بعيداً عن عبارات الإدانة و الاستنكار و الشجب، و توصيفات العمالة التي اعتدناها على الصعيد الرسمي، و السباب و اللعن و الشتم التي كنا نسمعها على المستوى الشعبي فيما مضى، لا يحمل الواقع العربي المأزوم في نسخته الحالية أي طفرة ملفتة، أكان في التآمر على مصائر و تطلعات شعوب الربيع العربي، أم في استرضاء الأنظمة لأميركا عبر التهافت على مبادرات التطبيع المتدرج مع المسؤولين الإسرائيليين. و لا يخرج ما شهدته الساحة الخليجية في الأسبوع الماضي من زيارات و وفود رسمية و رياضية إلى عواصم خليجية عدة عن هذا التوجه السياسي العام لهذه الدول منذ أمد مجهول، حتى بات وسماً لهم.
سلسلة أحداث مكنت بعض العرب كي ينفذوا أوامر من يمد أنظمتهم بضرورات البقاء صاغرين. قد يكون أولها سلام كامب ديفيد و أثره المتجاوز للزمان في زلزلة أسس العمل العربي المشترك و تقويض ركائز الصراع العربي الإسرائيلي، عبر الموجات الارتدادية المستمرة من حينه، و لو أن هذا الأمر بات محل شبهة بعد تكشف الكثير من الحقائق. فإذا أضفنا إليه تقويض التجربة الديمقراطية الأولى في تاريخ مصر و تسليمها للسيسي تكون عملية الإجهاز على دور مصر الريادي قد اكتملت. أما الحدث الثاني فهو القضاء على العراق بمقدراته و إنهاء دوره و تهديده، و من ثم تسليمه إلى إيران، شرطي أميركا في المنطقة، و أزلامها. و يأتي الحدث الثالث، و هو إنهاك سورية تماماً و إخراجها من حسابات التأثير الفعال، و تركها مجرد أطلال للاعتبار، ليكمل صورة الظهور الإسرائيلي الأخير على المنطقة. وعلى الرغم من التباعدات الزمنية بين الأحداث، لكنها كانت مصداقاً لنبوءة بن غوريون الاستراتيجية في سبيل بقاء إسرائيل. والمتصهينون متواجدون في كواليس كل حدث.
لن تخرج زيارة نتنياهو الأخيرة إلى سلطنة عمان عن السياق التاريخي للتواطؤ بين الصهاينة من اليهود، والمتصهينين من العرب. فالتاريخ القريب يحمل في طياته ذكريات زيارات مشابهة قام بها مسؤولون صهاينة لدول خليجية وعربية، فكانت زيارة رابين إلى عمان عام 1994، وزيارة بيريز إلى المغرب عام 1995، و إلى عمان عام 1996، و إلى قطر عام 2007، و اليوم نتنياهو 2018، ناهيك عن زيارات بيغن و بيريز و رابين و باراك و نتنياهو نفسه إلى مصر من قبل، و هذا الجانب المعلن من مثل هذه الاتصالات و مستوياتها. أما اللقاءات السرية فصعب الإحاطة بها.
كما لن تكون زيارة نتنياهو علامة فارقة في تهافت المواقف الرسمية العربية، بل هي حلقة من سلسلة ستطول بطول الفوضى التي تعصف بالضمائر و بحلم العمل المشترك، و تشرذم التوجهات منذ حرب الخليج الثانية. و قد كان لانتصار الثورات المضادة التي غذاها المتصهينون بالمال و المؤامرات القول الفصل في تدجين الشعوب التي كانت تحمل لواء ” لا للتطبيع “، و إلهائها بالمآلات البائسة لتطلعاتها بعد تقويض ثوراتها، و الدوس بالأقدام على ملايين الأرواح التي أزهقت و المدن التي أبيدت و الناس التي تشردت. و مع كل حراك سياسي، تتحرك ألسنة الإعلام الموجه لتبارك الخطوة و تشيطن المناهض لها كما حدث بعد انقلاب 2013 في مصر حيال حماس و الفلسطينيين، و الأخوان طبعاً، و كما نشهد منذ فترة في الإعلام الخليجي و دعوات كثير من السياسيين و المثقفين الخليجيين إلى إنهاء حالة العداء الكاذب بين دولهم و إسرائيل، على اعتبار أن صاحب القضية سالم و وقع.
