راجَ في الأيام الأخيرة على لسان مسؤولين في النظام السوري، دعوتهم أهالي مخيم اليرموك للعودة إلى أحيائهم وبيوتهم في المخيم. قد لا تثير مثل هذه الدعوة شعوراً بالألم والغصّة، ممن لا يعرفون قصة مخيم اليرموك، وما حلّ به خلال سنوات الثورة السورية. أي أولئك الذين يعتقدون أن ثمة حرباً وقعت في هذا المكان، ثم استتب السلام وأصبح ممكناً لمن فرّوا منه العودة إليه. لكن ماذا بوسعنا القول حين تستقبل الفصائل الفلسطينية دعوة النظام تلك، بالغبطة والترحاب وتضيف عليها آيات الثناء والمديح، ودون أن تراعي مشاعر وعقول أكثر من مئتي ألف فلسطيني من أبناء مخيم اليرموك، يعلمون الحقائق المريرة التي يُراد طمسها من وراء هذه الدعوة، وقد أصبح نصفهم لاجئاً للمرة الثانية في المنافي خارج سوريا، فيما يقبع النصف الآخر منذ ست سنوات نازحاً في أحياء دمشق. جميعهم عدا من قضوا تعذيباً في معتقلات النظام، ومن قضوا بسبب حصار المخيم وقصفه خلال السنوات الماضية، لازالوا شهوداً أحياء حيثما كانوا على أكبر نكبة فلسطينية في سورية. بدأت تلك النكبة/ المأساة، حين أدرك النظام منذ بدايات الثورة، خطورة وأهمية مخيم اليرموك، كخزان بشري يضم كفاءات سياسية وثقافية ومهنية، وكتل شبابية مفعمة بروح الثورة والحياة. إذ كان واضحاً منذ بدايات الحراك السلمي انحياز اليرموك ” عاصمة الشتات الفلسطيني” إلى حق الشعب السوري بنيل حريته وكرامته. فمنذ حملات النظام لقمع الأحياء المجاورة للمخيم خلال عامي 2011 و2012، فتح اليرموك أبوابه للنازحين من الأحياء المجاورة، واستقبل منهم مئات الألوف في منازل ومدارس المخيم، وتقاسم أهله كسرة الخبز وحبة الدواء مع إخوتهم السوريين. حاول النظام من خلال الفصائل الفلسطينية الموالية له، تغيير المزاج العام المناوئ له، وترهيبه من تبعات دعم الحراك الثوري، وكانت المظاهرات التي خرجت بالمخيم دعماً للثورة في شهر تموز 2012، من أكبر التظاهرات التي عمّت سوريا. وحين عجز النظام عن تحويل المخيم إلى قاعدة ينطلق منها لقمع الأحياء المجاورة، قدم المال والسلاح لمجموعات من الأدوات المرتبطة به، وهي التي شكلت ما سميّ “اللجان الشعبية”. سرعان ما هربت تلك اللجان التشبيحية بعد دخول الجيش الحر للمخيم، فقام النظام بصب جام غضبه على المخيم، وكان يوم 16/12/ 2012، يوماً أسوداً في تاريخ وذاكرة أبناء المخيم، حين قامت طائرات النظام بقصف عشوائي لأحياء المخيم، سقط بسببه عشرات الشهداء من المدنيين، مما أدى إلى هروب غالبية سكانه بعد تلك المجزرة، والتي أسست لأكبر عملية تهجير جماعي، طالت قرابة 150 ألف من أصل 200 ألف لاجئ فلسطيني كانوا يقيمون في المخيم. لم يكتف النظام بذلك بل حاصر من تبقى من الأهالي الذين رفضوا مغادرة المخيم، وألقى عليهم مستخدماً ميليشيات القيادة العامة وفتح الانتفاضة، حصاراً جائراً استمر منذ بدايات العام 2013 ولغاية الفصل الأخير من تهجيرهم إلى الشمال السوري في شهر نيسان من عام 2018. خلال سنوات الحصار الطويلة، مارس النظام حرباً شعواء لتركيع المحاصرين من خلال سياسات المنع والتقييد والتجويع، وسقط قرابة 200 مدني ضحايا الحصار والجوع وفقدان الرعاية الطبية. كانت الفصائل الفلسطينية خلال تلك الفترة، التي تزايدت فيها عمليات اعتقال الفلسطينيين