه، ولم تصطنعه، كان الحراك الثوري في مارس تطورا في مستوى الحركة الشعبية المعارضة، وفي مداها، لكن على الطريق نفسه التي قطعها الشعب السوري قبل ذلك، منذ عقدين أو أكثر على حكم بشار الأسد، وتصاعدت مع وصوله إلى السلطة وراثة عن أبيه.
كان الشعب السوري يطالب بالتغيير، بإنهاء الفساد، وبإنهاء الاستبداد، بوقف التمييز والسلوك الطائفي بين مكونات الشعب السوري، باحترام حقوق الانسان السوري، وحين جاء هذا التطور في الحراك الشعبي في مرحلة الربيع العربي رفع الشعارات نفسها، وهي شعارات تقول: نريد سوريا ديموقراطية لكل أهلها، تنعم بالحرية، تملك القدرة على محاربة الفساد، تخضع كل مواطن فيها ابتداء من رئيس الجمهورية للقانون، على قاعدة تساوي الجميع أمامه.
وبقيت هذه الشعارات لأشهر أربعة هي السائدة في الحراك الثوري السوري، لم يرفع سلاح، ولم ترفع راية غير العلم الوطني علم الجمهورية العربية السورية، ولم يستجلب الدين إلى ساحة الصراع.
وكانت المسيرة الشعبية العظيمة في حماة في يوليو من ذلك العام الصورة المثلى لذلك الحراك الثوري. وحتى حينما انشق عسكريون عن الجيش بعد أن رفضوا تنفيذ أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين المدنيين العزل، لم يتغير الحال، ولم يتحول هؤلاء المنشقون إلى تشكيل قوات عسكرية لمواجهة النظام، ولتغييره بالقوة.
لكن النظام واجه كل ذلك بالرصاص والتعذيب والقتل داخل المعتقلات، والتعدي على الأعراض، وأطلق شبيحته دون أي وازع أو قانون أو حدود، فسقط مئات القتلى في الشوارع، واختفى المئات، واعتقل الآلاف.
لقد كان هذا المسلك الذي أقدم عليه النظام هو المدخل الذي فتح أبواب سوريا لتدخل قوى الجوار الاقليمي في وضع سوريا الداخلي، وهي قوى في مجملها لا تريد خيرا لسوريا، إذ كانت حيوية الشعب السوري السياسية، والطبيعة المؤثرة لجغرافيته السياسية تؤرق دائما هذه القوى، وتحرجها، وتمثل تحديا لها. واستعادت قوى الإسلام السياسي وبسرعة فكرة التغيير بالقوة ـ وهي فكرة قد كانت عدلت عنها بعد تجربتها المريرة في الثمانينات.
وفي الوقت نفسه فتح النظام بوابات سجونه ليخرج منها قيادات من تنظيم القاعدة، كانت قد عرفت السلاح وتعرفت على خصائصه وقواعد استخدامه من خلال عملياتها في العراق منذ الغزو الأمريكي له، وحتى إغلاق الحدود السورية بعد أن هدد الأمريكان النظام السوري إذا لم يوقف مرور المقاتلين عبر سوريا إلى العراق.
كان هؤلاء يمرون عبر سوريا، ويتدربون في سوريا، ويعالجون في سوريا، وتمرر إليهم الامكانات من خلال سوريا، وكل ذلك تحت سمع وبصر وتدبير المخابرات السورية. وخلال كل هذه المرحلة الممتدة لسنوات صار للنظام أتباع له من ضمن هذا التنظيم الإسلامي المتشدد وتجلياته، وتجلياته التي صارت تحمل أسماء متعددة.
ومع تقدم الصراع بدا تنظيم القاعدة الممثل في “النصرة”، نموذجا في القتال ضد النظام، نموذجا يستهوي الآخرين، نموذجا في شعاراتها، ونموذجا في جرأتها وبطولاتها، فطغت خلال وقت قصير شعارات الصراع الديني على شعارات الحراك الثوري الوطنية الديموقراطية، ورفع العلم السوري القديم إلى جانب أعلام هذه المنظمات بدل العلم الوطني، علم الجمهورية العربية السورية، بزعم أن هذا هو علم النظام، وليس هذا صحيحا، فإن هذا العلم هو علم الجمهورية العربية المتحدة.
