لم يغب الحراك المدني عن ساحة الثورة وإن خفت وهجه. فقد أثبت الشعب السوري، بحيويته وإصراره، أنه لن يوفّر أي شكل من أشكال النضال تتيحه الأوضاع السائدة؛ فما إن يتوقّف الرصاص حتى تخرج التظاهرات في شوارع القرى والبلدات والمدن مؤكّدة أهداف الثورة واستمراريّتها.
أثارت ظاهرة العسكرة، التي وسمت الثورة السورية بميسمها بُعيد انطلاقتها بأشهر، كثيرًا من الجدل والنقاشات التي تمحورت حول حتمية هذا التحول عن السلمية من عدمه. ويُلاحظ من خلال تتبع هذا الجدل وتفحصه بالدرجة الممكنة من الموضوعية، محاولة المناهضين للعسكرة، بغض النظر عن دوافعهم وغاياتهم التي تستبطن أحيانًا موقفًا مناهضًا من الثورة، قطع هذه الثورة العظيمة عن شرطها التاريخي الذي انطلقت منه، وعن مجمل التعقيدات التي راكمها عنف النظام وهمجيته، والتدخل الخارجي الكثيف، وصراعات المشاريع والاستراتيجيات الإقليمية والدولية من أجل النفوذ والمصالح المتضاربة. هذا التدخل الإقليمي والدولي الذي عرّى بشكل جلي ماهية النظام السوري وارتباطاته المتشعبة والمتناقضة أحيانًا، وعمّق الدور الوظيفي المنوط به على مدى عقود في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
كثيرة هي الأسئلة التي تفرض نفسها في هذا السياق. فهل كان ممكنًا لسلمية الثورة السورية التي تبدّت في أرقى صورها، أن تستمر في مواجهة العنف الذي اتبعه النظام؟ وهل كان ممكنًا لورود غياث مطر في داريّا، أو متظاهري ساحة العاصي في حماه أن يتلقفها عناصر النظام وشبيحته؟ هل -فعلًا- كانت العسكرة هدفًا مضمرًا في صفوف الثائرين؟ وهل أضرّت العسكرة بالثورة؟ وكيف تبدّى هذا الضرر؟ وهل قطعت العسكرة الطريق بشكل نهائي على الفعل المدني السلمي بعد كل هذا الغوص في دماء السوريين؟
إن محاولة البحث عن أجوبة موضوعية حول الأسئلة التي طرحتها ظاهرة العسكرة في الثورة السورية، وليس من الضروري أن تكون هذه المحاولة حيادية، تقتضي الانطلاق، من حيث المبدأ، بأن ما جرى في سورية منذ 18 آذار/ مارس 2011، هو ثورة شعب خرج طلبًا للحرية والكرامة والعدالة، وهي لم تكن تحركًا حزبيًا أو فئويًا أو جهويًا بحثًا عن رفع مظلمة أو تحقيقًا لمطالب محدّدة، أو إصلاحًا لخللٍ اعترى الأداء الحكومي. لقد راكم الواقع السوري، أقلّه منذ استيلاء البعث على السلطة في آذار/ مارس 1963، من القمع والتضييق والتهميش والفساد الذي مارسه النظام، ما يحتاج إلى أكثر من ثورة. وإذا كانت صفتا السلمية والعسكرة تنتميان إلى حيّز الأدوات، فإنه كلما تلاءمت أهداف الثورة وأدواتها، وناسبها الظرف الموضوعي، وتماسك واتّسع حاملها الاجتماعي، تصبح أهدافها قابلة للتحقّق، وكلفتها البشرية والمادية أقلّ. وما دام ليس هذا واقع الحال في سورية، فإنه من هنا تنبع مشروعية السؤال حول العوامل التي ساهمت في تحوّل الثورة السورية نحو العسكرة، ومآلات هذا التحول. ولا يخفى على أحد أن أيّ ثورة تحكمها سياقات سلمية وأخرى عنفيّة، وما يرجّح سياقًا على آخر، هو موقف الطرف السلطوي الذي تعمد (في حالتنا) العنف الممنهج منذ الأسبوع الثالث، وقنص المتظاهرين، والذي كان يرمي بالتهمة على من دعاهم بالمندسّين.
