حسام أبو حامد
شكَّل النصُّ الديني الإسلامي سلطةً فكريةً وثقافيةً هيمنت منذ الإسلام الأول، وحكمت عمليةَ الإنتاج الفكري العربي الإسلامي في العصرين الأول والوسيط، وحدَّدتْ أبعاده واتجاهاته.
وفي الموقف من النص، قربا أو بعدا، برز تياران اثنان أسسا لمنهجيتين متعارضتين. أكد التيار الأول على العقل وضرورة إعماله في فهم النص الديني، وانتهى للتمييز بين ظاهر وباطن لهذا النص، مما أسس لمنهجية التأويل العقلي (فقه التأويل) وسيلة لفض كنه هذا الباطن/ الحقيقة. أما التيار الثاني، فرفض قسمة النص ظاهرا وباطنا، مؤكدا أن العقل لا يستمد قيمته من ذاته، بل من الشريعة التي حثت عليه، لتنحصر مهمته في مجرد إعادة القراءة (التفسير). وتجسدت هذه المنهجية في الفقه الظاهري.
يخبرنا السهروردي، في كتابه “عوارف المعارف” عن الفرق بين التفسير والتأويل فيقول ((فالتفسير علمُ نزول الآية وشأنها وقصتها والأسباب التي نزلت فيها، وهذا محظور على الناس كافة القولُ فيه إلا بالسماع والأثر. أما التأويل فصرف الآية إلى معنى تحتمله إذا كان المحتمَل الذي يراه يوافق الكتاب والسنَّة)).
وإذا كنَّا نجد من السهروردي، الصوفي ذي النزعة السنِّية، بعض التساهل حيال التأويل العقلي، فإن ابن حزم قد رفض التأويل العقلي رفضًا قاطعًا، معتقدًا أن وحدة الحقيقة في وحدة النص واللغة، وأن تقسيم النصِّ إلى ظاهر وباطن يفصم عرى تلك الوحدة. أما موقف “المالكية” فكان متفقًا مع موقف ابن حزم في الامتناع عن التأويل، والاقتصار على التنزيل من غير تبيان كيف، بل الاكتفاء بما جاء كما جاء.
التشريع الإسلامي بين مدرستين
شكل القرآن (ولاحقا السنة النبوية بعد التدوين) مصدرا أساسيا للتشريع الإسلامي، ولكن لما كانت آيات الأحكام لا تتعدى مائتي آية ونيف، من أصل ستة آلاف آية ونيف، فإن الاجتهاد في الرأي قد نشأ في صيرورة الفكر العربي الإسلامي مبكرًا، بوصفه ضرورة لاستيعاب تشريعي لما هو طارئ ومستجد من تفاصيل ونوازل على مختلف الصعد، وبرز الاجتهاد في الرأي ضرورة مارسها خلفاء النبي، ولا سيما عمر بن الخطاب الذي امتلك حسا تاريخيا (بحدود عصره) حين أدرك تغير الأحكام بتغير الأزمان. عُرِفَ عنه إبطاله العمل بحدِّ السرقة في “عام الرمادة”. كما تذكر بعض المصادر أنه أبطل دفع مال الزكاة لـ”المؤلَّفة قلوبهم”. ويذكر الشهرستاني في “الملل والنحل” العديد من الخلافات الاجتهادية بين الصحابة في مرض الرسول وبعد موته.
وفي القرن الأول للهجرة، ظهر في أوساط الفقهاء والقضاة، تيارٌ تشريعي اعتمد مبدأ الاجتهاد في الرأي عُرِفَ بـمدرسة الرأي. وقد اعتمدت هذه المدرسة على القرآن والاجتهاد كمبدأين مشرِّعين؛ وقدَّم هؤلاء الاجتهاد في الرأي على الحديث، بسبب الشك في صحة الرواية والإسناد. ومن أبرز رجالات هذه المدرسة عبد الله بن مسعود وأبو حنيفة النعمان. أرست هذه المدرسة الأسس الأولى لفقه التأويل. حيث شكَّل قولُ الإمام أبي حنيفة بالآيات “المتشابهات” والأُخَر “المحكمات” أساسًا للقول بـ”ظاهر” و”باطن” للنصِّ القرآني.