وفي هذا المسار تحركت القوى الانفصالية الكردية متطلعة لاقتناص الفرصة في تخليق كيان كردي، بالتعاون المباشر والصريح مع الغرب على مختلف دوله وراياته، متخلية عن القوى الوطنية التي احتضنتها من خلال هيئة التنسيق.
وظهر جليا المشروع الكردي الخاص، ولأنه لا وجود حقيقي لتميز كردي على الأرض السورية، اعتمدت هذا المشروع على القوة في تحديد ” الأرض الكردية” فصارت الأرض التي تقع تحت سيطرتها هي الأرض الكردية، وبدأت تطلق الأسماء على المدن والبلدات السورية بما يتوافق ومشروعها، وبذلك تكون قد اعتمدت المنهج الصهيوني نفسه الذي يحدد أرض “اسرائيل”، بالأرض الذي يقف عليها “جيش اسرائيل”. وبهذا التحرك باتت وحدة الجغرافيا السورية في مهب الريح، كما هي وحدة الشعب السوري.
وهكذا تم حرف الحراك الثوري للشعب السوري عن مساره، وتم تدريجيا خطف الثورة السورية الوطنية الديموقراطية، وتم تمزيق وحدة الشعب السوري على مذبح الطائفية، وتم تمزيق وحدة الأرض السورية على مذبح العرقية، وفي أتون هذا الوضع تم تشريد الشعب السوري في مختلف أصقاع الأرض، بعد أن دمر وطنه.
وجاءت دول العالم، وقواه المتصارعة إلى الأرض السورية باعتبارها أرض تجارب للإيديولوجيات والأسلحة والمشاريع السياسية. ” وأضاف الصيادي “إذا كان منطق قوى الإسلام السياسي الذي اختصر تدريجيا بمنطق داعش والنصرة، الذي حول الصراع إلى كفر وايمان، والى دولة خلافة ودولة كفر. وطغى وتجبر، وسبى وقتل، تحت هذه الشعارات، يشير إلى تطور خطير في مسار الصراع في سوريا.
وإذا كان منطق القوى العسكرية الكردية الذي قسم الأرض السورية إلى أرض سورية وأخرى كردية، وغير مسميات المدن والبلدات السورية، وبدأ يقيم حواجز، ويفرض ضرائب، وينفذ عمليات تهجير، وتطهير عرقي. يشير إلى تطور خطير آخر في مسار الصراع في سوريا.
فإن المنطق الذي بدأ يصدر عن رأس النظام والقوى الدولية الداعمة له، كان الأخطر من حيث مدلولاته ومآلاته:
فلأول مرة بتنا نسمع جغرافيا عن “سوريا المفيدة”، وذلك في مواجهة ما بدا أنه تقاسم دولي لسوريا، وسوريا المفيدة في عرف النظام تضم: سوريا الساحل، والوسط، ومواقع الثروات.
ولأول مرة بتنا نسمع عن الشعب السوري الذي توفرت فيه بعد تهجير نصفه صفة الانسجام والنقاء فبات شعبا، متوافقا ومتماسكا، وقد سمعنا قبل ذلك من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومرارا من وزير خارجيته سيرجي لافروف عن ضرورة وجود نظام في سوريا “تحمي الأقليات”، وأن لا يكون “للسنة” السيطرة على نظام الحكم.
المفاهيم الثلاثة هذه “سوريا المفيدة” “والشعب المنسجم” و”السلطة الحامية للأقليات”، هي في عمقها مفاهيم عنصرية، فاشية، طائفية، لا يمكن أن تبني مجتمعا ديموقراطيا صحيحا يستطيع أبناؤه التطلع إلى المستقبل باطمئنان وأمان.”. ثم قال ” هذا هو حال سوريا الآن. ولكلِ أن يقرأ هذا الحال وفق ما يراه: انتصارا، أو هزيمة، قربا من أهدافه أو بعدا عنها، لكننا نرى أن ما آل إليه الوضع السوري بات أكثر تعقيدا، وأن مشواره ما زال طويلا، طويلا.
