أكرم عطوة
في البدء سأتحدث عن مبررات هذه الانفعالات من خلال بعض المقاطع من نصوصي. فهذا مقطع من قصيدة لي بعنوان “رباعيات اللجوء والعودة”.. يتحدث عن الانتظار الطويل والمعاناة القاسية … أقول:
على إيقاع رصاصهم ينزف جرحنا
على إيقاع سلامهم يقطر دمعنا
نعيش هنا مع بؤسنا وهناك ينبض قلبنا
نموت هنا من همنا وهناك تسكن روحنا
لكننا وإن طال ليلنا
وأمعن الظلم في ظلمنا
سيبقى الأمل في قلبنا
تغنيه فيروز لنا
سنرجع يوما إلى حينا
وانتظرنا .. وما أتى زمن المسيح
وتكومت أجسامنا في بيوت من صفيح
بعضنا فوق بعضٍ مثلُ أكياس الطحين
إن ينم من في اليسار .. ينتظر من في اليمين
لسنا من حجرٍ وطين
قلبنا فيه حبٌّ .. فيه دفءٌ .. مثلُ كلِّ العاشقين
إن قَتلنا أو قُتلنا .. فعذرنا في أننا لن نظلّ لاجئين
وتوضعت روحنا في كفنا
وانطلقنا نفتدي أرض الجدود
فتغلّقت في وجهنا تلك الحدود
وتحلّقت من حولنا كل القيود
وتأوهت حسرة في صدرنا
تقول لنا في سرنا
يعز علينا غداً أن تعود
رفوف السنونو ونحن هنا
وحينما تم توقيع اتفاق أوسلو وبدأوا يتحدثون عن خيار غزة أريحا أولا .. أقول في إحدى قصائدي رافضا أوسلو ورافضا هذا الخيار .. ومؤكداً على أنه لا شيء سوى العودة إلى ديارنا الأصلية يمكنه أن يحقق السلام الدائم والعادل
قلبنا سيظل في غزة جريحا .. وستبقى العين تبكي في أريحا
حتى تُكبر في يافا مآذنها .. في يوم عودتنا حمدا وتسبيحا
أمسنا قد سطّر في وصيته .. غدنا قد أوشك أن يصيحا
قسما لن تنام العين فينا .. ولن تهدأ روحنا أو تستريحا
حتى ترفرف “طيرتنا” لنا .. وتعانقَ أهلها ترشيحا
وبالتالي فإن مبررات هذا الانفعال هو الانتظار الطويل والمعاناة المؤلمة في فترة اللجوء القاسية، على اعتبار أن العودة هي الهاجس الذي يمتلك قلب وروح الفلسطيني اللاجئ .
هناك عودتان:
العودة الذليلة والحزينة .. وهذه حدثت كثيرا ومازالت تحدث .. وهي أن يتاح لللاجئ الفلسطيني أن يزور مدينتَه أو قريته أو بيته كزائر أو كسائح .. ومثل هذه الزيارات تتم عندما يحصل الفلسطيني على جواز سفر أجنبي أو حين يحصل على إذن زيارة من العدو المحتل .. والغصة أن معظم الزيارات التي تمت بإذن الزيارة هذا .. كانت تتم بعد هزيمة عسكرية مثلما حصل في هزيمة 1967 أو بعد هزيمة سياسية مثلما حصل بعد اتفاق أوسلو.
وهذا النوع من العودة تمّ الإشارة إليه وتوصيفه بتفاصيله في الكثير الكثير من النصوص .. خاصة في القصة والرواية .
والعودة الثانية هي العودة الكريمة على اثر انتصار .. وهذه لم تحدث للأسف .. لكنها ستحدث إن شاء الله .. وهذه تم الإشارة إليها وتخيلها في القليل من النصوص الأدبية .
من القصائد التي اشتهرت في النوع الأول للعودة .. قصيدة الشاعر سالم جبران حين زار صفد .