أولًا: حول السلميّة والعسكرة
لا يوفّر لنا تاريخ الثورات، قديمها وحديثها، أمثلة كثيرة عن تجارب خلت من العنف، والمعني بالحديث هنا الثورات التي قامت في وجه سلطات محلية مستبدة، وليس تلك الثورات الوطنية التي هدفت إلى تحرير بلدانها من محتلّ خارجي. وعلى سبيل المثال، فإن ثورات المجر 1956 وتشيكوسلوفاكيا 1968 وبولونيا 1972 والثورة الخضراء في إيران 2009، قُمعت جميعها بالعنف العاري على الرّغم من توسّلها السلمية. في حين أن الثورات الملوّنة في أوروبا الشرقية، من رومانيا وهنغاريا إلى أوكرانيا، إضافة إلى ما حدث في جورجيا، لم تُطلق في مواجهتها طلقة واحدة. وكذلك الحال مع ثورة الأرز في لبنان 2005 وثورة 25 يناير 2011 في مصر. في حين أن ثورة البوعزيزي في تونس، والسنتين الأوليين من الثورة اليمنية، شابهما شيء من العنف. أما ثورتا ليبيا وسورية، فإن العنف الذي أفصح عنه نظاماهما قد فاق التخيّل والتوقعات.
استعراض هذه التجارب يُبيّن أن الموجة الأولى من ثورات أوروبا الشرقية جاءت في ذروة الحرب الباردة، وكانت الدبابات السوفياتية جاهزة لاجتياح المجر وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا من أجل تثبيت أنظمة هذه البلدان. أما في الموجة الثانية، فإن الاتحاد السوفياتي كان قد انهار، وانتهت مع انهياره الحرب الباردة، وبدا التغيير وكأنه تحصيل حاصل. فالقوى السلطوية القائمة فقدت مبرّر وجودها وقدرتها على المواجهة، ليس أدلّ على ذلك من إعادة السوفيات طائرة شاوشيسكو الهارب إلى بوخارست، ليواجه وزوجته على عجل حكمًا بالإعدام. أما في لبنان، فإن صدمة اغتيال الحريري، واستنفار القوى الخارجية، لجمت القوى المتحكّمة في الداخل اللبناني من أن تكشّر عن أنيابها. الوضع في مصر كان أكثر مدعاة للحيرة، ويتسم بالتناقض، ذلك أن الجيش الذي حمى ملايين المتظاهرين في الثورة الأولى كانون ثاني/ يناير 2011، ورفض قمعهم، هو ذاته الذي قمع بوحشية ودموية المتظاهرين في ثورتهم الثانية حزيران/ يونيو 2014، وهذا يُحيلنا إلى البحث في ماهيّة القوى المتحكّمة في القرار وتمركزها، وطبيعة الشروط التي تتحكّم بقرارها!
خلاصة القول، إن كل ثورة منوطة بشروطها، ولا تمضي بالضرورة وفقًا للسياق المرسوم لها، وكل التنظيرات التي تحاول وضع الثورات جميعها في جراب واحد، وتشريحها وفقًا لمسطرة نظرية، لا تعدو أن تكون تنظيرًا عدميًا، أو تهرّبًا من الاستحقاق الأخلاقي الذي يقتضيه زمن التغييرات العميقة.
