كان تغييب الشعوب العربية عن الشأن العام، وعن النشاط السياسي بصورة خاصة، مما سعت إليه الأنظمة العربية، واستخدمت وسائل قمعية متعددة، لمنع أية محاولة أو مبادرة سياسية ذات مضمون وطني ديمقراطي، وترهيب ومعاقبة من يفكر الخوض في غمار العمل السياسي من خارج صندوق السلطة ومؤسساتها الفاسدة. بعد عقود طويلة من تصلّب هذه المعادلة، ومع فشل تلك الأنظمة في بناء دول وطنية حديثة، فتحت الثورات والانتفاضات العربية التي اندلعت في بدايات الألفية الثانية، أفقاً جديداً أمام عودة السياسة إلى المجتمعات العربية، التي أُقصيت عن ممارستها في حقبة الاستبداد. هذا ما تبدى سانحة تاريخية فارقة في دول الربيع العربي على وجه التحديد، حيث انخرط جيل الشباب بأشكال فاعلة في تحدي الأنظمة المُستبدة في تلك الدول، وتشكيل هياكل مدنية تحمل مطالب سياسية واضحة لتغيير الأوضاع السائدة. في هذا المناخ المفتوح على مشاريع ورؤى سياسية، في سياق الكفاح الشعبي لإسقاط الأنظمة، وبناء الدول الوطنية الديمقراطية بديلاً عنها، وجدت قوى الإسلام السياسي في تلك الدول، وهي الأكثر تنظيماً وخبرةً في تعبئة الشارع، عن غيرها من القوى والتيارات اليسارية والقومية، أنها أمام فرصة حقيقية لتولي زمام عملية التغيير، من منظورها الفكري ذات المرجعية الدينية، ومن دوافعها ومصالحها الحزبية الخاصة، لتكون بديلاً حصرياً عن الأنظمة السلطوية السائدة. بالمقابل أدى ضعف القوى والتيارات الوطنية الديمقراطية، وطغيان سردية (السلطة في مواجهة قوى الإسلام السياسي) إلى كثير من الالتباس حول أطروحة التغيير، واستغلال الثورات المضادة لمشروع أو مشاريع الإسلام السياسي؛ بهدف تشويه الطابع التحرري للثورات العربية. كانت التجربة السورية لاسيما بعد أسلمة وعسكرة الثورة، المثال الأبرز والصارخ على تلك المحاولات الرامية لإعاقة وعرقلة مسارات التغيير في البلدان العربية.
التذكير بهذه الوقائع يكشف عن الانتكاسة، التي أدت إلى إزاحة المجتمعات العربية في زمن الثورات عن السياسة مجدداً، ولكن هذه المرة بأساليب وأشكال متعددة ومختلفة. من أهمها تخويف تلك المجتمعات من البديل الإسلامي ( الفزاعة ) وتدويل وأقلمه الصراع مع الاستبداد، وإدراجه في نطاق الصراعات والحروب الأهلية، لاسيما بعد ظهور قوى التطرف (القاعدة وداعش) فضلاً عن إتباع سياسات احتواء وتوظيف لقوى وتشكيلات المُعارضة، من” الدول الداعمة و الممولة لها “بحيث تتحول قضية التغيير في العالم العربي، إلى مشكلات وتسويات دولية وإقليمية، على حساب حقوق الشعوب وتطلعاتها إلى نيل الحرية والكرامة.
إذاً وبدلاً من عودة السياسة في زمن الثورات، كرؤية ومشروع للتغيير، وأطر سياسية تجسد مضامينه التحررية، شهدنا نكوص وتراجع للسياسة وتعبيراتها الحركية، خلافاً لمقتضيات مرحلة التغيير وشروط نجاحها في الواقع العربي. أكثر من ذلك أصبحنا أمام تحديات ذات طابع مصيري، بفعل ضراوة الصراعات التي تدور في العديد من الدول العربية، فلم يعد الأمر مقتصراً على قطبي الصراع الأساسيين وهما السلطات المُستبدة والشعوب الثائرة عليها، بل أن سياسات التدخل والهيمنة الخارجية على المنطقة، باتت عقبة كبيرة أمام إنجاز تحرر حقيقي، طالما أن استقلال الإرادة الوطنية، شرط جوهري ليتحقق تحررنا الوطني فعلياً.
في مثل هذه الأوضاع والتحديات الصعبة والمعقدة، يغدو البحث في أزمة السياسة وحواملها الوطنية، مهمة واجبة لا يحتمل التعامل معها، استدعاء ذات أنماط التفكير والأداء، التي حكمت المعارضات التقليدية في كفاحها ضد الأنظمة. فالمحصلات الأولية خلال حقبة الثورات العربية، تلفت أنظارنا وعقولنا بشدة، إلى التفكير ملياً بمحنة السياسة، وتناول كافة الأسباب المؤسسة لها، وهذا يتطلب بكل شجاعة نقدية، السبر في أغوار بنية العقل العربي، والمعضلات الفكرية التي لاتزال تدفع بها، نحو مشاريع ماضويّة لمعالجة مشكلات الواقع الراهن. وتناول ما تداعى عن أزمة تشكل الهويات الوطنية وتحديداً بعد عهود الاستقلال الوطني، من صعود قوى الاستبداد وسيطرتها على الدولة والمجتمع. إذ أن تفكيك عقلية التسلط بأشكالها السياسية والدينية والمذهبية والطائفية، تتطلب بناء نموذج وطني ديمقراطي، يقوم على فكر وثقافة التحرر والبناء، ومثل هذه العملية التاريخية تحتاج إلى حوامل سياسية من لُدنها. تمتلك قراءة واعية لشروط التغيير على الصعيدين الذاتي والموضوعي، وتحمل مشروعاً سياسياً قادراً على استقطاب واستيعاب الأصوات الوطنية الديمقراطية. بقدر ما يوفر ذاك المشروع، ظروف وآليات مشاركة الشباب في صوغ هويته الجديدة، يسهم في ردم الفجوة الواسعة والناجمة عن قصور التيارات لوطنية الديمقراطية في تجاربها السابقة، عن توليد بدائل تحررية حقيقية عن أنظمة الاستبداد وامتداداتها السلطوية.
لعلّ المخاوف من فشل مسارات التغيير، بسبب استعصاء تلك المسارات، تدفع اليوم كتل وأصوات عديدة للتفكير والحوار بما يجب القيام به من أفعال ومهام، لإنقاذ أوطاننا مما ألمّ بها من مآسي وكوارث بسبب الاستبداد وسياساته المدمرة، لكن المخاوف لا تكفي لوحدها لبناء أطر وتيارات وطنية فاعلة. إذ أن التصدي لهذه المهمة الكبرى، يبدأ أولاً بفتح ورشات حوار بين كل المتمسكين بالخيار الوطني الديمقراطي، وعلى مساهمتهم في تحديد هويته ومهامه وأهدافه، وإنضاج تصورات واقعية عن ممكنات استنهاضه بعيداً عن منطق الارتجال والشعارات..