و يأتي وضع الحالة الفلسطينية، التي كانت يوماً ما القضية المركزية للعرب، كحلقة أخرى في سلسلة تسريع عمليات المداهنة لإسرائيل. فالتشرذم الفلسطيني الذي نراه اليوم، جعل الصراع يتقزم و ينتقل من حالة عربي – فلسطيني صهيوني، خاض لأجله العرب حروباً عدة، إلى حالة فلسطيني فلسطيني ضرب إسفينه داعمو كل فريق، ليصبح في النهاية صراعاً إسرائيلياً مشروعاً ضد الإرهاب الإسلاموي، و هذا ما غذاه المتصهينون عبر أتباعهم. يضاف إلى هذا شلل العمل العربي المشترك وبقاؤه مجرد شعار فارغ بلا أدنى تأثير، لا سيما بعد خروج العراق و سورية من خارطة التأثير الفاعل و الضاغط، و لو ظاهرياً، ففقد معهم العرب عموماً و الفلسطينيون خصوصاً العمق الاستراتيجي اللازم لأي مفاوضات ندية.
كما أن عملية تمييع قرار المقاطعة التي بدأت من كامب ديفيد، و لم تنته بمعاهدات أوسلو و وادي عربة، قد حولت مخرجات مؤتمرات الجامعة العربية بهذا الخصوص إلى مجرد ” سوالف ” و تسجيل مواقف جوفاء لا أكثر، مما مهد الطريق أمام صهينة التوجهات و المبررات للتقارب مع أولاد العم.
و لا يخلو هذا التسارع الذي شهدناه في الآونة الأخيرة من لمسات إدارة ترامب و توجيهاتها. فإسرائيل التي خرجت منتصرة في تقويض الثورات العربية، و التي انتهت بموجبها من القضاء على الدول الثلاث الأكثر تهديداً لوجودها : مصر و العراق و سورية، و نجحت في تحويل صراعها مع الفلسطينيين إلى صراع مع مارقين على الشرعية الدولية كما أسلفنا، لا بد أن تتمدد في مجالها الاستراتيجي و حدائقها الأمامية و الخلفية لتقطف مع شركائها ثمار سياستها في المنطقة. و إن كانت مصر و الأردن أساساً مصنفين كشركاء، و المغرب من قدامى الأصدقاء، فلا شيء يقف الآن في وجه العلاقات السرية الإسرائيلية مع الدول الخليجية من أن تتحول إلى علاقات استراتيجية علنية بمباركة ترامبية كوشنيرية.
الكلام اللافت الذي قاله بنيامين نتنياهو قبل زيارته إلى عُمان إزاء تطور العلاقات بين إسرائيل و كثير من الدول العربية، و وصفه إياه ” بغير المسبوق “، تؤكد براغماتية الارتماء السياسي العربي عموماً، و الخليجي خصوصاً، في الأحضان الإسرائيلية، مما حرك المياه الراكدة ظاهرياً على نحو ملفت في الأسبوع الأخير. و هذا ما يؤكد استعداد تلك الدول المسبق لعلنية العلاقة و تجاوز المحددات التي رسمتها لنفسها في يوم من الأيام. كما انتفت ضرورات وضع شروط مسبقة لتطبيع العلاقات مع اسرائيل كون الظروف السياسية و الأمنية في المحيط تجاوزت موجبات الاستعداء، بعد أن سبقتها العلاقات التجارية.
لم تعد هناك محرمات في إطار التغيير المفاهيمي الجذري الذي يجتاح الجغرافية الرسمية و الشعبية معاً. و بعد أن تيقن الجميع أن الدول العربية مجرد أدوات، بينما إسرائيل هي الفاعل الأهم في المنطقة، و ربما العالم، و تحرك أدواتها لصالح تحقيق استراتيجيتها في المنطقة ككل، يأتي ظهورها هذا على حساب السقوط الأخير لمتصهيني المنطقة.