ثانيًا: استدراج المجتمع للعسكرة
لم يكن السوريون يومًا مغرمين بالعنف، ولم يكونوا من دعاته، ولم يفوّتوا فرصة للتعبير عن دعواتهم ومطالبهم بالإصلاح بشكل سلمي إلا واستغلّوها. يشهد لهم بذلك حراكهم الواسع في العقد الأول من القرن، حين أصدروا البيانات المطالبة بالإصلاح (بيان الـ 99 وبيان الـ 1000)، وأقاموا المنتديات التي انتشرت في المدن السورية كما الفطر، وتداولوا فيما بينهم الحوار حول الإصلاح وضروراته وأبعاده فيما عرف بربيع دمشق الذي قطعه النظام بالاعتقال والملاحقة بدعوى منع الانزلاق نحو “الجزأرة”، على ما قال نائب الرئيس، عبد الحليم خدام، حينها في خطاب له على مدرّج جامعة دمشق. ومع ذلك تابع الناشطون السوريون حراكهم بالقدر الذي أتاحته الأحوال والأوضاع.
خرج السوريون في تظاهراتهم السلمية في آذار/ مارس 2011، تلك التظاهرات التي عمّت المدن السورية كافة، تضامنًا مع شهداء درعا الذين قتلهم النظام في مذبحة العمري وهم يتظاهرون لإطلاق سراح أطفالهم المعتقلين على خلفية كتابات طفولية على جدران مدارسهم.
واجه النظام المتظاهرين في مدنهم بالعنف الجسدي، مستخدمًا شبّيحته الذين جمعهم من موظفي الدولة برضاهم أو رغمًا عنهم. هذه الظاهرة الجديدة في طريقة تعامل النظام مع المتظاهرين التي تعمّدت وضع المجتمع السوري في مواجهة بعضه بعضًا، وقسّمته إلى معارضين وموالين، استمرت أشهرًا، لكنها بدأت بالانحسار التدريجي، حين بدأ النظام باستخدام الرصاص الحي، وقتل المتظاهرين بشكل تدريجي أيضًا منذ الأسبوع الثالث للثورة، وفقًا لخطة اعتمدها في سياق خياره الأمني الوحيد للتعامل مع الثائرين.
استُدرج الشارع السوري وثورته السلمية إلى التسلّح والعسكرة استدراجًا، لذلك لم تكن هذه الحالة خيارًا ذاتيًا للثائرين أو المتظاهرين السلميين الذين خرجوا من أجل الحرية والكرامة، والعنف الذي قابلهم به النظام بأدواته القمعية كافة، عبر إطلاق النار عليهم في الساحات والشوارع والأزقة، إضافة إلى عمليات التوقيف والاعتقال، ومن ثم التعذيب في السجون حتى الموت، كل ذلك وما شابهه، هو الذي دفعهم إلى حمل السلاح.
إن ظاهرة الانشقاق من داخل الجيش لبعض العسكريين الذين رفضوا أن يُطلقوا النار على أهلهم وذويهم وشعبهم، بعد أن زجّ النظام الجيش في مواجهة المدن الثائرة، ساهم في تسريع عملية التحوّل نحو العسكرة، كما عززها استمرار آلة الدمار والقتل، وتوسّع جرائم التعذيب والاغتصاب، وتعدّد المجازر واتّساعها، من دون أن يتمكن المحيط العربي والدولي من فعل أي شيء يُذكر لإيقاف ذلك كله.
المُتابع لمسيرة الثورة السورية يرى بشكل جلي أن كثيرًا من المدنيين الذين التحقوا فيما بعد بالجيش السوري الحرّ، هم ممن كانوا يتصدرون التظاهرات السلمية، وممن حملوا الشعارات واللافتات المطالبة بإسقاط النظام وإقامة دولة الحرية والقانون، ثم كانت بعد ذلك الصيحات والدعوات لعسكرة الثورة من أجل الدفاع عن النفس والأهل وحماية المتظاهرين. كان من أسباب نشوء الجيش الحرّ العمل على تأمين الحماية الفعلية لتلك التظاهرات السلمية، ولجم قوات الأمن والجيش عن القيام بمداهماتها ضد المدنيين السوريين.
كما لم يكن إطلاق النظام لعشرات المعتقلين الإسلاميين المتشدّدين من سجونه في السنة الأولى للثورة، إلا بمنزلة ضخّ لهذه القيادات المتطرفة التي خبرها جيدًا، والتي أمضت سنواتٍ في المعتقلات، خاصة في سجنيّ تدمر وصيدنايا، للدفع في اتجاه العسكرة، كي يتمكن من صبغ الثورة بلون دينيّ متشدّد ومتطرّف.
