ديانا مقلد
“لماذا لم يتغير شيء؟”
سأل مقدم القناة الرابعة البريطانية في مقابلة تلفزيونيه أجراها هذا الشهر مع المصور الصحافي بول كونروي، الذي نجا بأعجوبة من موت محتم أودى بالصحافية الأميركية ماري كولفين عام 2012، في قصف النظام السوري المركّز على حمص المحاصرة آنذاك…
حقاً لماذا لم يتغير شيء؟
إنه السؤال الذي يؤرقنا جميعاً كصحافين كنا نعتقد أن نقل القصص الحية عن معاناة الناس وموتهم المروع، كفيل بإيقاظ العالم من سباته وإيقاف الدم والنار. هكذا اعتقدت كولفين التي أصرت على البقاء، على رغم أن معظم الصحافيين الغربيين حينها غادروا حمص من شدة القصف، الذي كان متعمداً من قبل النظام بهدف إخراج الصحافيين من المدينة. لكن كولفين بقيت لتنقل إلى العالم قبل ليلة من مقتلها، اللحظات الأخيرة من حياة طفل رضيع قتلته الشظايا. شاهدنا الرضيع يحتضر ووالده ينهار بقربه..
هزّت تلك المشاهد الرأي العام الغربي الذي لم يكن تآلف بعد مع الموت السوري.
ماري كولفين
قالت كولفين حينها في رسالتها الأخيرة لمحطة “سي أن أن”، إنها تعيش أسوأ ما شاهدته في حياتها، وهي التي عايشت حروباً ومجازر كثيرة. كانت تؤمن بعمق بأن بقاءها لنقل قصص حية من داخل حمص المحاصرة، سيُظهر حقيقة ما يرتكبه النظام وسيدفع بالتالي العالم إلى التحرك لإنهاء المجزرة…
نعرف الآن أن هذا لم يحصل…
بل استمرت المجازر وعلى نحو أكثر شراسة. قُتِل وأبيد آلاف من السوريين والقاتل يتربع اليوم في قصره على بلد مدمر…
لكن بول كونروي، رفيق كولفين، ثابت على إجابة واحدة: “نحن كنا هناك وفعلنا ما علينا أن نفعله… كان أملنا بأن ندفع العالم إلى التحرك وتحمّل مسؤوليته… إذا أدرنا وجوهنا أملاً بأن يأتي أحد، ويتولى الأمر فهذا ما سيحصل . لقد أتى الإيرانيون والروس وملأوا الفراغ فيما العالم كان يشيح بوجهه”.
باستثناء شعره الذي بات أبيض بالكامل، لم تتبدل ملامح كونروي عما كانت عليه في لقطته الشهيرة، بدع نجاته من موت محتم في قصف حمص عام 2012. حينها ظهر جريحاً خائفاً مناشداً إخراجه من المدينة المحاصرة…
يكثر كونروي من الظهور الإعلامي في الفترة الأخيرة.
فبعد فيلم Private War، وفيلم وثائقي عن حياتها ومقتلها، حصل تطور مهم في قضية مقتل كولفين التي كنا نعرف أن موتها لم يكن عشوائياً في الحرب التي أودت بحياة أكثر من 400 ألف شخص.
اليوم بعد تحقيق شامل، حكم القضاء الأميركي بأن كولفين استهدفت عمداً من قبل نظام بشار الأسد، كجزء من سياسته القائمة على العنف ضد من يعتبرهم “أعداء الدولة”.
تقول القاضية آمي جاكسون: “قام المسؤولون على أعلى المستويات في الحكومة السورية بتخطيط الاعتداء المدفعي على مركز الإعلام في بابا عمرو (في حمص) وتنفيذه، لغرض محدد هو قتل الصحافيين في الداخل”.
ينص قرار المحكمة على منح تعويضات عقابية قدرها 302 مليون دولار أميركي، ضد بشار الأسد وشقيقه ماهر وشركائهم. وهذا القرار يفتح الطريق أمام مصادرة بعض أو ما يقرب من مليار دولار من أصول عائلة الأسد.
استخدمت الدعوى مزيجاً من روايات شهود العيان، وشهادات من المنشقين، واستعادت وثائق الحكومة السورية الداخلية لإثبات أن الجيش السوري أمضى أياماً يحاول تحديد موقع المبنى السكني الذي تستخدمه كولفين والكثير من الصحافيين. لقد حكم القضاء بأن ما حصل كان اغتيالاً…
لا تعرف كاثلين كولفين، شقيقة ماري، ما إذا كانت الدعوى ستنجح في استرداد أي من تلك الـ302 مليون دولار. لكنها تأمل بأن يكون هذا الأمر على الأقل مصدر إزعاج وإحراج على المدى الطويل لحكومة الرئيس بشار الأسد.
ولعل هنا أهمية الأمر فعلاً، إذ يستحق الحكم الاحتفال به من قبل كل من يتوهم أنه تم طي صفحة السنوات الماضية بكل أهوالها ومجازرها… هذا حكم مفصلي صدر فيما يتعرض الصحافيون في بلادنا للمزيد من التهميش والتهديد…
لقد ذهبت ماري كولفين بشغفها والتزامها الأخلاقي والصحافي نحو النهاية…
خلال حياتها المهنية كمراسلة حربية تنقلت ما بين العراق، الشيشان، سيراليون، ليبيا سريلانكا، حيث فقدت عينها عندما أطلقت عليها القوات الحكومية النار، أظهرت كولفين شجاعة وقدرة مهنية استثنائية.
من غير المرجح أن ترى عائلة كولفين أموالها، على رغم من أنها قد يسعى وراء الأصول السورية المتجمدة، لكنها تأمل بأن يتم تعيين سابقة للمدنيين السوريين. وقال المحامي الرئيسي سكوت غيلمور من مركز العدالة والمساءلة: “نأمل حقاً بأن ترسل هذه القضية إشارة قوية مفادها أنه ستكون هناك عدالة لمرتكبي جرائم الحرب في سوريا”.
وجاءت شهادة مقنعة من أحد المنشقين يطلق عليه اسم يوليسيس، الذي وصف كيف قام الجيش السوري باعتراض عمليات البث الخاصة بكولون إلى CNN، و BBC و Channel 4 News، ودفع أحد المخبرين لتأكيد المكان الذي كان يقيم فيه الصحافيون واحتفلوا بوفاتها. مذ بدأت الحرب في سوريا، قام منشقون آخرون بتهريب ملايين الوثائق التي تورط النظام في جرائم لا تحصى ضد الإنسانية. وهناك وثائق تحضَّر الآن في ألمانيا وفرنسا نيابة عن اللاجئين السوريين الذين تعرضوا للتعذيب في سجون الأسد أو الذين “اختفى” أقاربهم.
اليوم، تتواصل محاولات حثيثة لإيهامنا بأن النظام السوري خرج غانماً من المحنة المروعة التي أصابت السوريين، وأن الصفحة طويت، بل وأن عملية “إعادة الإعمار” ستبدأ وكأن السنوات السبع الماضية انتهت فعلاً…
لنترك حقيقة عجز النظام عن الإتيان بأي حركة تجاه الغارات الإسرائيلية شبه اليومية، ولنغض النظر عن إقصائه الظاهر من قبل حلفائه الروس والإيرانيين في تولي إدارة الأمن والحياة اليومية، لكن لنتوقف أمام حقيقة أن هذا نظام معزول ومرفوض من أكثرية شعبه ومنبوذ من العالم الغربي تحديداً، وأن قضايا جرائم الحرب والمجازر التي ارتكبها هي وسيلة مواجهته في الحقبة المقبلة…
المصدر: درج