قد لا يكون صعبا على اي متابع ان يستذكر المرحلة التي سبقت الجلوس الاول للطرفين الايراني والامريكي الى طاولة المفاوضات في جنيف يوم 20 يوليو/ تموز 2008 عندما شارك المفاوض الامريكي وليم بيرنز لأول مرة الى جانب المجموعة الدولية وجلس في مواجهة كبير المفاوضين سكرتير المجلس الاعلى للأمن القومي الايراني سعيد جليلي. يومها لم يكن البرنامج الصاروخي الايراني مطروحا بشكل جدي على جدول المفاوضات، في حين كان الايرانيون يبذلون كل ما لديهم من جهد لرفع مستوى تخصيب اليورانيوم الى ما فوق 5%.
منذ ذلك التاريخ، اي الدخول الامريكي المباشر وتخلي واشنطن عن التفاوض غير المباشر عبر الاوروبي حول ملف ايران النووي، عملت طهران وبناء على نصيحة روسية آنذاك على تكثيف ابحاثها وجهودها لرفع مستوى التخصيب وتطوير برنامجها النووي والعمل على استكمال منشآتها النووية خاصة مفاعل اراك للماء الثقيل وتطوير اجهزة الطرد المركزي ورفع قدرات هذه الاجهزة وسرعتها.
وكانت النصيحة الروسية حينها، والتي حملها سرغي لافروف، ان تعمل طهران للوصول الى مستويات تتجاوز العشرين في المئة (20%) لليورانيوم المخصب، وان تنقل الكلام عن مساعيها للوصول الى هذا المستوى من التخصيب الى حقيقة يمكنها من جعله الحد الادنى من التنازلات التي قد تقدمها على طاولة المفاوضات او اي تفاهم او اتفاق قد تتوصل له مع المجتمع الدولي.
وقبل مشاركة بيرنز في المفاوضات، لم تكن طهران تعتبر ان المفاوضات مع الاتحاد الاوروبي قد توصل الى اتفاق نهائي، وكل المفاوضات التي خاضتها كان الهدف منها مغازلة واشنطن وجرها للجلوس الى الطاولة من دون شروط مسبقة سبق لواشنطن ان طالبت بها وتضمن انهاء البرنامج النووي بشكل كامل ووقف كل عمليات التخصيب وتدمير اجهزة الطرد المركزي وتفكيك المنشآت. اضافة الى الشرط الامريكي غير المعلن والمتعلق بدور ايران الاقليمي خاصة بعد توسعه وتزايد مخاطره بعد حرب تموز 2006 بين حزب الله واسرائيل في لبنان.
في 14 يوليو/ تموز 2015، وبعد سبع سنوات من اول لقاء مباشر بين الطرفين الايراني والامريكي، نجحت طهران وبعد مسار طويل ومعقد من التفاوض، كان في غالبيته مع الجانب الامريكي ممثلا بوزير الخارجية جون كيري، في التوصل الى توقيع اتفاق او خطة العمل المشترك حول برنامجها النووي وحصلت على قرار من مجلس الامن يتبنى هذا الاتفاق بعد التصويت عليه في كل من البرلمان الايراني والكونغرس الامريكي.
المسار التفاوضي الذي اذاب الجليد في التواصل المباشر بين طهران وواشنطن، مر بمحطات كثيرة كادت ان تطيح به، خصوصا ما يتعلق بالإصرار الامريكي على ادخال الملفات الاقليمية والبرنامج الصاروخي على جدول المفاوضات، الا ان طهران لجأت الى التصعيد من خلال الموقف المتشدد الذي اعلنه المرشد الاعلى للنظام آية الله علي خامنئي حول اهمية البرنامج الصاروخي الايراني الاستراتيجية كسلاح رادع ودفاعي بوجه اي اعتداء، وفي الملفات الاقليمية جاء الرد من كبار قادة قوات حرس الثورة بتوجيه التهديد المباشر بتدمير اسرائيل في دقائق، اي الضرب على الوتر الامريكي الاكثر حساسية، ولم يقف الامر عند هذا الحد، بل دخل الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله على خط دعم الفريق النووي المفاوض عندما اعلن في اليوم العاشر من محرم عام 2014 مستخدما تعبيرا طائفيا مباشرا بالقول “نحن شيعة علي بن ابي طالب لن نتخلى عن مطلب تحرير القدس والقضاء على اسرائيل”.