ولا نستطيع أن نرى بداية حقيقية لتكون سوريا على الطريق الصحيح، إلا بما كان مطروحا قبل كل هذا، وهو طي صفحة هذا النظام والعمل على إقامة نظام وطني ديموقراطي يوفر العدالة والحرية والمساواة لكل الشعب السوري وعلى كل الأرض السورية، ويوفر الأرضية الحقيقية لاستعادة لحمة الشعب السوري من خلال عملية واضحة وحقيقية للعدالة الانتقالية التي تملك القدرة على محاسبة القتلة والمجرمين، والتعويض على الضحايا، وتحقق إرادة السوريين في طي هذه الصفحة البغيضة من الحياة السياسية لسوريا.”
وعن أهمية معركة إدلب قال:
” في ظل الوضع الراهن تبدو معركة إدلب معركة مصيرية، وتبدو القوة الرئيسية المختبرة في هذه المعركة هي تركيا، كما يبدو أن الدم السوري هو أكثر الدماء التي ستراق في هذه المعركة. في إدلب التي خرجت مبكرا عن سيطرة النظام، تم ـ بفعل اتفاقات التهدئة التي رعتها روسيا ـ تجميع كل قوى المعارضة المسلحة المهجرة من حمص ودمشق وحلب ودرعا، وما صاحب هؤلاء من مدنيين.
الأمم المتحدة تتحدث عن ثلاثة ملايين ونصف المليون إنسان، وهؤلاء محشورون في منطقة صغيرة المساحة، وجزء مهم من هؤلاء المسلحين المهجرين هم من النصرة، وهو تنظيم يوصف بالإرهابي، أي أن المعركة معه مفتوحة لا تحدها اتفاقات أستانة.
من قبلُ حددت تركيا رؤيتها للحل على هذه الجبهة حينما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: إن الحل في هذه المنطقة يرتبط بعاملين:
إزالة الخطر الكردي عن الحدود السورية التركية. ووجود وضع سياسي في سوريا يأمن له المهجرون، واللاجئون في تركيا، فيعودوا إلى ديارهم.
وعلى أساس رؤية تركيا للوضع في المنطقة وتفاهماتها في استانه، أقامت العديد من النقاط العسكرية داخل هذه المنطقة، بعد أن أطلقت عمليتي “درع الفرات، وغصن الزيتون”، وطردت المقاتلين الأكراد من عفرين ومناطق أخرى، وسيطرت على مدن الباب ومنبج واعزاز وجرابلس وباب السلامة وبلدات كثيرة أخرى غيرها.
مشكلة الموقف التركي أن حدود مناورته ضعيفة بسبب الوضع الاقتصادي والضغط الأمريكي المتزايد على تركيا من جهة، وبسبب تزايد حاجته الاقتصادية والسياسية للتأييد الروسي، هو تأييد لا يمكن الاطمئنان إليه، أو اعتباره تأييدا استراتيجيا، خصوصا وأن البلدين لا يملكان الرؤية نفسها للملف السوري.
ولأن قضية الأكراد بالنسبة لتركيا قضية مصيرية، وقضية أمن قومي يجمع عليها الأتراك، فإن على تركيا أن تخوض هذه المعركة بحسم، وإلى النهاية التي توفر لها بحق أمنها القومي.
في هذا الإطار مفروض على تركيا أن تقوم بتصفية وجود تنظيم النصرة في محافظة إدلب حتى تتحرر من جانب من هذا الضغط، وحتى تمنع روسيا ومن ثم النظام السوري من الاحتجاج بوجود هذا التنظيم للقيام بمهاجمة المحافظة.
وإذ نلاحظ أن الفوارق بين النصرة وداعش فوارق ضعيفة واهية، فإن التعاون بين الطرفين لابد أن يصبح حقيقة قائمة كلما اشتدت المعارك عليهما، من هنا فإن المعركة بين القوات التركية والقوى السورية المتحالفة معها في مواجهة داعش والنصرة أمر لا مفر منه.
لنلاحظ هنا أن الأكراد ومن خلال غطائهم ” قوات سورية الديموقراطية” عرضوا على النظام السوري مشاركته في معركة إدلب، وهم يضغطون من أجل ذلك، وبالطبع فإن عيونهم على استعادة ما خسروه في عفرين وغيرها من مناطق الحدود التي يعتبرونها جزءا من مشروعهم الانفصالي.
