بينما ينشغل العالم بالتطورات المرتقبة في إدلب، يمر تطور لافت في القامشلي، يوحي بأن الأمريكيين، يبثون الحياة في دورهم المتضائل، بسوريا.
بالنسبة للأمريكيين، تبدو إدلب ملفاً هامشياً، إلى حدٍ ما، ما دام الروس والإيرانيون، سيتقيدون بالخطوط الحمراء التي حددتها واشنطن هناك، وأبرزها، عدم استخدام الأسلحة الكيميائية، وعدم التسبب بخسائر بشرية كبيرة أو موجة نزوح هائلة. لكن، لا يمنع ذلك من استغلال الخلاف التركي – الروسي، بسبب ملف إدلب المعقّد. فتنفيذ عملية جراحية في إدلب، دون كسر الخطوط الحمراء الأمريكية، ليس بالأمر السهل، إلا بتفاهم تركي – روسي، ما يزال متعذراً، حسبما يظهر، حتى الآن. إلا أن ذلك لا ينفي أن واشنطن تريد في إدلب، فقط، تجنب “الأعراض الجانبية” للصراع في سوريا، حسب التعبير الذي استخدمه جيمس جيفري، في إحدى مقالاته، قبل تعيينه مبعوثاً خاصاً لسوريا.
الصوت المرتفع للأمريكيين والأوروبيين، بالتحذير من كارثة في إدلب، يُراد به تحديداً، تجنب عارضين جانبيين للصراع في سوريا، هما، الأسلحة الكيميائية واللاجئين. والأمريكيون يعتقدون، حسب معلومات لديهم، أن الأسد في وارد استخدام الأسلحة الكيميائية، في إدلب، بالفعل. لذلك، فإن التحذيرات الغربية كانت شديدة اللهجة، على أمل ألا يقدم الأسد، بغطاء روسي، على تنفيذ استفزاز جديد، للغرب. لكن حتى لو حصل ذلك، فإن الأمريكيين، سيقدمون برفقة حلفائهم من الأوروبيين، على توجيه ضربات عسكرية، قد تكون أقسى من تلك الأخيرة، في نيسان الفائت. لكنها لن تكون نوعية، بحيث تغيّر موازين القوى على الساحة السورية.
ويبدو أن التحذيرات الغربية أثمرت. فالروس يتعاملون مع ملف إدلب، بحرص شديد، بدافعٍ من خشيتهم خسارة التعاون التركي على الساحة السورية. بل أبعد من ذلك، قد تخسر روسيا، تركيا، كصديق، تماماً، ليعود الأتراك إلى البيدق الغربي، مجدداً، وسط ترحيب أمريكي، بذلك. هذا السيناريو، تخشاه موسكو، لذلك، رغم ما ظهر في قمة طهران، من استقواء روسي – إيراني على الأتراك، إلا أن المشاورات الروسية – التركية، بخصوص تسوية وسط، في إدلب، تجري على قدمٍ وساق.
وبعيداً عن إدلب، في القامشلي تحديداً، يبدو وكأن الفعل الأمريكي يظهر جلياً. ففيما كان الصوت الأمريكي مرتفعاً، دون فعلٍ في إدلب، كان الأمر مختلفاً في القامشلي. إذ يظهر للمراقب من بعيد، وكأن واشنطن أوعزت لحليفها الكردي، أن ينقلب على مساره التفاوضي مع النظام. مسار تفاوضي كان قد كُلل بجولتين ناجحتين، قبل أن يقفز المشهد بعيداً عن طاولات السياسة، إلى ساحات الميدان، ويحصل تحرش من جانب قوى أمن النظام، ترد عليه قوى أمن كردية، باشتباك، سقط جراءه قتلى من الطرفين.
