حسن فحص
تتعدد الرسائل التي تعتمدها إيران في هذه المرحلة في الرد على التصعيد الامريكي الموجه ضدها ومساعي واشنطن لتضييق دائرة الحصار على طهران في منطقة غرب آسيا.
ففي موازاة الحراك الدبلوماسي الذي تقوم به الادارة الامريكية في المنطقة والجهود التي تبذلها لتحشيد الحلفاء الاقليميين والدوليين للمشاركة في مؤتمر وارسو ومحورية الدور الايراني فيه، فقد بدأت طهران بتفعيل دبلوماسيتها الامنية والسياسية والاقتصادية والعسكرية لاستيعاب التحرك الامريكي ومحاولة تحصين مواقعها في محيطها الحيوي الذي تأخرت في وضعه على سلم اولوياتها عندما اعطت الاولوية للتواصل مع الدول الاوروبية خصوصا الشركاء في الاتفاق النووي ضمن مجموعة دول 5+1، والتي عرضت الرئيس حسن روحاني ورئيس دبلوماسيته محمد جواد ظريف لسيل من الانتقادات الداخلية التي رسمت علامات استفهام حول تراجع الاهتمام بالمحيط والجوار العربي لصالح هذه الدول وكأن المدى الحيوي لإيران يبدأ من اوروبا، هكذا وصفت الموقف مصادر ايرانية معترضة على ضعف دبلوماسية الجوار.
وعلى الرغم من القراءة الفوقية التي تمارسها الاوساط الايرانية الرسمية وغير الرسمية للحراك الامريكي استعدادا لمؤتمر وارسو، معتبرة ان مصيره وفعاليته ستكون مشابهة لـ “مؤتمر دول اصدقاء سوريا” وأسوأ، لجهة ما تتمتع به ايران من موقع جيوسياسي وجيواستراتيجي على الخريطة الاقليمية والدولية، اضافة الى كونها تختلف في مقدراتها وامكانياتها عن سوريا، ما يعطيها قدرة على مواجهة اي تداعيات قد تنتج عن هذا المؤتمر او اي خطوات قد تستهدفها في الداخل او في امتداداتها الاقليمية.
الا ان طهران لم تستطع اخفاء القلق من مجمل التطورات التي تشهدها المنطقة ونتائج الحراك الامريكي الذي يصب في إطار الجهود التي تبذلها ادارة الرئيس الامريكي دونالد ترامب لتشديد الخناق على إيران في المرحلة المقبلة في أكثر من ملف واكثر من مكان. من هنا، وانطلاقا من هذا القلق وهذه الهواجس يمكن قراءة الخطوات التي بدأتها طهران في الاسابيع الاخيرة من اجل توفير ارضية للتفاوض مع واشنطن في الملفات المفتوحة على طاولة التشدد الامريكي.
الاعلان المفاجئ الايراني عن مفاوضات جرت وتجري مع حركة طالبان في افغانستان على لسان سكرتير مجلس الامن القومي الادميرال علي شمخاني من العاصمة الافغانية كابول، والزيارة التي قام بها وفد من طالبان الى طهران ولقاءات عقدت في الخارجية الايرانية، جاء بالتزامن مع الكشف عن لقاء امريكي مع طالبان بمشاركة اماراتية سعودية في ابو ظبي، وتصب في اطار إثبات الاوزان والادوار في هذا الملف، خصوصا وان طهران تنطلق من ارث يمتد منذ ما بعد عام 2001 قائم على مساعي التحييد والاستيعاب والتوظيف، اضافة الى العداء بين طالبان والجانب الامريكي الذي قضى على دولتها في هذا البلد بعد احداث 11 سبتمبر، والقلق المشترك بين طالبان وطهران من امكانية تحويل افغانستان الى مسرح جديد لنشاط تنظيم داعش ما بعد انحسار نفوذه في سوريا والعراق، والذي سيكون على حساب طالبان وعلى حساب الاستقرار الامني للخاصرة الشرقية لايران. يؤازره قلق روسي بان تتحول افغانستان الى معبر للجماعات الارهابية باتجاه موسكو.
هذا الدور القديم الذي كشفت عنه طهران في افغانستان مع طالبان اثار ردود افعال افغانية رسمية، خصوصا من قبل مساعد المتحدث باسم الرئاسة الافغانية حسين مرتضوي، الا ان الموقف الرسمي الافغاني أجبر مرتضوي سحب كلامه ما يوحي بان الدور الايراني يتجاوز الاصوات المعارضة له من داخل الادارة الافغانية، وقد ترافق ذلك مع اعلان طالبان تعليق لقاءاتها مع الجانب الامريكي التي لم تنطلق بعد.
التحرك باتجاه افغانستان، ترافق مع زيارة وزير الخارجية ظريف الى العاصمة العراقية بغداد، وعلى الرغم من انها جاءت تالية لزيارة وزير الخارجية الامريكية مايك بومبيو الى هذا البلد، الا انها حملت الكثير من الرسائل على المستويات الدولية والاقليمية والداخلية العراقية.