على الجانب الآخر، برزت مدرسة الحديث التي عارضت مدرسة الرأي، فأنكرت العمل بالرأي، وأعادت الاعتبار إلى الحديث كأحد مصادر التشريع الإسلامي إلى جانب القرآن. وقد بالغ بعضهم في ذلك، حتى قدَّم الحديث على القرآن، ورأى أن السنَّة تنسخ القرآن. وكان من أبرز رجالات مدرسة الحديث الإمام مالك بن أنس. وستكون هذه المدرسة نواة الفقه الظاهري.
رأى ابن خلدون، حين حاول تفسير نشأة علم الكلام، أن الآيات “المتشابهات” أدت إلى خلاف في تفاصيل العقائد، مما دعا إلى الخصام والتناظر، والاستدلال بالعقل زيادةً على النقل.
وهكذا فإن إشكالية “نص/ اجتهاد” ستتضح أكثر فأكثر لتتحول إلى إشكالية “نص/ رأي”، طرفاها أهل الحديث، من جهة، وأهل الرأي، من جهة أخرى، وستتحول في المراحل اللاحقة من عملية تطور المجتمع العربي الإسلامي إلى جزء هام، إنْ لم يكن أساسيًّا، في الصراع الفكري مع نموِّ علم الكلام وتطوره، حيث ستتخذ هذه الإشكاليةُ صورةَ “ظاهر/باطن” أو “نقل/عقل”، لتستمر كإشكالية أنيط بالفلسفة العربية الإسلامية البحثُ فيها على صورة العلاقة بين الحكمة والشريعة.
المعتزلة: العقل في مواجهة النقل
في مواجهة فقه الظاهر، كان فقه التأويل في حاجة لانتزاع مشروعيته، التي وجدها في الدين نفسه (لم يكن ممكنا البحث عنها خارجه)، بما مثَّله من منظومة فكرية ثقافية. وكان المدخل إلى ذلك، الخطابُ القرآني حول العقل، على الرغم من أن مفهوم “العقل” في هذا الخطاب، لم يتعدَّ معنى التأمل والتدبر، ولم يتعامل مع العقل كأداة تحليل وتركيب وبرهان.
ولعل من المحاولات المهمة للتشريع للعقل، كمنطلق لطرح القضايا الفكرية المختلفة من داخل الخطاب الديني نفسه، محاولة داود بن المجبر، الذي استند إلى الحديث القدسي: ((أول ما خلق الله العقل، فقال له: “أقبِلْ”، فأقبل، ثم قال له: “أدبِرْ”، فأدبَر، فقال: “وعزتي وجلالي، ما خلقتُ أكرم عليَّ منك، بكَ آخذ، وبكَ أعطي، وبك الثواب والعقاب”)).
إلا أن هذه النزعة العقلية ستبلغ ذروتها مع نشوء حركة الاعتزال التي عرفت إرهاصاتها الأولى تحت اسم “القدرية”، ومن بعدُ، تحت أسماء متعددة تبعًا لتطور تيارهم الفكري وتبلور القضايا السجالية التي طرحوها، أو بحسب ما شاء خصومُهم أن يسموهم. ومعهم سيدخل الفكر العربي الإسلامي الوسيط منعطفًا جديدًا باتجاه تأسيس فقه التأويل القائم على التأويل العقلي للنص الديني.
يمكن لنا أن نميِّز هنا بين مرحلتين مرت بهما حركةُ الاعتزال، وعلم الكلام المعتزلي:
- المرحلة الأولى اعتمدت النظر العقلي في أمور الدين، وينطبق عليها تعريفُ ابن خلدون لعلم الكلام عمومًا، بأنه حِجَاج عن العقائد الإيمانية بالأدلَّة العقلية.
- أما الثانية، فلم يقف فيها علمُ الكلام المعتزلي عند مجرد الدفاع عن العقائد الإيمانية في مواجهة الداخل والخارج، بل سيبلغ معها النموُّ الكلامي ذروتَه مترافقًا مع التأثيرات الفلسفية والعلمية الخارجية، عن طريق حركة الترجمة.
