شادي الأحمد
تواصل دوريات “مكتب المعلومات المالي” المعروف باسم “المكتب السري” التابع لإدارة الجمارك، اقتحام أسواق مدينة اللاذقية. ويتبع عناصر “المكتب السري” سلوكاً مماثلاً لقوات “مكافحة الإرهاب”، فيداهمون المتاجر برفقة مسلحين من قوات “حفظ النظام”، بحجة حصولهم على أذونات قضائية تتيح لهم ذلك، ومنعاً لمقاومة التجار.
انتشار عناصر “المكتب السري” في المدينة، دفع التجار لإغلاق محالهم. عناصر “المكتب” لم يترددوا باقتحام المحال المغلقة، بكسر أقفالها، وفتحها ومصادرة البضائع، برفقة مخاتير الأحياء. وقد تم استهداف متاجر بعينها، بقسوة شديدة. وصودرت “مخالفات” بعشرات ملايين الليرات من محال في الأميركان وسوق التجار، بغياب أصحابها، بعد خلع الأقفال. الأسواق المنتشرة في المناطق العلوية، قاومت عناصر “المكتب السري” بالسلاح، وأمام الجميع، وتوالى طردهم من كل المناطق العلوية الواقعة على أطراف المدينة. وفي قلب المدينة، قاوم بعض التجار في المناطق السُنية دخول العناصر، ما جعل الأسبوع الماضي، مشتعلاً في اللاذقية. في حين تم الانتقام من التجار المعارضين، باقتحام محالهم ليلاً، وإجراء “الضبوط الاقتصادية”، برعاية قوات “حفظ النظام” التي لم تتوانَ عن استخدام العصي لتفريق المقاومين، وإطلاق النار في الهواء أيضاً.
استخدام قوات “حفظ النظام” وعناصر الأمن المسلحين، بات طريقة لحل كل مشكلات “الدولة” العالقة. ويلوّح النظام لسكان المدينة، بأن لا شيء يُمكن حله من دون العنف. وكأن السكان سيشعلون حرباً أو ثورة، فيتم الاحتراز دوماً بالقوة العنيفة، لمنع أي تمرد، حتى ولو كان على طابور غاز ممتد لأكثر من 12 كيلومتر، كما حدث أكثر من مرة في اللاذقية. وتبدو أزمة الغاز أمنية، إذ بات يرافق كل توزيع للغاز، أكثر من مئة عنصر مسلح، في محلة المختار، أو المؤسسات الحكومية.
ندرة الغاز أوصلت سعر الاسطوانة في اللاذقية إلى 12 ألف ليرة، أو الانتظار في طابور بلا نهاية. وقد ينتظر الشخص 10 ساعات من دون الحصول على جرة. وكادت منطقة الدعتور أن تشهد نزاعاً مسلحاً، لولا تدخل القوى الأمنية المسلحة، بعد خلاف على الأحقية بالحصول على جرة غاز.
وبعيداً عن سعر الجرة الخيالي في الأسواق السوداء، فقد حرص النظام عبر إدارته الرسمية والأمنية على تأمين الغاز لطبقات معينة من الموظفين والأمنيين. وغالبا ما تمكن البعض من الحصول على جرة غاز، من فروع الأمن التي تختزن كميات لا بأس بها من المادة النادرة. النظام بات يدعم كيانات الدولة الإدارية وقادته الأمنيين، بما يجعلهم أقل تأثراً بأزمات الآخرين.
ارتفاع صرف الدولار، توازى مع ارتفاع سعر كل البضائع. وأصحاب المتاجر يشكون القلة، لدفعهم أتاوة شبه أسبوعية لقوى التموين والجمارك، حتى قبل وصول “المكتب السري”. الجمارك التي سمح لها النظام منذ بداية العام، بتفتيش المتاجر بشكل عشوائي وكيفي. والتفتيش يتم باستباحة موظفي الجمارك للمحال التجارية والمستودعات، عبر بطاقتهم الخضراء، ما رفع سعر رشوتهم. كما تعمل مديرية التموين وموظفوها، بشكل عقابي مع التجار. سنوات الإهمال التي واجه بها التجار موظفي التموين، حان وقت دفع ثمنها. الهجمات اليومية على المتاجر جعلت أسواق اللاذقية أشبه بسوق الحرامية. فجأة مع وصول أول دورية تموين، أو جمارك إلى الشارع، تُغلق المتاجر ويهرب الباعة إلى بيوتهم.