غريبٌ أنا يا صفد
وأنت غريبة
تقول البيوتُ: هلا!
ويأمرُني سكانُها: ابتعد
علام تجوبُ الشوارعَ
يا عربيُ، علاما؟
إذا ما طرحت السلام
فلا من يردُ السلاما
لقد كان أهلُك يوماً هنا
وراحوا
فلم يبق منهم أحد
على شفتيَّ جنازةُ “صبح”
وفي مقلتيَّ
مرارةُ ذلِّ الأسد
فوداعاً.
وداعاً صفد!
ومادمنا في “صفد” فاسمحوا لي أن أقرأ فقط المقطع الأول والأخير من قصتي التي عنوانها “بيتٌ مازال ينتظر” والتي تتحدث عن رجل من مواليد صفد عام 1948 أصبح لديه جواز سفر كندي وحين بلغ في عام 2008 الستين من عمره ولأنه كان مريضا في قلبه وشعر بدنو أجله .. قرر أن يموت في صفد وأمام البيت الذي ولد فيه، فتوقف عن تناول الدواء وسافر إلى فلسطين ليحقق هذا الأمر ..
سأقرأ مقطعين من هذا النص .. الأول لحظة الوصول .. والثاني لحظة مشاهدة بيته وقبل موته مباشرة.
يقول في منولوج داخلي حين وصل مشارف مدينة صفد:
أخيراً قال السائق: ها هي صفد،
وبدأ كلُّ شيءٍ فيني يرتجف،
وبدأ كلُّ شيءٍ أمامي يهتز،
اغرورقت عيناي بالدمع، لم أعد أرى أي شيء!
مسحتُ زجاجَ نظّارتي، لكن دون فائدة،
منذ نصفِ قرن وأنا أرى صفد،
رسمتُ لها في مُخيلتي رسوماً شتى،
استعنتُ بما سمعتُه من أبي وأمّي،
وبما قرأتُ عنها، وبما رأيتُ لها من صور،
أيعقل أن أراها الآن كما هي في الواقع؟
أغمضتُ عينيَّ فرأيتها:
“عروساً تنتظرُ عاشقاً يأتيْ إلى الساحةْ
يحملُ في يدهِ قِنديلاً، ومِنديلاً فيه مفتاحهْ
أحرامٌ عليه عروسُهُ؟!
ومُباحةْ لعابرٍ صيّرهُ الظلمُ سلاحهْ!”
قال السائق مستغرباً:
أنت الآن في صفد !!
أيعقل أن تنام ؟
صوت السائق كان كمهمازٍ أيقظني من حلمٍ جميل إلى واقع مرير، وأي واقع أمرُّ من عاشقٍ يأتي كي يرى حبيبتَه وهي في أحضان مُغتصبها؟
كان هذا هو المقطع الأول ..
والآن سأقرأ المقطع الأخير من هذه القصة ..
أخيراً رأيتُ ذلك الباب، نعم رأيته، كان هو باب بيتنا في صفد، نظرتُ إلى البيتْ، ويا هولَ ما رأيتْ، بيتٌ خاوٍ على عروشه، تسكنُهُ الأشباحُ والذكرياتُ، أنهكَهُ الظلمُ كأصحابه، فلا يدَ تُلملِمُ جراحاتِه، ولا أخرى ترمِّمُ محتوياته!
يا أيها البيت الذي انتظرني طويلاً طويلا
ها أنا قد جئتُ إليكَ أخيرا،
جئتُ إليكَ، لكن بقلبٍ متعبْ، وبيدٍ مقيدةْ.
جئتُ إليكَ، وأنا منهكْ، أعاني ما أعاني.
جئتُ لأراكَ مثلي، تُعاني مما أعاني.
لا.. أنتَ أقوى منّي، رفضتَ أنْ تكونَ لهم سكناً.
