التعذيب في سورية لم يُكشَف عن كلّ أسراره وتفاصيله. تعذيب ما أشبهه بما كان يحدث في القرون الوسطى، كما تكتب افتتاحية صحيفة “ليبراسيون”، والتي ترى أن بشار الأسد “لا يمكن أن يَحْمِل، دونما محاسبة، اسم (جزار دمشق)”. وهذا ما يكشف بعضَ فصوله أستاذ الفنون الجميلة السابق في الجامعة السورية، نجاح البقاعي، الذي قضى أوقاتاً فظيعة في سجون الأسد، “مقبرة آلاف من الأبرياء”.
ووجد البقاعي نفسه، وهو يُخرج الجثث من السجن إلى شاحنة صغيرة، “جثث عارية وهزيلة وعليها آثار تعذيب”. جثث توضع أرقام على جباهها، بعضها أُحضر من مراكز اعتقال أخرى في دمشق، وبعضها جثث عسكريين بلباسهم وعليهم آثار جروح بالرصاص “عسكريون حاولوا الهرب أو لجأوا للعصيان”.
جثث من مراكز مختلفة تُحمَل إلى جهة مجهولة، نحو قبور جماعية حول دمشق.
ويتذكر البقاعي رقم 5875، باعتباره آخر سجين حمله إلى الشاحنة.
بعد سبعين يوماً من اعتقاله، ورغم تهمة “الإرهاب”، تم تحويله إلى سجن عدرا، حيث يتواجد مُجرمون وسجناء حق عام، وهناك توقف التعذيب، واستطاع شراء الطعام واستقبال الزوار، بفضل تدخل زوجته التي استطاعت تجميع مبلغ 18 ألف يورو، عن طريق بيع سيارتها والاستعانة بأشقاء زوجها في الخارج، تلقّى أحد القضاة منها مبلغ 6000 يورو حتى يقوم بمسح اسم زوجها من السجلات.
وفي 16 يوليو/تموز 2015، أطلق سراحه فاستطاع اجتياز الحدود اللبنانية. وبعد شهر منحته فرنسا اللجوء السياسي.
ثم يعود نجاح البقاعي إلى “الفرع 227” وهذه المرة يُسجن في الطابق الأرضي، حيث يَلج ضوءُ النهار، ومساحة الزنزانة 56 متراً مربعاً، لأكثر من 120 سجيناً.
ويتحدث عن ظروف بالغة القسوة، حيث “السجناء من الفتيان القاصرين، ما بين 12 و14 سنة، وقد رأى موتَ فتيين أو ثلاثة فتيان، بعينيه، تحت التعذيب، باستخدام “التعذيب بالكرسي الألماني”، ثم وضعت جثثهم في ركن الزنزانة بالقرب من دورة المياه. ويعترف البقاعي أنه شهد موت 12 سجيناً، ومن بينهم محام نشأ بينهما نوع من التعاطف، قبل أن يَقضي بسبب الإسهال.
وفي كل سجن جلاّد، ويتذكر البقاعي اسم باسل، الذي كان يخنق السجناء بيديه، وكان يفعلها أمام الجميع، حرّاساً وسجناء.
الكثيرون تحدثوا عن سجون الأسد وفظاعات التعذيب الذي انتهى بمجازر يصعب وصفها، وأحيانا تصديقها، ولكن شهادة نجاح البقاعي، تكتسي أهمية استثنائية، فهذا الشخص “ليس ناشطاً إسلامياً”، كما أنه “لم يشارك في التمرد العسكري”. واستطاع بريشته أن يعبّر عن حجم الجريمة الأسدية، وأيضاً معاناة وصمود الآلاف من السجناء الأبرياء، الذين اعتقلتهم الماكينة البوليسية والاستخباراتية الأسدية، قبل أن تقوم بتصفية الكثيرين منهم.
الرسومُ معبِّرةٌ، وأحياناً يصعب على المرء أن يتحملها، ولكنها شهادة تضاهي شهادات الأسرى الشفهية، إن لم تكن تفوقها أحياناً تعبيريّةً. رسوم تمثل “ممرّاً سردابياً عُلّق فيه سجناء، ويقوم جلاّد بضربهم بأنبوب نحاسي..”، وأخرى تمثل “سجيناً يتعرض للتعذيب في فناء المؤسَّسَة السجنية في ضاحية دمشق، سنة 2014 “. ومن بين هذه الرسوم/الشهادة رسم عضو في الاستخبارات العسكرية، في “الفرع 227” وهو يعذّب سجيناً بطريقة “الكرسي الألماني”. ورسم آخر يكشف طريقة التعذيب التي يقوم بها أفراد الاستخبارات العسكرية عبر تقنية “السجاد الطائر”. ومن بين الرسوم، أخرى مأوساوية، كما هو حال رسم “سجناء في مدخل الفرع 227 وهم يشحنون شاحنة بجثث رفاقهم في الزنزانة، الذين تحدث النظام عن وفاتهم بسبب سكتة قلبية”.