ربما كانت هذه الخطوة إحدى الخطوات المفصلية التي ساهمت في تغيير مجرى الحوادث ميدانيًا وعسكريًا على مجمل الجغرافيا السورية؛ وليكون للنظام، بذريعتها، الحجّة لإنزال الجيش واجتياح المدن والبلدات، ونشر الدمار والخراب والموت، ومن ثم، ليستقدم، بعد ذلك، وبشكل علنيّ، الميليشيات الطائفية من لبنان وإيران والعراق.
لقد دفع النظام الثورة بكل قوته وجميع أساليبه إلى التسلح؛ فكان السلاح بيد الثوار تحوّلًا أراده النظام واشتغل عليه، واستطاع، عبره، جرّ الثورة إلى ملعبه، ملعب العنف الذي يجيده ويضمن الفوز له؛ بينما حمل الثوار والمدنيون السلاح للدفاع عن أنفسهم وأحيائهم وقراهم، ليصبح الأمر، بعد ذلك، ظاهرة عمّت المناطق السورية كافة.
ثالثًا: الجيش الحرّ ونشأته
مع تصاعد الثورة السورية، ومتابعة النظام استخدام القمع وسفك الدماء، راحت الانشقاقات في صفوف الجيش تظهر تباعًا، حيث ظهرت البوادر الأولى لما سُمّي بـ “المعارضة المسلحة”، وليتم، بعد ذلك، تشكيل حراك مُسلّح أُطلق عليه “حركة الضباط الأحرار”، حيث أخذت تتوالى بعده الانشقاقات عن الجيش، ليُعلن، من ثم، عن تأسيس “الجيش السوري الحر” للدفاع عن الشعب السوري ضدّ النظام القمعي والمستبدّ.
يمكن تقسيم مراحل تشكل الجيش السوري الحر إلى:
المرحلة الأولى: وهي التي انطلقت بداية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، حين تم تشكيل “المجلس الموقّت العسكري”، وتعيين رياض الأسعد رئيسًا له، مع ثمانية ضباط كأعضاء في المجلس، وكان من أهدافه إسقاط النظام، وحماية السوريين من القمع الذي يُمارس ضدّهم، والمحافظة على الممتلكات العامة، ومنع كل أنواع الفوضى مع سقوط النظام المتوقع.
المرحلة الثانية: وهي التي ظهرت مع الإعلان عن تكوين تنظيم أطلق عليه “المجلس العسكري الثوري الأعلى” في شباط/ فبراير 2012، والذي أثار بعض الخلافات مع قيادات الجيش الحرّ المُشكّل سابقًا.
المرحلة الثالثة: وهي التي جاءت مع الإعلان عن تشكيل “قيادة مشتركة للجيش الحر” داخل الأراضي السورية، لتشمل محافظات دمشق، حمص، حماة، إدلب، ودير الزور.
المرحلة الرابعة: وهي التي واكبت تشكيل “القيادة المشتركة للمجالس العسكرية الثورية” في شهر أيلول/ سبتمبر 2012، لتكون الإطار الأكثر اتساعًا وتنسيقًا بين وحدات الجيش السوري الحرّ.
المرحلة الخامسة: وهي التي أتت مع بداية تأسيس “مجلس القيادة العسكرية العليا” في كانون أول/ ديسمبر 2012 إبّان مباحثات متتابعة بين قيادات المجالس العسكرية والثورية وقادة الألوية والكتائب، ليُصار إلى اختيار 261 ممثلًا عنهم، تمّت تسميتهم بـ “هيئة القوى الثورية”، وليجري بعدها تشكيل “مجلس القيادة العسكرية العليا” ليكون بمنزلة أعلى سلطة عسكرية في سورية، تقوم برسم السياسات العسكرية وصولًا إلى إسقاط النظام.
