حديث المآسي الذي أصبح نمط حياتنا اليومي، أضحى وثاقاً غليظاً يكتم على أنفاسنا، وما إن تنزاح مأساة بفعل النسيان حتى يطغى ما يليها بلا هوادة. نستيقظ على مجزرة في سورية، وقبل أن نطوي نهارنا، تحتشد على مسامعنا وأمام أنظارنا، أخبار الموت المتنقل ما بين اليمن وليبيا والعراق، ومن فلسطين تتوارد قصص الفواجع بلا انقطاع. لا شيء يكسر هذه الدائرة المغلقة على الألم والقهر، طالما أن أوطاننا الأخرى ذات الاستقرار المُخادع، تُصدّر لنا يومياً أخبارها المتقيحة بالفساد السياسي والطائفية البغيضة، عدا عن أخبار البؤس والضياع التي تصدمنا أكثر بحال العرب في زمن الخراب الطافح. نلوك أكثر مما نتداول هذا المشهد الجهنمي، حتى أصبحنا أسرى لتلقي ما تجود به قرائح الإجرام والتنكيل والفساد، وما يصل إلينا من صرخات الضحايا والعالقين في شباك المصائب والأحزان.
يستمر كل شيء على هذا النحو التراجيدي الفظيع، كأن لعنة أصابت حياتنا بمختلف أجيالنا التي تحيا على هذه السردية الكتيمة. ليس لدينا أدنى تقدير عن زمن قادم يوقف هذا الرعاف الدموي، ولا فرص أو خيارات تنقلنا إلى واقعٍ آخر نصبح فيه بشراً طبيعيين. يقضُّ مضاجعنا الشعور بالعجز وإن اختلفت أشكال التعبير عن محنتنا الكبرى، فمن أصابه اليأس كمن بنى تفاؤله على سلالم الوهم. لا فوارق تُغير سيرورة الهلاك البطيء، الفارق فقط بين من يعتصر القهر واليأس واقعه الحقيقي، ومن يتحدث أو يكتب عن جحافل المقهورين من عالمه الافتراضي. عند هذه الحقائق التي نغفو على جراحها في لحظات الخدر والتجاهل، يتساوى أيضاً الخبير والمحلل الاستراتيجي مع ضارب المندل، فليس من يصنع الوقائع ويفرض الحلول، كمن يفتش عن دوره بين أنقاض خرائبه.
نحن تائهون فرادى وزرافات، نتلمس بقايا ما ثُرنا من أجله، فتتلاشى كلما اقتربنا من نصل الحقيقة، تخوم الفصل بين ما كان يجب أن نكونه، وما أمسينا عليه في دروب التيه. ننتظر المجهول وهو يحدّق في شروخ بديهياتنا وشكوكنا الغائرة، ونهرع إلى ذات اليقين المسبوك في تلافيف وعينا، فننشئ لأجوبة الطريق الصعب، صروحاً من رمل البدايات الدافقة، وإن خاننا وصف النهايات البليدة، نستلُّ شعاراتنا الذهبية كي لا يخبو وهج السؤال. نواصل الجدل العقيم عن فوات أفكارنا وأحزابنا وأحلامنا، ونعيدُ ترتيب حواراتنا في مرصوفة الإنشاء البهيج، وننتهي عند كل تراجعٍ وانكسار، أشتاتاً تبحث عن بقاياها في مرايا تسخر من صورتنا الجديدة.
يُخيلُ أننا ننهض من قاع الهاوية كي لا نغرق في العدم، ونقتبس من الشهداء مداداً من روح الانبعاث، ثم نتأمل في سطور الأمجاد الغابرة كي نواصل السير كأحياء، وكلما حاصرتنا نشرات الأخبار، نلوذ إلى مقهى على رصيف المنفى. نتأمل شريط الذاكرة والأمكنة والوجوه التي كنّا، ويستيقظ الشاعر المتواري خلف الشريط، عسى أن يتنحى لغو السياسة كي لا يقتلنا جفاء المعنى.
نكرر أنفسنا في المشهد الذي تجتمع فيه كل ندوب الخيبة والوجع، ولا نكف عن الانشغال في هذا الكم الهائل من الجهد المسفوك على جدل الارتياب، فقد أصبح عنوان القضية كافياً كي نختلف على رؤية الرؤيا، وسبيلاً للذود عن شرعية الهويات القاتلة. هنا نتفق على اننا أضداد يحكمها قانون نفي ما يوحدها، وما يجعل من صراعاتها جسراً لعبور القتلة على جماجم الضحايا. كيما تبقى ترسانة المبررات والمخاوف والأحقاد، خطاباً سياسياً يحيلُ المآسي إلى شماعة للاستسلام. رويداً رويداً تجرفنا هزائم الواقع إلى الابتعاد عن جدوى المنطق، بعد أن أصبح الطريق إلى الحرية يستثير اللامعقول، بكل ما يعنيه من فظاعات تفوق قدرة العقل على الاحتمال، ونبقى بانتظار أخبار المجازر والأشلاء وهي تتطاير على الشاشات، ولا وقت حتى لنرثي عجزنا المهول، ففي أعماقنا يستوطن ذهول لا يتزحزح، فيما تصاب حواسنا بالخمول، ويكاد الإنسان فينا يكتب وصيته الأخيرة على جدار قلبه النازف.
لا أثرَ يدلُّ على أننا لم ننذر سوى للعذاب والغياب، وحتى الاشتياق لحلمنا القصي، قايضناه بين غريزة البقاء ومعاملات لمْ الشمل. فقط نسترق بين الفينة والأخرى ما يُقال عنّا في القمم والمؤتمرات، لا ننفعل ولا نغضب حين نتابع آخر فصول المسرحية، فقد أضحينا مادةً مجهزةً للتعفيش في مسرحية جديدة، تؤلفها الدول الشرهة بلا حدود. فكيف ننفعل وكيف نغضب من سطوة الغرباء!! والقاتل والجلاد منّا والشريك في لعبة المساومات يتحدث باسمنا. ما أكثر الشياطين والأبالسة التي خرجت من صفوفنا، وما أضيق العبارة حين تتشوه الفكرة في زحمة النفاق والتدليس.
نعود مع كل خازوقٍ وفخٍ ومذبحة إلى يقيننا، بأنها محنة لاريب ستزول، وأن الحق لابد أن ينتصر على الباطل، وأن التضحيات لن تذهب هدراً، ونبحث في كل الاتجاهات عن ضوءٍ يقشع كل هذا السواد، لكن بلا وهم أن الضوء الذي نبحث عنه، يحتاج إلى أرواح حيّة لم تقتل المآسي حبها للحياة، وحينها ثمة أمل بأن ننتقل من متفرجين على طوابير الضحايا، إلى حيوات تنبض بإرادة تغيير هذا الواقع الملتاع، وحفر مسارب في عقولنا ينفذ من خلالها ضوء الأمل والخلاص.