أدت القضايا التي طرحها المعتزلة، متَّبعين منهج التأويل العقلي، دورًا مزدوجًا حينذاك:
- التشريع لإعمال العقل في النصِّ القرآني وللنظر العقلي عمومًا، وتعزيز العقل في مقابل النقل.
- تمثَّل الثاني في النتائج الاجتماعية التي تمخَّضت عنها هذه القضايا في عملية الصراع الفكري مع العقلية النصِّية الإيمانية والتسليمية، ممثَّلةً بالفقه الظاهري.
التأويل العقلي تحررا من سلطة النص
هناك العديد من القضايا التي تشكِّل أركان مذهب المعتزلة، يعرضها الشهرستاني في الملل والنحل. وتشكِّل قضية خلق القرآن، التي قال بها المعتزلة، نقطةَ التشريع لمنهج التأويل العقلي الذي أسَّسوا له على مقولتهم في التوحيد. والتوحيد عند المعتزلة هو إنكار الصفات القديمة لله، وأن هذه الصفات هي ذات الله، إذ لو شاركتْه هذه الصفات في القِدَم لشاركتْه في الألوهية. فالله عالِم بذاته، وقادر بذاته، وحيٌّ بذاته، لا بعلم وبقدرة وحياة. وكان أكثر المعتزلة تأكيدًا على التوحيد بين الذات والصفات معمر بن عبّاد السلمي.
فلما كان كلام الله في نظر المعتزلة هو ذات الله، فلا يمكن للقرآن أن يكون مُنزّلاً لأن الله منزَّه عن خلقه، والقول بهذا شرك به، وإنما القرآن مخلوق مُحدَث في محل. وقد ميَّز العلاف، بين إرادتين لله، هما عموما فعل تكوين وخلق (“كن فيكون”): “إرادة التكوين”، وهي لا تقع في محل، و”إرادة التكليف”، وهي تقع في محل. والقرآن من الإرادة الثانية، لأنه يشتمل على أنواع من التكليف، أي التشريع للناس، ومخلوق بمحلٍّ غير الله تعالى؛ فهو عَرَض، لا جوهر. هكذا يصبح القرآن نصًّا مشروطًا، بشريًّا وتاريخيًّا، مما يفتح البابَ على مصراعيه أمام مشروعية التأويل العقلي للنص القرآني. وبالتالي للقانون الوضعي في مواجهة سلطة النص التي كرسها الفقه الظاهري.
النزعة الإنسانية عند المعتزلة
أما فيما يخص علاقة الله بكلٍّ من الإنسان والعالم، فقد حاول المعتزلة تأسيس علاقة لا تقوم على الثنائية، بقدر ما تنزع إلى وحدة الوجود، النظرية التي صاغها محيي الدين بن عربي لاحقًا، إلى جانب نظريته في الإنسان الكامل. هنا، تتمخض آراءُ المعتزلة عن نتائج مهمة على الصعيد الاجتماعي، فقد تكرَّست العلاقةُ الثنائيةُ بين الله، من جهة، وبين الإنسان والعالم، من جهة أخرى، على الصعيد الاجتماعي، في تراتبية هرمية، تربَّع بموجبها الخليفةُ على رأس الهرم الاجتماعي، بصفته ممثلاً للشريعة، ومتمتعًا بالحكم المطلق، الذي لا يشاركه فيه أحدٌ من البشر. وسيدور صراع، في مراحل تاريخية مختلفة، بين القائلين بالحق الإلهي المقدّس في الحاكِمية، والقائلين بحاكمية بشرية واجتماعية وضعية.
النص القرآني نص مشكل، “حمَّال أوجُه”، بتعبير علي بن أبي طالب. إذ إن هناك آيات تدل على حرّية الفعل والترك: ((إنا هديناهُ السبيلَ إمَّا شاكرًا وإمَّا كفورًا)) (الدهر: آية 3)، وهناك آيات تدل على تقييد حرّية الإنسان بإرادة الله: ((وما تشاءون إلَّا أن يشاء الله إنَّ الله كان عليمًا حكيمًا)) (الدهر: الآية 30). آيتان في سورة واحدة تعطيان معنيين متعارضين.