لم يخل العمل على تأسيس الجيش السوري الحرّ من مشكلات وإشكالات رافقت مجمل المراحل المشار إليها. وما كانت التطورات والمراحل المتعددة التي طرأت إلّا محاولة لحلّ بعض هذه الإشكالات، واستجابة لتلك التحديات التي كان في مقدّمها تلك الفجوة التي قامت بين القوات والقيادات الميدانية الموجودة على أرض المعارك، وبين تلك القيادات المقيمة على أراضي تركيا، وتراجع قنوات التعاون والتنسيق العسكري بين الخارج والداخل، الأمر الذي أسفر، مع استمرار التغيير في سياسات دول الإقليم، عن مسارات متناقضة، مضافًا إليها حالة التنافس والانشقاقات الداخلية التي ساهمت في خروج بعض القيادات العسكرية من الجيش الحر. وليس بعيدًا منها أيضًا النموّ الواضح لنفوذ كتائب ذات توجه إسلامي سلفي، مع تصاعد التنافس وحدّته العالية بين الكتائب الإسلامية المُشكّلة حديثًا والمجالس العسكرية التي تشكلت قبلها بمدة.
وساهم تنافس الدعم الخارجي بشكلٍ واضح في جفاف الدعم الموجّه إلى المجالس العسكرية والجيش السوري الحرّ، مُقارنةً بالضخّ المالي الكبير الذي صار يتوجه إلى تلك الكتائب الإسلامية التي باتت أقوى من مجالس الجيش السوري الحرّ الذي أخذت تحدث انشقاقات فيه لمصلحة الكتائب الإسلامية المدعومة ماليًا، الأمر الذي ساهم تدريجيًا بانحسار حجم وقدرة الجيش السوري الحرّ، على حساب تضخم الكتائب والألوية الأخرى.
ولعلّ إحدى أهم المشكلات التي ساهمت في تعثّر ظاهرة الجيش الحر، تكمن في أن حالة الانشقاق التي طالت عشرات الآلاف من الضباط وصف الضباط والمجندين، لم تجرِ من مؤسسة إلى مؤسسة أخرى بديلة، بل أخذت طابعًا فرديًا وعفويًا إلى حد بعيد حين لجأ كل منشقّ إلى بيئته الاجتماعية كي تحميه، وحين جمع كل ضابط في منطقته بعضًا ممن حملوا السلاح من المدنيين حوله. لكن مع اتساع ظاهرة الكتائب الإسلامية المسلحة، انضمّ كثير من أولئك المدنيين إليها لعوامل كثيرة منها القدرات العسكرية والمادية والتمويل التي توافرت لتلك الفصائل دون الجيش الحر. كما أن كثيرًا من الضباط المنشقين، وبعضهم لم يجد ترحيبًا من جانب الفصائل الإسلامية التي لم تحرص على استيعابهم والاستفادة من خبراتهم، انكفأ وانتهى به المطاف في الأردن أو تركيا انتظارًا لظرف أفضل لم يأت بعد.
رابعًا: دور الدول الإقليمية
بعد أن سيطرت المعارضة المسلّحة على بعض المنافذ الحدودية، خاصة الموجودة بين تركيا وسورية، بدأت العلاقة بين المعارضة المسلحة وتركيا تتعزّز، بما فيها العلاقة مع الجيش الحر وبعض الفصائل المسلحة الأخرى، حيث أضحت الحدود مع تركيا المعبر الأساس للسلاح وجميع الإمدادات اللوجستية للمعارضة المسلّحة داخل سورية.
كانت تركيا واضحة في ذلك بإعلان رئيس وزرائها في أيار/ مايو 2013 أن المساعدات التركية للمعارضة السورية “تتركّز على الدعم اللوجستي”، وأن هذا الدعم “سيستمر”، كما كانت السعودية وقطر، الداعمين الرئيسيّين بالمال والسلاح للثورة السورية، وكذلك الداعمين المهمّين للمعارضة السياسية أيضًا، وساهمتا في عقد اجتماعات القوى المعارضة التي شدّدت (على اختلاف تسمياتها) على ضرورة توحيد ودعم المجالس العسكرية، ومجمل الكيانات العسكرية الثورية، وقيام قيادة عسكرية عليا تنضوي تحت لوائها التشكيلات المسلّحة.