من هنا كانت معركة إدلب معركة مصيرية للجانب التركي، وهي معركة مهمة لقوى المعارضة السورية المسلحة، خصوصا بعد أن عملت تركيا على المساعدة في تشكيل الجيش الوطني السوري، هنا يجب القول أن تركيا في المرحلة الماضية لم تستطع أن تقدم شيئا إيجابيا في المساعدة على تكوين معارضة وطنية سورية مسلحة، وتقدير حقيقة الموقف العسكري التركي في تلك المرحلة يحتاج إلى دراسة مدققة وموثقة، تكشف لنا طبيعة تلك المواقف ودوافعها، وصلتها بالقيادة السياسية التركية، وتأثرها بالوهم الذي سوقته قوى الإسلام السياسي السورية في ذلك الوقت عن قدرتها على حسم الصراع وإمكاناتها في السيطرة على الساحة السورية.
مهم لتركيا قبل أن يكون مهم لسوريا أن يكون موقفها واضحا وحاسما إزاء إدلب، وأن تملك القدرة على إنفاذ رؤيتها الأصلية بشأن سوريا، المبنية على النفي البات لوجود اي مطامح لها في الأرض السورية، وهي الرؤية القائمة على العنصرين اللذين حددهما أردوغان وهما، إنهاء الوجود العسكري الانفصالي للأكراد على طول الحدود التركية مع سوريا، وتوفر حل سياسي في دمشق تتولد معه طمأنينة كافية تدفع اللاجئين السوريين إلى العودة الى بلدهم.”
ويبقى السؤال: هل أجهض الربيع العربي؟
” نعم أجهض الربيع العربي، تمكنت القوى الخارجية متعاونة مع النظام العربي الرجعي وقوى الاسلام السياسي أن تجهض هذا الربيع، بعد أم لم يجد هذا الربيع قيادات وطنية وقوى سياسية قادرة على حمل أعبائه وتوفير متطلبات نجاحه.
ولم يكن هذا الربيع في حقيقته، وأفقه غير حلم بحياة ديموقراطية حقيقية، تسود فيه إرادة الناس، ويعود خير الوطن لأهل هذا الوطن دون تمييز، ويملك الوطن وأبناؤه إرادتهم الحرة المستقلة لا يعيقها عائق، وتسترد الأمة كلها حقوقها المادية والثقافية والروحية، وتعيش هي، كما تريد هي، وبما ينسجم مع مسارها التاريخي الطبيعي.
نعم تم اجهاض هذا، أو لنقل، تم مرحليا إجهاض هذا الحلم والتطلع، ودفع الانسان العربي والوطن العربي ثمنا باهظا وغير مسبوق، وجنى ثمارا مرة جدا، تمثلت في تمزيق وتدمير للأرض، والشعب، والنسيج الاجتماعي، وتهجير من الوطن لم يسبق له مثال، وظهر واضحا أن كل القوى العالمية التي لها مصالح في وطننا، وكل المكونات والبنى والايديولوجيات التي تعيش على حالة الضعف التي كنا نعيشها، أرادت أن تجعل مواجهتها لهذا الربيع معركة حاسمة ونهائية، لذلك فعلت ما فعلت:
الناتو في ليبيا. وإيران وروسيا وأمريكا في سوريا. وإيران ودول عديدة جدا في اليمن.
وفي مصر وتونس والعراق تتداخل المصالح والقوى، وأساليب التدمير والتخريب، يريدون أن يقضوا على هذا التطلع نهائيا، ويدمروا ويفتتوا قواه.
ما من ظاهرة راهنة تقول إنهم فشلوا، بل على العكس، بل كل ما نرصده يقول إنهم نجحوا.
لكن تجارب تاريخنا الطويل يميل إلى ترجيح انتصار الإرادة الشعبية وانتصار سنن الاجتماع الإنساني على ظواهر الهزيمة العابرة، لذلك أظن أن هزيمة الربيع العربي الحقيقية الراهنة، لن تلبث أن تتحول إلى خميرة في عقل وضمير هذه الأمة وشعوبها، لتصنع حراكا قادما تنتصر فيه هذه الإرادة، ويزهر فيه مرة أخرى هذا الحلم.”
