ميشال أبو نجم
تتطلع باريس إلى الاجتماع المرتقب على مستوى وزراء الخارجية لدول التحالف في السادس من الشهر الجاري في واشنطن للتعبير عن قلقها من المسار الذي تسلكه الأمور في شمال وشرق سوريا لجهة مصير الأكراد والخطط المطروحة حاليا أميركيا وروسيا وتركيا.
وأقل ما يقال ويفهم من مصادر فرنسية رفيعة المستوى التقتها «الشرق الأوسط» أن باريس «غير مرتاحة أبدا» للطروحات الموجودة على الطاولة والتي نتجت عن قرار الرئيس الأميركي سحب قواته من سوريا. ولا تجد فرنسا في قرار ترمب سوى نتائج سلبية أبرزها ست: انسحاب كافة الغربيين في سياق الانسحاب الأميركي، حشر الأكراد في وضع بالغ الصعوبة، التسبب بفراغ عسكري وسياسي، التخلي عن ورقة ضغط أساسية على النظام وروسيا، إراحة إيران وأخيرا فتح المجال أمام «داعش» وتمكينه من التنفس مجددا. وتشكل «العقدة الكردية» نقطة استقطاب لعمل الدبلوماسية الفرنسية التي تنشط في كل اتجاه وخصوصا باتجاه واشنطن. وتقول المصادر الفرنسية إن باريس «لعبت دورا مهما في فرملة اندفاع ترمب إلى الانسحاب العسكري السريع»، وفي «تحسيس» الإدارة الأميركية بضرورة عدم ترك الأكراد لمصيرهم حتى يتم افتراسهم إما تركيا وإما على أيدي النظام وأتباعه بمباركة روسية. وحثت باريس التي تعي أنها لا تستطيع الوقوف بوجه المخططات الأميركية على «توفير ضمانات» للأكراد، الأمر الذي برز بوضوح من خلال «تغريدة» لترمب يهدد فيها بـ«تدمير» الاقتصاد التركي في حال استهداف الأكراد.
ثمة قناعة مترسخة أن باريس تعد «حامية» الأكراد الأمر الذي يفسر أن وفدا من «مجلس سوريا الديمقراطية» سارع إلى لقاء المسؤولين الفرنسيين مباشرة بعد إعلان ترمب عن سحب قواته، ومجددا بعد اتصال هاتفي شهير بينه وبين الرئيس التركي أقر فيه مبدأ إقامة «منطقة آمنة» شمال شرقي سوريا. وتؤكد المصادر في باريس أن الدبلوماسية الفرنسية «على تواصل دائم» مع المعنيين بالملف الكردي وأنه «في صلب مناقشاتهم» مع أنقرة. وتحلل باريس الخيارات المتاحة أمام الأكراد على الشكل التالي:
خيار التفاهم مع النظام: للمصادر الفرنسية رأي «قاطع» إزاء هذا الاحتمال وهو أن الأكراد «لا يستطيعون التفاهم مع النظام بل المعروض عليهم هو الخضوع له». ونقل الطرف الكردي إلى باريس فحوى المناقشات التي جرت مع دمشق والتي يمكن تلخيصها كالتالي: «سنستعيد السيطرة على المنطقة عاجلا أم آجلا. وإذا أردتم التفاهم معنا، فنحن جاهزون للاعتراف لكم ببعض الحقوق الثقافية. لكن إعطاءكم «وضعية خاصة» تسعون إليها ليس مطروحا بتاتا».
ولكن أين تقف موسكو من هذا الوضع علما بأن وفدين كرديين زاراها، فيما تحدثت معلومات متواترة عن وساطة روسية بين الأكراد والنظام؟ تجزم باريس بأن «لا وساطة روسية» بين الطرفين المعنيين بل إن موسكو تقول للأكراد: تفاهموا مع دمشق وهي، في أي حال، «لا تطلب من دمشق أن تمنح الأكراد وضعا خاصا». أما إذا عمدت إلى ذلك «وهو أمر مستبعد نظرا لسوابق قرارات سوتشي وتشكيل اللجنة الدستورية وغيرها من المحطات»، فليس من المرجح أن تخضع دمشق لرغبات موسكو. ولكن، في المحصلة، لا تخرج باريس هذه الفرضية بشكل نهائي من قراءتها إن لم يترك للأكراد خيار آخر إلا القبول بالحد الأدنى الذي يمكن أن يعطيه النظام.