اعترف البقاعي بأنه شارك مع انطلاق ربيع 2011، في بعض التظاهرات في الغوطة الشرقية، فتم إيقافه، بعد وشاية، في يوليو/تموز 2012، وهذا يحدث لأول مرة. وتم إرساله إلى “الفرع 227″، الذي تديره الاستخبارات العسكرية. وهنا وُضع مع 70 معتقلاً في زنزانة، تحت الأرض، من 15 متراً مربعاً. وتعرض لشتى أنواع التعذيب. وبعد شهر أطلق سراحه، بعد أن فقد 15 كيلوغراماً وبعد أن دفعت زوجته، مدرسة الفرنسية، ما يعادل 1200 يورو، دون أن يعني ذلك أنه قضى فترة عقوبته. وبعدها تبدأ مرحلة الاختفاء. وفي سبتمبر/أيلول 2014، يحاول العبور إلى لبنان، بعد أن دفع 100 ألف ليرة سورية حتى يمسح اسمه من سجلات الأشخاص المبحوث عنهم. ثم يتم إيقافه، ثانية، على الحدود.
ترفض الصحافيّة ألكسندرا شوارتزبرود في افتتاحيتها في صحيفة “ليبراسيون”، مستعينة بشهادة نجاح البقاعي الحية والعميقة، التفسيرات التي يقدمها نظام الأسد لموت السجناء السوريين، على اعتبار تعرّضهم لأزمات قلبية أو قصور الجهاز التنفسي.
وقد باشر النظام السوري قبل بضعة أسابيع، نشر قوائم الحالة المدنية. وهو لا يكلف نفسه عناء إخبار المواطنين بمصير أهاليهم في السجون، ويمنح من يتقدم منهم للبحث عن أقاربه شهادة وفاة، من مكتب الأمن القومي، الذي يديره علي مملوك (المتعلق بشكل مباشر بالرئاسة السورية)، إما بسبب أزمة قلبية أو قصور في الجهاز التنفسي، وأحياناً تتحدث الشهادة عن تنفيذ الإعدام بعد قرار محكمة عسكرية، لا مكان فيها للمحامين. ولا يُسلَّم الجثمان ولا يُعرَف مكان الدفن.
وهذه المواقف دفعت نديم حوري، مدير برنامج الإرهاب ومكافحة الإرهاب في منظمة “هيومان رايتس واتش”، للحديث عن “بيروقراطية الموت”.
الجميع يتحدث عن العدد الكبير من الضحايا، وبينهم نساء وأطفال وشيوخ، ولكن لا أحد يمتلك الأرقام الحقيقية، فحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، اعتقل نحو 118 ألف شخص، ما بين سنتي 2011 و2018، أغلبيتهم من قبل النظام السوري، 87 في المائة، (أي 105 آلاف شخص) قضوا بسبب سوء المعاملة أو غياب العلاج أو اللجوء، بشكل منتظم، إلى التعذيب.
وقد تحدثت منظمات إنسانية، من بينها “أمنستي”، عن سجن صيدنايا باعتباره “مسلخاً بشرياً”، مقدّمةً رقم 5000 من الذين تمّ شنقهم فيه، ما بين 2011 و2015.
الكثيرون يتحدثون عن ارتكاب نظام بشار الأسد، الذي لم يعترف بمعاهدة روما، لـ”جرائم ضد الإنسانية” ولكن المحكمة الجنائية الدولية لا يمكن لها أن تتحرك بسبب الفيتو الروسي والصيني، اللذان يجمّدان أي محاولة لإنشاء محكمة خاصة حول سورية.
ثمة بعض الأمل المنبعث من بعض المحاكم الوطنية في بلدان أوروبية، كما هو حال النيابة الفدرالية الألمانية، التي أصدرت مذكرة توقيف ضد جميل حسن، رئيس الاستخبارات الجوية السورية، بعد تسريبات “قيصر” لنحو 27 ألف صورة مسربة عن التعذيب في سورية. كما أن القضاء الفرنسي يلاحق جميل حسن، بعد شكوى تقدَّم بها عبيدة دباغ بسبب اختفاء شقيقه مازن ونجل شقيقه، باتريك.
وإذا كان النظام السوري التزم الصمت خلال فترة طويلة، بخصوص اختفاء مازن وباتريك، فقد اعترف قبل أيام، بموت مازن في الاعتقال، يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 2017، في حين اعترف بوفاة باتريك، يوم 21 يناير/كانون الثاني 2014، والضحيتان قضتا، معاً، بسبب سكتة قلبية. وهو ما يدفع المحامية كليمانس بكتارت، عن الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، لإبداء بعض التفاؤل: “من الآن فصاعداً لدينا الدليل القاطع على أن النظام كان يحتجز مازن وباتريك، وأنهما ماتا أثناء الاعتقال. والنظام هو من منحنا هذا الدليل”.
وتختم ألكسندرا شوارتزبرود في افتتاحيتها بأنه “إذا كنا عاجزين عن فعل شيء إزاء هؤلاء الضحايا، فلا يزال لدينا الوقتُ كي نحاول إنقاذ من لا يزالون سجناء”. وهذا التفاؤل هو الذي يحمله الفنان نجاح البقاعي، وهو الذي ألهمه رُسومَه الناطقة، حتى تتوقف “مجازر الأسد” و”مسالخه البشرية” و”دولته البوليسية”.
المصدر: العربي الجديد