استغلت ايران حاجة ادارة الرئيس الامريكي باراك اوباما لتحقيق انجاز على المستوى الدولي يتمثل في التوصل الى اتفاق مع ايران حول برنامجها النووي، واستطاعت طهران ان تقدم للرئيس الامريكي هذا الانجاز وان تكسر “المحرم- التابو” في شعار حرمة التفاوض مع “الشيطان الاكبر”، وبرزت الى العلن الصداقة المستجدة بين وزيري خارجية البلدين والانسجام الكبير بين كيري وظريف برعاية ومراقبة القيادة الايرانية العليا.
وبعد التوقيع على الاتفاق، لم تمهل ايران الاطراف الموقعة عليه، فاعلن عن تجربة جديدة لصاروخ باليستي، ما اثار الجانب الاسرائيلي الذي رفض الاتفاق، الا ان طهران اعتبرت هذه التجارب لا تتعارض مع الاتفاق والمحددات التي وضعها قرار مجلس الامن على هذه النشاطات.
واليوم تدرك ايران ايضا حاجة ادارة الرئيس دونالد ترامب في التوصل الى اتفاق جديد مع ايران، وتسعى ادارة البيت الابيض لتعويض ما تخلت عنه ادارة سلفه في التفاوض مع ايران، فالشروط الثلاثة الاولى من الاثني عشر شرطا التي اعلن عنها وزير الخارجية مايك بومبيو والتي تتعلق بالملف النووي سبق لاتفاق 2015 ان ألزم طهران بها واقرت بذلك الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الا ان الشروط المتبقية تشكل محور الرغبة والمطالب لدى ادارة ترامب، والتي تتعلق بالبرنامج الصاروخي والدور الاقليمي لايران.
وان كانت ايران على استعداد للدخول في مسار تفاوضي مع الادارة الامريكية حول البرنامج الصاروخي، ومن المرجح انها ستفعل، الا انها ستلجأ لاعتماد المسار الذي سبق ان قامت به في البرنامج النووي، اي انها ستكثف من تجاربها الصاروخية وتطوير قدراتها في هذا المجال، مستغلة الوقت الضائع بين قرار عودة العقوبات الامريكي بعد الانسحاب من الاتفاق النووي والدخول في مرحلة الازمة جراء هذه العقوبات، في حال لم تنجح في التوصل الى وضع آليات اقتصادية مع الدول الاوروبية تساعد في الالتفاف على العقوبات.
وليس مستبعدا في هذه المرحلة ان تفاجئ ايران كل الاطراف بالإعلان عن الدخول في مفاوضات مع الجانب الامريكي تتركز هذه المرة على وقف التجارب الصاروخية وعملية تطوير هذا البرنامج والاكتفاء بما حققته في هذا المجال من دون التخلي عنه، وبالتالي فإنها تكون قد اعطت ادارة ترامب ما تريده في البرنامج الصاروخي، ومن المتوقع ان تحاول ايران التوصل الى هذه التفاهمات اواخر عهد ترامب، ما يعني انها لن تكون مجبرة على التفاوض حول الملفات الاخرى، خصوصا الملفات الاقليمية والدور الاقليمي لإيران في العديد من دول المنطقة، كما فعلت مع ادارة اوباما، مع امكانية ان تحاول التوصل الى تفاهمات على تقاسم ما لديها من نفوذ مع واشنطن على اساس الشراكة لا التخلي، وهو ما بدأت ملامحه على الساحة العراقية واللبنانية، لكنها احجمت عن استكمال هذا المسار بانتظار المزيد من التفاهم، ولعل اولى بوادر استكمال هذا التفاهم قد تتبلور مع الجلسة الاولى لمفاوضات السلام اليمنية التي بدأت تأخذ ملامحها الاولية بالظهور من خلال اولا الشروط التي وضعت كمنطلق لمسار المفاوضات والتي نصت على وقف الهجمات الحدودية على السعودية ووقف الهجمات الصاروخية والمسيرة على السعودية والامارات، وثانيا من خلال شرط اخراج 50 من الجرحى من دون تقديم لائحة بأسمائهم مقابل المشاركة في مفاوضات السلام.
التصعيد الذي تشهده المنطقة على خلفية الصراع الايراني الامريكي يشبه في الكثير من مفرداته التصعيد الذي سبق حرب 2006 التي شكلت منصة لانطلاق المفاوضات المباشرة، فهل تكون المرحلة الحالية بحاجة الى حرب اخرى، وهل ستكون هذه المرة بين ممثلي الطرفين (اسرائيل وحزب الله) ام سيدخل الاصيل في المواجهة، وهل سيبقى الممثلون محصورين في اسرائيل وحزب الله ام ستتسع الدائرة التي لن تبقى اي من الاطراف الاقليمية بمنأى عن نار هذه الحرب؟
المصدر: المدن