فزيارة ظريف جاءت علنية ومبرمجة مسبقا على العكس من زيارة نظيره الامريكي التي كانت من خارج جدول زياراته في المنطقة للحشد لمؤتمر وارسو، وزيارة رئيسه ترامب التي اقتصرت على قاعدة عين الاسد في الانبار ولقاء القوات الامريكية ولم يبد حرصا على لقاء القيادات العراقية الجديدة.
وزيارة ظريف حملت رسالة اخرى، تقول بان طهران بدأت بكسر الحصرية في التعامل مع الساحة العراقية بالجانب العسكري، او ان تكون قناة التواصل محصورة فقط بالجنرال قاسم سليماني، وان المرحلة القادمة ستشهد تعزيزا لدور الحكومة الايرانية في تدعيم العلاقات بين البلدين ونقلها الى مستويات جديدة. ولعل المؤشر الاساس على هذا البعد المحطة الكردية في هذه الزيارة التي شملت لقاء مع رئيس الاقليم مسعود بارزاني في اربيل، والتي تصب في إطار اعادة ترميم العلاقة بين طهران والمكون الكردي الذي حمل طهران المسؤولية الاكبر في التصدي للحلم الكردي في استفتاء الانفصال وخسارة كركوك التي أشرف عليها بشكل مباشرة الجنرال سليماني.
وبالإضافة الى البعد الاقتصادي الذي لم يحرص الجانب الايراني على اخفائه لهذه الزيارة وفريق المستثمرين الذين رافقوا ظريف، فقد كان لافتا اللقاء الذي عقده الوزير الايراني مع زعماء العشائر العراقية في الوسط والجنوب العراقي، وهي المناطق التي تشكل العمق الاجتماعي والشيعي لإيران، وادراكا لدور العشائر في تعزيز الدور الايراني في هذه المناطق وبالتالي العمل على اعادة استيعابها وقطع الطريق على تحولها الى قوة حاملة للأصوات والمواقع التي تسعى وتحاول الخروج من دائرة النفوذ الايراني، وهي خطوة تشكل استكمالا لمسار الانفتاح الايراني على العشائر والقوى السنية الذي يسير بشكل متأن وهادئ وبعيدا عن الاضواء مستفيدا من حالة الاحباط السنية التي بدأت بالظهور نتيجة ما شهدته المناطق السنية من دمار وتدمير بسبب اعتماد بعض عشائرها السكوت عن داعش وتورط البعض معها في مشروعها ما يمثله من امتدادات خارج العراق.
ويمكن القول ان زيارة ظريف تأتي استكمالا وترجمة لنتائج الزيارة التي قام بها الرئيس العراقي برهم صالح الى طهران في 17 تشرين الثاني نوفمبر 2018 والتفاهمات التي تم التوصل اليها في هذه الزيارة، وبالتالي فان الحكومة الايرانية (حسن روحاني) امام تحدي تفعيل دورها في العراق والذي لن يكون على حساب الدور العسكري للجنرال سليماني بل الانتقال بهذا الدور الى مستويات جديدة تعزز الدور الايراني وتعمقه.
اما في المسألة السورية التي تعتبر “درة التاج الايراني” في مشروع طهران الايراني واحدى اهم ركائزه، فمن غير المستبعد ان تتخلى عما حققته في هذا البلد، ان كان استجابة للضغوط الامريكية او لرغبة الحليف الروسي، من هنا يمكن التوقف عند التصريحات الاخيرة لقائد حرس الثورة الاسلامية الجنرال محمد علي عزيز جعفري، من عدم التخلي عن الوجود العسكري المباشر والمواقع والقواعد التي انشأتها في هذا البلد، وهي تصريحات وان كانت تحمل مؤشرات على حجم الضغوط الدولية والامريكية التي تمارس على ايران في هذا الملف ودوره في ما تتعرض له من عقوبات، الا انها تكشف ان الوجود والدور الايراني في سوريا يعتبر المنطلق الاساس لحل جميع العقد الاقليمي من اسرائيل وصولا الى اليمن والعراق ولبنان، من هنا يأتي رفع السقف الايراني في ما يتعلق بسوريا ووجودها في هذا البلد وما يشكله من ازمة وليس تهديدا لإسرائيل ومشاريع ترامب للمنطقة.
وعلى الرغم من هذا السقف المرتفع الذي وضعه جعفري للموضوع السوري، الا ان مصادر قريبة من مراكز القرار في إيران لم تستبعد ان تقوم القيادة الايرانية بعملية “اعادة انتشار في سوريا” وليس انسحابا، لكن لن تتخذ هذه الخطوة ما لم يتم التوصل الى حلول لملفي مناطق شرق الفرات والازمة الكردية – التركية – الامريكية ما بعد الانسحاب، اضافة الى الاستعدادات لخوض المعركة الاخيرة لاستعادة محافظة ادلب الى الحكومة في دمشق. وتعتقد هذه المصادر ان اعادة الانتشار الايراني في سوريا قد تحمل رسائل ايجابية لكل الجهات التي تضغط على طهران لإجبارها على الانسحاب، خاصة الجانب الاوروبي، ما يعزز التعاون بينهما في مسار الحفاظ على الاتفاق النووي، ويساهم في تخفيف الضغوط على الشريك الروسي امام المجتمع الدولي الذي يبدو انه فوض موسكو بإدارة ملف الحل في سوريا.
المصدر: المدن