غضبتَ فصار غَضبُكَ في عيونهم قُبحاً ورعبا،
خافوا أنْ يسكنوكَ، فتركوكَ لذكرياتكَ وهمومكَ كي تموتَ موتاً بطيئا.
أرجوكَ أنْ تبقى حياً،
أرجوكَ أن تنتظرَ جيلاً آخر،
جيلاً سيأتيكَ برأسٍ مرفوعٍ وقامةٍ منتصبة،
إذا استطاع الموتُ أن ينتصرَ على مقاومتي الضعيفة،
فلا تدعْ الموتَ ينتصرُ على انتظاركَ العظيم.
ولقد بكى الفنان التشكيلي إسماعيل شموط حين زار اللدّ بصحبة زوجته الفنانة تمام الأكحل .
تتحدث تمام الأكحل عن هذه الزيارة .. فتقول:
” قررنا في البدء التوجه إلى مدينة اللد، مسقط رأس زوجي إسماعيل ومرتع حلمه. وما أن أشرفنا على المدينة حتى أنكرها للوهلة الأولى، إذ اختلطت معالمُها عليه! وما أن اتضحت لديه المعالم حتى انتابه الانفعال وبدأ يدلّل على المواقع التي عهدها والتي ما زالت على عهده بها منذ أن سرق المحتل مدينتَه.. فبدأ يسير في الشوارع ثم يركض ويصيح صيحات غريبة، وبدأتُ أمسك به وأطلب منه أن يتروى ويهدأ رأفة بقلبه”.
ويقول أنور السقا واصفاً لحظة وصوله إلى بيته في يافا : “في عام 1976 عدتُ إلى يافا.. لا يمكن أن أحدد المشاعر والعواطف والأثر النفسي الذي حل بي.. تصارعت جميعها في داخلي لحظة أطلت يافا.. وعلى مرمى نبض القلب كان البيت.. بيتي ماثلا أمامي، وحين قرعتُ جرس الباب كانت دقات قلبي أعلى من صوت الجرس .
سمعت صوت امرأة من داخل البيت .. فقلت لها بالإنجليزية: لن تعرفينني، افتحي الباب، أنا خلقتُ في هذا البيت، وقد جئتُ لزيارته إن لم يكن لديك مانع!”.
وفي رواية ذات مضمون مختلف عما هو شائع في أدب العودة .. نجد رواية الكاتب الفلسطيني يحيى يخلف “نهر يستحم في بحيرة” يتحدث فيها بتقنية فنية جميلة عن مسألة ذات بعد نفسي خاص ومتميز .. فهو حين وصل بعد اتفاق أوسلو إلى قريته سمخ في الجليل .. ورأى كيف فعل المحتل بها بدءاً من تغيير اسم القرية إلى تسميخ وانتهاءاً بتحويل مجري النهر من مصبه وحتى منبعه .. – تجسدت له مقارنة ذات مدلولية لها معنى مختلف .. فالمنفى الكريه عند الفلسطيني بسبب سوء المعاملة التي يشعر بها في كافة أنحاء الوطن العربي أينما ذهب وأينما حل .. خاصة وأن هناك أطرافا رسمية عربية تتفنن في إهانة الفلسطيني .. فهذا ينبذه وذاك ينفيه وثالث يقمعه وكلٌ يجد التبرير الملائم لفعلته.. ولطالما سمعنا قصصا عن فلسطينيين بقوا لأيام في الجو وتبادلتهم المطارات عشرات المرات. وآخرين ظلوا لأسابيع في البواخر لأن الموانئ لا تستقبلهم .. وذاك يرميهم على الحدود في العراء الى ما شاء الله.
لكن الكاتب وفي لحظة وجوده في قريته شعر بمنفى آخر جديد أشد مرارة وقسوة من المنافي الأخرى التي يشكوا منها الفلسطينيون . منفى يرفضك بكل فئاته، الرسمية منها والشعبية. في حين كان يجد في المنفى العربي حضنا شعبيا دافئا يعوض رفض وتنكر وإساءة الجهات الرسمية له.