تبنَّى المعتزلة الآياتِ التي يدل ظاهرُها على حرية إرادة الفعل أو الترك، وطبّقوا منهجهم في التأويل العقلي على الآيات التي يدل ظاهرُها على عقيدة الجبر، بما يتوافق مع المعنى الأول. الإنسان إذن، بحسب المعتزلة، خالق لأفعاله، خيرها وشرِّها، وهو بامتلاكه العقل، قادر على معرفة الخير والشر والتمييز بينهما، فهو يفعل أو يترك من غير تدخل إرادة الله وقدرته. وهذا يتناسب مع مفهومهم عن العدل الإلهي وما يُبنى عليه من مفهوم العدل الاجتماعي، الذي أراد المعتزلة إرساءه في مجتمعهم. فكلتا العلاقتين، علاقة الحاكم بالرعية وعلاقة الله بالعباد، قائمة على حرّية الإنسان.
لقد أخرج المعتزلة التأويل من حيِّز المحتمل إلى حيِّز البرهان، وذلك حين قدَّموا العقل على النقل. فلم يعد التأويل العقلي قائما على صرف الآية إلى معنى تحتمله يوافق الكتاب والسنَّة، كما ذهب السهروردي، بل على صرفها إلى معنى يقتضيه البرهان العقلي.
وهنا يختلف التأويل العقلي عند المعتزلة عن التأويل الباطني عند بعض فرق غلاة الشيعة، التي اتخذت طابعًا سياسيًّا، ففي حين خضع الثاني في مجمله لمقتضيات الصراع السياسي، وللمنافع العملية الآنية بهدف خدمة أغراض محددة (تعبئة الأتباع وضمان ولائهم، مثلا)، فإن التأويل العقلي عند المعتزلة شكَّل فعلاً إپستمولوجيًّا، وموقفًا معرفيًّا، تضمن نظرةً إلى الله والكون والإنسان، وإلى العلاقات بينها، مكَّنت المعتزلة من التوصل إلى نتائج مخالفة للنتائج التي كانت العقلية النصِّية قد أعلنتْها.
وقد عبِّر الفكر المعتزلي، في مراحله اللاحقة، عن مدى تطور الفكر العربي الإسلامي باتجاه مزيد من العمق والإنسانية، قبل أن ينحرف عنه في معظم مساراته في العموم الغالب، مؤكدًا على معنى الإنسان، وداعمًا التفكير المجرد بالبرهان التجريبي الاستقرائي، ولا سيما في عهد الخليفة المأمون المعتزلي، وازدهار حركة الترجمة والنقل للعلوم النظرية والعملية، مما أسَّس لمنظومة فكرية كانت الإرهاصات الحقيقية للفلسفة العربية الإسلامية الوسيطة.
خاتمة
اختار المعتزلة المواجهة المباشرة مع النص، ما أدَّى أخيرًا إلى عدم قدرتهم على كسب المعركة في مواجهة السلطة الاجتماعية للعقلية النصّية، وفقه الظاهر المسلَّح بتأييد الجماهير العريضة، ولا سيما بعد انشقاق الأشعري عن حركة الاعتزال، وخسارتهم للسلطة السياسية (أساءوا استعمالها) في عصر المأمون العباسي، بعد صعود المتوكل إلى سدَّة الحكم، الذي شنَّ عملية تصفية جسدية وفكرية ضد المعتزلة، هدفت إلى طمس تراثهم الفكري، حتى لم يتبقَّ منه غير مصدرين تقريبًا، كتاب أبي الحسن الخياط “الانتصار”، وأجزاء من كتاب “المغني في أبواب التوحيد والعدل” للقاضي عبد الجبار الهمذاني.
ومن ثم، تكرَّس اضطهادُ المعتزلة وفكرهم قانونًا رسميًّا للدولة العباسية، في عهد الخليفة القادر، الذي جعل من فكر أهل الظاهر دستورًا للدولة، صاغه فيما عُرِفَ بـ “الاعتقاد الظاهري” الذي قرر أن ((هذا اعتقاد المسلمين، ومَن خالَفه فقد كفر)).
المصدر: العربي الجديد