وتصفيتهم في أقبية النظام، تدفن رأسها في الرمل وهي تشاهد ضحايا الحصار والاعتقال والقصف، ومن لم يشارك منها في حصار المخيم وتجويع أهله، حاولت بتصريحاتها ومواقفها السياسية تبييض صفحة النظام، وتلبيس المدنيين المحاصرين ثوب “الإرهاب” كما فعلت ليلى خالد وغيرها من مسؤولي الفصائل الفلسطينية. كان المطلوب هو تدمير وتهجير سكان مخيم اليرموك، وهي المهمة التي أداها النظام بكل حذافيرها. كان الفصل الأخير من هذه المهمة باستخدام ” داعش ” كذريعة لتدمير القسم الأكبر من المخيم، حيث ألقت طائرات النظام والطائرات الروسية، البراميل والصواريخ شديدة الانفجار تحت غطاء محاربة ” داعش ” مما أدى لتدمير 80% من المخيم بصورة كاملة، وقتل من تبقى من العائلات فيه تحت ركام بيوتها. بعد إنجاز المهمة التي خدم بها نظام الأسد العدو الصهيوني أكثر مما حلم به العدو نفسه، يعود بعد كل ما قام به من انتهاكات وجرائم بحق المخيم وسكانه، بدعوة الأهالي للعودة إلى المخيم، ليغطي من خلالها على وظيفته ودوره في تصفية وشطب مخيم اليرموك، الذي كان مجرد ذكره يثير القلق والغضب لدى القادة الإسرائيليين. يريد النظام من وراء هذه الدعوة أيضاً، والتي لا توجد شروط واقعية وعملية لعودة الأهالي بصورة فعلية إلى مخيمهم، تضليل الرأي العام بأنه ما زال حريصاً على الفلسطينيين وحقوقهم، لاسيما أن سرديته التاريخية قامت على المتاجرة بالقضية الفلسطينية والتلاعب بورقة المقاومة. لكن كيف يمكن عودة الأهالي بعد تدمير غالبية المخيم، وتعفيش كل بيوته وممتلكاته، وإفراغه حتى من أسلاك الكهرباء وبلاط البيوت؟! وفي ظل مخاوف كبيرة لدى سكانه الذين غادروا سوريا وهم نصف سكان المخيم، من اعتقالهم وتصفيتهم إذا أرادوا العودة إلى مخيمهم؟!
يعلم أبناء المخيم أن النظام وفي الوقت الذي أطلق فيه هذه الدعوة، اشترط على سكان المخيم الراغبين بدخوله، الحصول على موافقات أمنية من المفارز المتواجدة على مداخله، وقد تعرض العديد منهم للإذلال والإهانة أثناء قيامهم بتفقد بيوتهم. جرياً على عادته كما فعل مع أبناء المناطق المهجرة الأخرى في سوريا.
لا تتوقف عوائق وصعوبات عودة الأهالي عند هذا الحد، فالقانون رقم “10” الذي يتعلق بالتنظيم العمراني الجديد، يفرض إثبات الملكية خلال سنة بعد التعديل الأخير عليه، وفيما يتعلق بالمخيم، فإن قيود أغلبية بيوته هي حكم محكمة ضمن عقارات غير مفرزة أساساً، وبسبب النسبة الكبيرة من البيوت المدمرة، سيكون هناك مشاكل كبيرة في عملية التحديد العقاري في حال انطلقت عملية الإعمار، وهذا سيكون مدخلاً لإعادة تغيير التركيبة السكانية للمخيم، وليس عودة أهله كما كان عليه حال المخيم قبل تدميره.
أخيراً: إن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مخيم اليرموك؛ وبقية المخيمات الفلسطينية المدمرة، سيتوقف على توفير شروط آمنة بصورة أساسية، وهي جوهر المشكلة طالما أن هذا النظام الذي دمر وقتل واعتقل وهجّر الفلسطينيين والسوريين على حدٍ سواء، مازال جاثماً على صدر سورية وشعبها ومن في حكمهم، وإذا كان من فرص حقيقية لعودة كافة اللاجئين والمهجرين إلى مدنهم وقراهم ومخيماتهم، فهي ستقترن وجوباً بإسقاط هذا النظام المجرم، وبناء دولة الحرية والعدالة والمواطنة على أنقاض حقبته السوداء.