وفي قصيدة كتبها الشاعر الراحل أحمد دحبور عن حيفا مدينته حين وصل إليها .. أيضا بعد اتفاق اوسلو .. يقول:
حيفا، أهذي هي؟
لعلَّها مأخوذةً بحسرتي
حسرتُها عليَّ .. أم يا حسرتي عليها ؟
وصلتُها ولم أعد إليها
وأحمد دحبور هو ذاته الذي كتب في ديوانه المبكر “طائر الوحدات” قصيدة جميلة ومؤثرة عنوانها “جمل المحامل” ويقصد به الفدائي.
يصف في هذه القصيدة وبشكل معبر ومؤثر عودة كريمة قادمة فيقول:
ولكنّا.. متى حان الوصول … وعرّشَتْ حيفا على الأجفانْ
سنُحضر جوعنا الدهريّ للدمع الحبيس
ونُفلتُ الأحزانْ
فيا جمل المحامل: سِرْ بنا..
ومتى وصلنا، قل لنا: ابكوا
فللفرح الكبير دموعُه.. والحزن بعض فواكه الفرحانْ.
والحقيقة أن معظم من كتب عن العودة الحزينة أشار بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الطريقة التي يتم فيها تحويل هذا النوع من العودة الحزينة .. إلى النوع الآخر من العودة .. مثلما فعل غسان كنفاني في روايته “عائد إلى حيفا” ..
وأنا حين تحدثت في إحدى قصائدي عن النكبة في ذكرى النكبة .. حددتُ ما هو المطلوب لكي يتمكن أطفالنا من أن يعودوا عودة كريمة .. أقول:
يانكبتي كفاك … يأسا وبؤسا وصراخا بلا أثر
بل كوني أرضا وشمسا وكوني مطر
لطفل سينمو وفي يده مفتاح وفي الأخرى حجر
وفي عينيه أحلام وإصرار وبعدٌ في النظر
ينسج في ظلمة الليل أشعة للصبح
ويزيل الملح من جرحي
ويمسح عن بسمتي حزنها وطلائها
وينقذ ليلتي من ظلمها وظلامها
ويشعل القمر
فذاك الطفل مانسي ولن ينسى
مفتاحا تسلمه من أبيه كالعلم
ودمعة أم أرضعته هذا القسم
ستعود ياولدي .. ستعود ياولدي .. ورب البشر
ستعود ياولدي ليعود للدار ناسها وأنسها .. ونسيج مزقه السفر
ستعود يا ولدي لتعود للدار روحها وأنفاسها .. وأويها في ليالي السمر
ستعود ياولدي ليغنيَ الطيرُ ويرقصَ الشجر
واسمحوا لي في نهاية هذه المداخلة .. أن أقرأ المقطع الأخير من قصيدتي “رباعايات اللجوء والعودة” حيث أصف في هذا المقطع .. عودة كريمة متخيلة..
غدا إذا جئنا بشمسنا
وأزحنا عن دربنا عتمة الدهر
ومسحنا من أرضنا بصمة القهر
قم يابلال وأذن بنا في صحوة الفجر
نأتيك عدواً وتسبقنا مهجة تجري
نأتيك فورا .. وتسرقنا نشوة النصر
نأتيك ولو كنا في حفرة القبر
ستعود الروح لنا من لهفة القلب
نأتيك غيما من الغرب
نأتيك ضوءا من الشرق
كالبرق ..
يمطرُ من بعد رعده دمعا من الشوق
فيسقي ظمأ الأرض لعاشقٍ مجنون
فلسطين كانت لنا أرضاً وصدرا حنون
فلسطين كانت لنا دوما وسوف تكون
والصخر والزيتون
والبحر والليمون
إننا عائدون .. عائدون .. عائدون