وتجري محاولات متواصلة لعقد اتفاقات بين مجموعات من التجار في شارعٍ ما، وقادة الدوريات، لحماية محالهم مقابل مبالغ مقطوعة. وهذا يشمل كبار التجار فقط. أحد التُجار أكد لـ”المدن”، إنهم حاولوا مواجهة الجمارك و”المكتب السري” والتموين، بالسؤال الأساسي: “لماذا لا توقفون نقاط التهريب؟”، فأجاب أحد أبرز الموظفين، بكل هدوء: “هي مو شغلتنا، وسنحوّلك للسياسية (الأمن السياسي) إذا بتحكي هيك بعد مرة”.
وبعدما أفرغ النظام الأسواق من الباعة، سرعان ما أفرع المدينة من الناس. وما خفف فعلياً من أقاويل واحتجاجات الناس من أزمة الغاز و”المكتب السري” والتموين، لم يكن إلا مواجهة أكبر موجة لطلب الاحتياط في اللاذقية. فمنذ أسابيع، تنتشر القوات الأمنية علناً، في الشوارع الرئيسية، ترافقها حافلات نقل ضخمة، تسد بها الطرق. مدينة اللاذقية تحولت إلى مدينة أشباح. في بعض الأحياء الكبرى، كالرمل الفلسطيني، تمت محاصرتها بالحواجز، فلم يخرج الأهالي منها، ما جعل قوات النظام تقتحمها. المنطقة ذات أغلبية سنية، ودفعت ثمناً هائلاً خلال الثورة. النظام الآن يحاصرها ويقتحمها لسوق أبنائها للخدمة العسكرية عنوة.
اللاذقية اليوم مشغولة بتهريب الشبان من الخدمة العسكرية. سوق الذهب انتعش مع بيع الأهالي مدخراتهم من حلي الذهب، المتروكة لـ”غدر الزمان”، لتأمين تكاليف تهريب أبنائهم. عائلة نافذة أسست مليشيات تُهرّب المطلوبين للعسكرية إلى لبنان مقابل مليون ونصف مليون ليرة، وإلى تركيا بمليونين ونصف مليون. هذه المليشيات، بدأت وبشكل استثنائي، قبول رهن المنازل، بدل النقد.
النظام أعاد أيام الحرب إلى كل بيت في المدينة. المناطق ذات الأغلبية العلوية شهدت حالة متناقضة، ما بين تسليم الشبان أنفسهم طوعاً للخدمة، وبين الاقتحامات في بعض الأرياف القريبة من المدينة لجلب المتخلفين. حافلات النقل الداخلي لسوق المتخلفين عن الخدمة، لم تظهر في مناطق العلويين.
النظام يعرف الحساسية التي قد تظهر في مناطق العلويين، جراء الحالة المذلة التي تشكلها قوات الأمن أثناء ملاحقة المطلوبين للعسكرية. ويجاهر بعض العلويين، بأنهم لم يعودوا يقاومون طلبات التجنيد بعدما توقفت الحرب، إذ لم يعد الجيش رديفاً لموت الأبناء. مصطلح “الأزمة خلصت” بات دارجاً. إلا أن إدلب على أبواب اللاذقية، والشعور بانتهاء الحرب، قد لا يكون أكثر من خداع للذات.
المدينة في أشد حالاتها سوءاً. حالة لم تشهدها خلال أقسى سنين الحرب. السير في الشوارع مرعب، واحتلال القوى الأمنية بحافلاتها للسوق، دفع الجميع للبقاء في البيوت.
المصدر: المدن