بكر صدقي
تحت شعار «الاستثمار في الاستقرار» انعقدت، قبل أيام، القمة العربية ـ الأوروبية الأولى في شرم الشيخ، ولم تمض إلا أيام قليلة على إعدام تسعة شبان مصريين باتهامات مستندة إلى اعترافات أخذت تحت التعذيب.
إن مجرد انعقاد هذا الاجتماع في مصر السيسي، وبرئاسة هذا الدكتاتور الدموي الذي يعد العدة لتأبيد حكمه، هو وصمة عار على جبين الدول الأوروبية التي وافقت على المشاركة، غير عابئة بالمجزرة التي ارتكبها هذا الشخص للتو بحق الشبان التسعة الذين تشير وقائع محاكمتهم إلى براءتهم من التهم الموجهة إليهم.
ولم يكتف الأوروبيون بهذه المشاركة الفضائحية، بل أوغلوا في ريائهم بتضمين البيان الختامي كلاماً عن «حقوق الإنسان» والتعاون من أجل حل مشكلات المنطقة على أساس القانون الدولي، وتبني حل الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني على أساس حل الدولتين، والصراع السوري على أساس قرارات جنيف.. إلى آخر ذلك من كلام إنشائي لا تخلو منه المناسبات الدبلوماسية. في حين أن الهاجس الحقيقي الذي دفعهم إلى المشاركة في هذا الاجتماع هو موضوع اللاجئين والهجرة غير الشرعية وفرص الاستثمار و، طبعاً، مكافحة الإرهاب.
إن مصر السيسي هي نموذج «الاستقرار» الذي يصبو الأوروبيون للاستثمار فيه، حيث الحكم العسكري المموه بغلاف مدني لا يقنع أحداً، والفساد الحكومي الذي يحكم على ملايين المصريين بالفقر والجوع، والقمع الشرس لأي اعتراض أو صوت نقدي قد يظهر في المجتمع المصري، والبلاهة الإجرامية المتمثلة في شخص الرئيس.
يعرف الأوروبيون مع من، وفي ضيافة من، يجتمعون لـ«إرساء أسس التعاون» في مختلف المجالات التي تباحثوا حولها، ولا تنقصهم المعلومات المتاحة للجميع، سواء فيما خص مصر أو غيرها من البلدان العربية «المستقرة» أو الطامحة إلى الاستقرار بعد زلزال الربيع العربي والصراعات التي تلته. إنه «استقرار» إعادة ترشيح الكرسي المتحرك في الجزائر، و«استقرار» أعواد المشانق في مصر، و«استقرار» النفايات في بيروت، و«نهاية الصراع» في سوريا الأسد الذي ارتفع عليه الطلب في الآونة الأخيرة فاستدعاه الخامنئي إلى طهران، كي لا يقال عنه إنه أقل شأناً من بوتين الذي يستدعيه إلى موسكو أو قاعدة حميميم كلما اقتضت الحاجة… وغيرها من حالات الاستقرار التي تزكم الأنوف.
غير أن ما دفع الأوروبيين إلى حضور اجتماع شرم الشيخ، قد لا يقتصر على هواجسهم المتعلقة بمشكلات اللاجئين والإرهاب والدوافع الاقتصادية، بل ربما كان الشرخ الأطلسي الذي راح يزداد اتساعاً بينهم وبين الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب، وظهر بصورة واضحة في قمة ميونيخ الأمنية، دافعاً آخر لهم للبحث عن ممكنات التعاطي مع شركاء من خارج التحالف الغربي، حتى لو كان العالم العربي الذي يمر بتحولات كبيرة. يمكن استنتاج ذلك من تطرق البيان الختامي إلى «تعدد الأقطاب» الذي ينبغي أن يقوم عليه نظام دولي مأمول من قبل المجتمعين في شرم الشيخ. مع أن تعدد الأقطاب هذا يعني، قبل أي اعتبار آخر، تقبل صعود الدور الروسي في المعادلات الدولية، وهو ما قد لا يرغب به الأوروبيون، لكن سياسات ترامب هي التي تدفعهم دفعاً إلى ذلك.
لكن هذا الوضع لا يبرر مسلك الأوروبيين، بقدر ما يكشف عن عجزهم عن التأثير الإيجابي في التفاعلات الكبيرة التي تمر بها منطقتنا والعالم. ها هم مثلاً لا يعرفون كيف يتصرفون في سوريا بعد قرار ترامب بسحب قواته منها. فيعلن الرئيس الفرنسي ماكرون تارةً عن بقاء القوات الفرنسية في شرق الفرات، ويعلن، تارةً أخرى، عن النية في سحبها بعد انسحاب الأمريكيين، ليعود إلى إعلان بقائها مرة أخرى بعد قرار ترامب بإبقاء 200 جندي أمريكي (ثم 400)! إلى هذه الدرجة تبدو السياسات الفرنسية (والأوروبية) عاجزة عن التأثير الإيجابي المستقل على الأحداث. وإذا بقينا في مثال الصراع في سوريا، فقد فشلت أوروبا في تطوير سياسة إيجابية ومستقلة بشأن سوريا منذ بداية الثورة إلى اليوم، مع أن الأمر يعنيها بأكثر مما يعني الولايات المتحدة أو روسيا، على الأقل من زاوية نظر موضوع اللاجئين الذي تشكو منه أوروبا من غير أن تقدم أي مساهمة ذات قيمة من شأنها وقف تدفق اللاجئين السوريين. وكذا فيما خص موضوع الإرهاب، حتى إذا قصرنا أمره على داعش ـ كما يفعل الأوروبيون ـ وهي التي ضربت ضربات موجعة في باريس وبروكسل.
الآن وقد «انحسر» الصراع العسكري في سوريا «إلى حد كبير» كما يسود الاعتقاد الواهم، ظن الأوروبيون أن الدكتاتوريات العربية ماضية نحو إعادة إنتاج نفسها في مستنقع الوحل والدم، ولا مانع عندهم، في هذه الحالة، من التعامل مع الأنظمة القائمة رغم أنوف شعوبها، للاستثمار في الاستقرار وكأن شيئاً لم يحدث في السنوات الثماني الماضية.
لكن منطقتنا لا تخلو من مفاجآت قادرة على قلب التوقعات رأساً على عقب وتبديد أوهام الاستقرار. السودانيون والجزائريون أبرز الأمثلة الآن، ولن يكونوا وحدهم في تبديد أوهام الاستثمار في وحل الاستقرار الزائف.
المصدر: القدس العربي