خامسًا: الدور الأميركي في العسكرة
كان الدور الأميركي من المسألة السورية، ولا يزال، عاملًا مهمًا وأساسيًا في التحكم بما يجري في سورية. فعندما دخلت الولايات المتحدة الأميركية في الصراع كانت لديها حساباتها الخاصة، وقد أبدت حساسية وتخوفًا، منذ البداية، من إمكانية تسليح المعارضة، خشية أن يصل الإسلاميون إلى السلطة في دمشق، لذلك أحجمت عن إعطاء سلاح للجيش السوري الحرّ، وتركت هذه المهمة لسواها من دول المنطقة، لكن مع الإصرار على تقنين هذا الدعم. وأنشأت لهذه الغاية غرفتي توجيه ومتابعة (الموم والموك) في تركيا والأردن، علمًا بأن موقفها هذا شهد تطورات عدة فيما بعد، فمع تصاعد الصراع في سورية، جرى التصويت عبر لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي خلال شهر أيار/ مايو 2013 على مشروع قرار يسمح للإدارة الأميركية بتسليح مجموعات محدّدة في المعارضة السورية، حيث نصّ هذا القرار الذي فاز بأغلبية الأصوات (15 مقابل 3) على “إعطاء الرئيس باراك أوباما حق التسليح لمجموعات في المعارضة السورية، وذلك وفقًا لالتزامات محددة مرتبطة بحقوق الإنسان، ورفض الإرهاب، ورفض انتشار السلاح الكيماوي، وبالتالي يتعيّن التأكد من هذه الالتزامات قبل إعطاء السلاح أو التدريب عليه”.
مع هذا، ظلّت المساعدات الأميركية شحيحة ومتواضعة ومحددة ولفصائل بعينها، مع الإصرار على عدم تسليم المعارضة أي سلاح نوعي خوفًا من أن تقع في الأيدي الخطأ كما تدّعي.
سياسيًا، لم تعمل أميركا جديًا للإسهام في استصدار أيّ قرار دولي يسمح بتغيير المعادلات القائمة على الأرض بحيث تؤدّي إلى تغيير النظام، لاعتبارات مختلفة ومصالح متعددة، منها عدم وجود بديل ترضى عنه، وما زالت تستهلك الزمن لنضوجه، بما يتوافق مع إستراتيجيتها المعلنة التي تأخذ بصيغة لا غالب ولا مغلوب. من هنا يمكن تحميل الأميركيين والمجتمع الدولي ما آلت إليه الأوضاع في سورية، ومعهم جامعة الدول العربية. ومن هذا المنطلق، يمكن عدّ عسكرة الثورة إحدى نتائج تقاعس أميركا والمجتمع الدولي عن حماية المدنيين.
لم يكن ذلك التهديد العسكري، الجدّي والوحيد، الذي هدّدت به الإدارة الأميركية عندما استخدم النظام السلاح الكيماوي في الغوطتين، إلا من أجل سحب هذا السلاح لمصلحة الأمن الإسرائيلي، وليس لحماية السوريين الذين هاجمهم النظام بالكيماوي في مناسبات عديدة، في عام 2013 وقبل ذلك وبعده. فمما لا شك فيه أن أمن إسرائيل كان، وما زال، واحدًا من الركائز الأساسية التي بُني عليها الموقف الأميركي من القضية السورية، دون أن يختصر هذا الأمر الموقف الأميركي برمّته؛ فأميركا دولة عظمى لها إستراتيجياتها ومصالحها الكونية، وعليه، فهي تنظر إلى التغيير في سورية، الذي فرضت حتميّته الثورة السورية، من منظار أوسع يأخذ في الحسبان حساباتها وصراعاتها الكونية، وتحديدًا في الشرق الأوسط، محدّدًا لمواقفها السياسية، بغضّ النظر عن مدى الضرر الذي تُلحقه بتطلّعات الشعب السوري، وبالكلفة الباهظة التي ترتّبها على السوريين.