سبق ذلك، حسب نشطاء مطلعين، قيام “الأسايش”، الجهاز الأمني التابع لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، بحملة أمنية ضد مرشحي انتخابات الإدارة المحلية، أجبرهم فيها على كتابة تعهدات بسحب ترشيحهم. هذا التحرك، يأتي كانقلاب على تفاهمات عقدها النظام مع الأكراد في جولتي مفاوضات دمشق، في تموز الفائت، والتي قضت بالسماح بإجراء الانتخابات المحلية التي يديرها النظام، في مناطق سيطرة الأكراد، في منتصف الشهر الجاري. ما سبق لا يمكن تفسيره إلا بأنه توجيه أمريكي، بلجم المسار التفاوضي مع النظام.
اشتباك القامشلي، وما سبقه من انقلاب على إنجازات المسار التفاوضي بين الأكراد والنظام السوري، تعبير عن تحول جزئي في السياسة الأمريكية بسوريا. فـ جيمس جيفري، أكد بصراحة، بعيد تسلمه موقعه، بأن الولايات المتحدة الأمريكية، لن تنسحب قريباً من شمال شرق سوريا. هذا ما أغضب الروس، وليس التهديدات الأمريكية بخصوص إدلب. فشمال شرق سوريا، الغني بالنفط، وذو الموقع الاستراتيجي، هو بيضة قبان السيطرة على سوريا. ويبدو أن الروس كانوا قد ذهبوا بعيداً في رهانهم على انسحاب أمريكي قريب من تلك المنطقة، بناء على حديث ترامب عن ذلك، وبناء على الخط العام في أوساط النخبة الأمريكية، بواشنطن، غير المرحبة بتورط أمريكي طويل الأمد في سوريا. وقرأت روسيا لاحقاً، تحرك الاتحاد الديمقراطي الكردي باتجاه التفاوض مع النظام في دمشق، على أنه تأكيد لوجود نية أمريكية بالانسحاب من شرق الفرات. لكن، سرعان ما انهارت الرهانات الروسية، على وقع تعزيز نفوذ الصقور في إدارة ترامب. إذ يعد جيمس جيفري، من الصقور في نظرته حيال روسيا وإيران. وتحديداً، حيال إيران، التي خبر نشاطها الميليشياوي، في العراق، حينما كان سفيراً لبلاده في بغداد.
ما سبق، لا يعني وجود تغيير نوعي في الاستراتيجية الأمريكية في سوريا. لا نيّة لدى الأمريكيين بالمزيد من الانغماس في سوريا. سيلعبون فقط دور المعرقل لإعادة تأهيل نظام الأسد، في ظل الهيمنة الروسية – الإيرانية في دمشق، وذلك عبر الاحتفاظ بالثلث الغني من سوريا، في قبضتهم، ورفضهم إطلاق عملية إعادة إعمار في البلاد، قبل تسوية سياسية.
وفيما يبدو أن الأمريكيين سيتركون إدلب لمصيرها، الذي سيُحدد في أروقة الكواليس الروسية – التركية، سيرتفع رهانهم من جديد، على شرق الفرات. خاصة بعد أن تعهدت دول حليفة بدفع جانبٍ كبير من التكاليف المالية هناك. فـ إدارة ترامب، لا تريد أن تصرف المال، لكنها مستعدة للتلويح بوجودها المعطّل لأي خاتمة للصراع بسوريا، لا ترضيها، عبر 2200 جندي فقط، على التراب السوري.
في هذه الأثناء، تظهر نظريات عديدة، حول الخطوة المقبلة من جانب روسيا وإيران، ونظام الأسد، في مواجهة البقاء الأمريكي. إحدى هذه النظريات تتحدث عن تنظيمات ستظهر من العدم، وترفع شعار مقاومة “المحتل الأمريكي”، وتنفذ حرب عصابات تستهدف مناطق السيطرة الأمريكية، شرق الفرات. لذلك يبدو في الفترة القادمة، أن الطحين سيكون في القامشلي ومحيطها الجغرافي، في شرق الفرات. أما في إدلب، فتبدو التصريحات الأمريكية، مجرد جعجعة، لا أكثر.
المصدر: المدن