ومن يتحمل مسؤولية هذه الهزيمة؟
” ليست القضية من يتحمل مسؤولية ما آل إليه الربيع العربي، لسنا في موضع الحديث عن المسؤوليات، فكل من وُجد في هذه المرحلة يتحمل جزءا من مسؤوليتها، وكل من ملك القدرة على فعل، ولم يفعل، يتحمل جزءا من هذه المسؤولية. ولا شك بأن تجريف الحياة السياسية في سوريا وليبيا واليمن وغيرها من الأقاليم العربية على مدى أربعة عقود كان سببا في هزال الحياة السياسية في هذه البلدان، وفي تجفيف منابع الحياة السياسية، وفي اشغال المواطن بلقمة العيش، وبإرهاب السلطة عن الاهتمام بمسار الوطن كله، وبالتساؤل عن الاتجاه الذي يدفع الوطن اليه.
ولا شك أن في بنية الأحزاب السياسية العربية في مختلف هذه الأقاليم، ومن مختلف اتجاهاتها عيب شديد أعاقها عن تطوير نفسها واستعادت صلاتها بجماهيرها التي انقطعت عنها لفترة طويلة، وعن القيام بعملية نقد حقيقية لمسارها وشعاراتها وتجاربها.
ولا شك أن قوى الإسلام السياسي وفي مقدمتها “الاخوان المسلمون”، كانت كلما تقدمت في الزمن تراجعت عندها روح النقد والتطور، ولم تستطع في معظم الأحيان أن تغادر نقاط ضعفها القديمة، ولا خطاياها الجلية، غير مدركة أنها بذلك تهمل ما يوجبه تقدم الزمن والتجربة الانسانية من مراجعة ونقد، وبالتالي فإنها بهذا القصور زادت من مخاطر نقاط الضعف تلك على بنيتها وقدرتها في التفاعل مع المستجدات والتحديات التي تواجهها.
ولا شك أن إغماضنا (نحن) الطرف عن الطائفية التي تسللت مبكرا إلى الحياة السياسية في سوريا، بدعوى أننا وطنيون وقوميون، وأنه من غير الجائز الانحدار إلى مستوى الحديث الطائفي كان خطأ فادحا سمح بنمو الطائفية الى درجة باتت الوحش الذي يهدد الحياة السياسية الوطنية كلها، والجرثومية التي تنمي معها كل عوامل الانقسام الداخلي، والإغواء الذي كاد ان يستجر إليه كل الأقليات الطائفية والدينية والعرقية التي يذخر بها الوطن السوري.
وجاء هذا الخطأ بسبب عدم التفريق بين رؤية الطائفية وبين التحول إلى الطائفية، بين رؤية المرض وتشريحه وعلاجه، وبين أن يصيبنا هذا المرض فنصبح أسرى له.
الكل يتحمل المسؤولية، والكل هنا لا تشمل القوى الطائفية، ولا تشمل القوى ذات الايديولوجيا السياسية الدينية، ولا تشمل القوى العنصرية، فكل هؤلاء فيما قاموا فيه كانوا ينتصرون لما هم مؤمنون به. عند هؤلاء لا يعني شيئا خسارة جزء من الوطن، لأنهم لا يؤمنون بوجود هذا الوطن بعينه، ولا يؤمنون بخطأ وخطيئة تجزئة الشعب، وتهجيره، لأنهم يعتقدون أنهم بذلك يصنعون شعبا نقيا، متماسكا شديد الصفاء، ولا يؤمنون بقيم إنسانية عامة يجب التقيد بها في كل صراع، لأن الآخرين عند هؤلاء إما كفرة وإما خونة، وإما همج، وفي كل هذه الأحوال فالتخلص منهم انجاز يجب الفخر به.
من يتحمل المسؤولية هم فقط أولئك الذين يلتزمون الموقف الوطني، أفرادا وقوى سياسية، ويتطلعون إلى سوريا، وطنا ديموقراطيا حرا مستقلا، لكل أبنائه ولكل مكوناته، يمثل جزءاً من أمته العربية، وجزءاً من محيطه الإقليمي، وجزءاً من عالم يقوم على تعدد إرادات شعوبه، وتناغم مصالحها، وتعاونها على حماية الأمن والسلام، والبيئة الصالحة لحياة البشرية كلها.
فقط هؤلاء هم من يتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأمور، مسؤولية فشل الربيع العربي، وما استجره هذا الفشل، بتقصيرهم عن توفير شروط نجاح هذا الحراك الثوري قبل أن يبدأ، وتوفير شروط نجاحه بعد أن انطلق، كما يتحملون مسؤولية مستقبلية في توفير شروط الخروج من هذا الوضع.”