خيار التفاهم مع تركيا: تقول المصادر الفرنسية إنها تحث منذ شهور طويلة الطرفين الكردي والتركي على التفاهم. لكنها تنظر إلى هذه الفرضية على أنها «بالغة الصعوبة»، نظرا لاعتبار أنقرة أن وحدات حماية الشعب الكردية ليست سوى امتداد لحزب العمال الكردي الذي تحاربه تركيا منذ عقود وبالتالي سيكون شبه مستحيل أن يفضي حوار بين طرفين لا يثق أحدهما بالآخر إلى نتيجة إيجابية. وتضيف المصادر الفرنسية، أن لبّ المناقشات بين الطرفين الأميركي والتركي يدور حول ما يريده الأتراك من «ضمانات أمنية» وحول «المنظومة» التي من شأنها «إراحة أنقرة»، والتي تكون مقبولة بشكل ما من الأكراد الذين يظهرون، في هذا السياق، بمظهر الطرف الأضعف الذي ستتم التسوية على حسابه. والانسحاب الأميركي سيدفع تركيا، وفق القراءة الفرنسية، إلى اختيار السيناريو الأفضل لمصالحها الأمنية من بين جملة احتمالات: التفاهم مع الأكراد والحصول منهم على ضمانات مباشرة، خيار عودة النظام إلى المنطقة وربما إعادة تشغيل اتفاق أضنة للعام 1998 «الذي تدفع موسكو باتجاهه» مع ما يترتب عليه من تبعات سياسية لجهة التعامل مع النظام.
خيار أضنة: لا ترى باريس أن هذا الخيار يمكن أن يلائم مصالح الأكراد لأنه يعني عمليا عودة الخضوع للنظام. من هنا، فإن «نصيحة» باريس للأكراد هي أن يعملوا على التفاهم مع أنقرة رغم وعيهم للصعوبات التي تعيق الوصول إلى هدف كهذا. لكن، كما تقول المصادر الفرنسية، «لا يوجد شيء نهائي في السياسة»، وبالتالي يمكن للطرفين أن يتوصلا إلى تفاهمات تطمئن أنقرة وتمكن الأكراد في إطار المحافظة على وحدة سوريا، من تنمية منطقتهم وحمايتها والمحافظة على حقوقهم والتفاوض انطلاقا من هذا الوضع مع النظام في دمشق من موقع غير ضعيف.
يبقى خيار المنطقة الآمنة أو الأمنية، الذي يبدو اليوم أن له الغلبة بفضل القرار الأميركي. ومن الواضح أن باريس لن تكون قادرة على الوقوف بوجهه، إلا أنها ستعمل وكما دأبت على ذلك دوما، على التخفيف من وطأته على الأكراد ومن خلال السعي لتوفير ضمانات أمنية وسياسية لهم والحد من الطموحات التركية. وما هو ثابت أن وحدات الكوماندوز التي تنشرها والتي يقدر عددها بـ350 فردا ستنسحب في سياق الانسحاب الأميركي وبالتالي لن يكون لديها سوى العمل الدبلوماسي والضغوط السياسية للتأثير على مسار الأحداث.
من المتعارف عليه أن السياسة ليست علما كالفيزياء أو الرياضيات وغالبا ما تخطئ السيناريوهات أو تدخل عليها عناصر غير متوقعة تطيح بها. من هنا، فمن الواضح أن الأمور لم تصبح بعد نهائية في الملف الكردي وأن الانسحاب الأميركي يمكن أن يفتح الباب أمام احتمالات عديدة قد يكون من بينها رغبة النظام في الإسراع بالعودة إلى الشمال والشمال الشرقي وربما عبر عملية عسكرية. لكن احتمالا كهذا لا يمكن فصله عن الوضع في إدلب ومنطقتها الضالعة فيه تركيا وروسيا والنظام كما لا يمكن تناسي العامل الإيراني وما له من قدرات تأثير ميدانية ناهيك عن الصراع الإيراني ــ الإسرائيلي على الساحة السورية وما له من تبعات محليا وإقليميا.
المصدر: الشرق الأوسط