خاتمة
عوامل كثيرة، يأتي في مقدّمها عنف النظام، دفعت موضوعيًا الثورة السورية نحو العسكرة. وكلّما تعمّقت ظاهرة العسكرة، كلّما انحسر النشاط المدني السلمي وضاقت مساحاته، لأنه من غير الممكن أن تستمر التظاهرات والفاعليّات المدنيّة السلميّة في ظل قصف الطيران والمدفعيّة ولعلعة السلاح. نعم! لقد أضرّت العسكرة بالثورة السورية، إلى هذا الحدّ أو ذاك، وأخّرت حصادها، ورفعت من كلفتها، وذلك من جانبين، أولهما: أن خفوت الصوت المدني السلمي، وامتداد زمن الثورة وما رافقه من فظائع، عمّق الانقسام المجتمعي، وأعطى النظام فرصته التي يريدها لإصباغ بعدٍ طائفيّ على الصراع، خاصّة عندما رفع شعار حماية الأقليات، واستدعى ميليشيات طائفية من العراق ولبنان وإيران، بحيث بات المقموعون في ساحات الصراع، في أغلبيّتهم، من لونٍ طائفيّ معين، والقامعون وداعموهم من لونٍ آخر، وكلّ ذلك تحت رعاية “الدولة”!؟ وربما هي المرة الأولى التي ترعى فيها دولة باسم القانون صراعًأ من هذا النوع، الأمر الذي سمح لكثيرٍ من الأطراف والجهات، في الداخل والخارج على حدّ سواء، بتوصيف الحالة السورية بـ “الحرب الأهلية”، وهي لم تصبح كذلك حتى الآن.
أما الجانب الآخر، فهو طغيان ظاهرة الكتائب الإسلامية على المشهد العسكري في الصراع، الأمر الذي استدعى موقفًا دوليًا مناهضًا أو سلبيًا، وأنعش خوفًا أقلويًا مكبوتًا استفاد منه النظام الذي كان لخياراته، ولطبيعة البيئات الاجتماعية الثائرة، إضافة إلى مواقف الدول الداعمة، دور في ذلك. كما يُلاحظ أن الكتائب الإسلامية، تحديدًا تلك التي قوامها سوري ومشاريعها سورية، عجزت عن التوحّد حتى الآن على الرغم من أيديولوجيّاتها الواحدة ومن تقارب شعاراتها وخطابها. أما تنظيما “النُصرة” و “الدولة الإسلامية- داعش” اللذان يحملان مشروعًا إسلاميًا متطرفًا وعابرًا للحدود -تحاول النُصرة ستره-، فقد أضرّا بالثورة السورية، خاصة داعش التي قاتلت الفصائل المعارضة أكثر مما قاتلت النظام، وسيطرت على مساحات واسعة في سورية أغلبها تم بتسهيل من النظام، ومارست عنفًا وإرهابًا موثقًا جيّش العالم ضدها وضد الثورة السورية في آن.
لم يغب الحراك المدني عن ساحة الثورة وإن خفت وهجه. فقد أثبت الشعب السوري، بحيويته وإصراره، أنه لن يوفّر أي شكل من أشكال النضال تتيحه الأوضاع السائدة؛ فما إن يتوقّف الرصاص حتى تخرج التظاهرات في شوارع القرى والبلدات والمدن مؤكّدة أهداف الثورة واستمراريّتها، هذا ما حصل في الغوطة وفي حلب وفي معرّة النعمان وإدلب وغيرها؛ وهذا هو رهان الثورة الأصيل، ثورة الحرية والكرامة، على أن تعاود الإمساك بمسارها من جديد، وعلى أنها ثورة قامت من أجل دولة وطنية حديثة ومجتمع ديمقراطي تعدّدي، وليس من أجل إحلال استبداد جديد محلّ استبداد سابق.
مركز حرمون للدراسات المعاصرة