شورش درويش
بضع مئات من الأمتار هي كل ما تبقّى من الرقعة الشاسعة لــ “دولة الخلافة”، أعداد الأسرى في تزايد مضطرد، والأرقام الواردة من الباغوز السورية تعكس ضعفاً في التخمينات والتقديرات الأولية لقيادة التحالف، ذلك أن أعداد المقاتلين المستسلمين، والذين تمّ تحييدهم، فاقت التقديرات الأوليّة لقوات التحالف. وفي حمأة المعارك المتواصلة، والتي يبدو أنها تقترب من خواتيمها، يطلّ السؤال بشأن عدم رغبة دول التحالف في التهليل لهذا الانتصار، ولعل مردّ الأمر إلى الاضطراب العيانيّ في سياسة دول التحالف، وفي مقدمتها الولايات المتحدة في ما يخص مسار بقاء قواتها، وما المراد من البقاء واستدامة وجود القوات في أرضٍ يلفّها الخصوم والمناوئون لسياسة التحالف المتمثّلة في دعم قوات سورية الديمقراطية (قسد)؟
في التاسع من يناير/ كانون الثاني الماضي، أعلنت “قسد” عن عمليتها الأخيرة في رحلة الإجهاز على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وفي سياق التسميات العسكرية، أطلق على الحملة المعدّة بعناية اسم “المرحلة الأخيرة”، في تأكيدٍ على أنّ التنظيم بات قاب قوسين من نهايته، بالمعنى العسكري، إذ إن تفوّق عناصر “قسد” مشفوع بدعم طيران قوات التحالف وضرباته المحكمة، وضيق المساحة المكشوفة، وصعوبة حركة مقاتلي “داعش”، وفوق ذلك انهيار معنويات المقاتلين الذين أثقل وجود عائلاتهم إلى جوارهم من حركتهم وقدراتهم التكتيكية، ليصرّح الناطق باسم “قوات سورية الديمقراطية” عن خروج ما لا يقل عن 67 ألف شخص من الباغوز، بينهم خمسة آلاف مقاتل من “داعش”، في حديث مشفوع بأرقام إضافيّة، وتفصيلات عن أعداد الجرحى وخسائر القوات المهاجمة.
على مقربة من إسدال الستار على المعارك الأخيرة، تقدّم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى الكونغرس، بمشروع ميزانية لعام 2020 والمتضمن مبلغ 300 مليون دولار المخصص لمكافحة “داعش” في سورية، كما أن هذا المبلغ قابل للزيادة، وفق الصلاحيات التي تتمتع بها وزارة الدفاع. وبالتالي، يمكن ملاحظة أمرين بخصوص مشروع الميزانية؛ الأول أن تدفق الدعم لـ “قسد” سيبقى على ما هو، والثاني أن أمد بقاء القوات قد يمتد إلى العام المقبل، بالإضافة إلى ما رشح عن صحيفة وول ستريت جورنال عن زيادة في عديد القوات الأميركية العاملة في سورية، لتبلغ ألف جندي. لذا، فإن هذه الأنباء، وبمعزل عن ضآلة المبلغ، وعدم وضوح مواعيد الانسحاب الأميركي، تزيد من إراحة “قسد”، وتشد من عصب تركيا وروسيا وإيران، وبالطبع النظام السوري.
في الأثناء، لا تسمح أجواء الانتخابات المحليّة التركية بالدخول في سجال تركي أميركي مفتوح، إلّا أن المؤكد أن تركيا ستواصل عملها في اتجاه إنهاء العلاقة الكردية الأميركية، وطرح بدائل متصلة بحفظ المصالح الأميركية في سورية، أو ستضطر مرغمة إلى المضي في الاتجاه المعاكس، وتوطيد الصلات مع روسيا وإيران، وربما دمشق. في الجانب الآخر، يأتي الاجتماع الأمني الثلاثيّ المنعقد في دمشق يوم الأحد الماضي، والذي ضمّ وزير الدفاع السوري إلى جانب رئيسي أركان إيران والعراق، بناءً على طلب دمشق لمناقشة التطورات مع اقتراب نهاية معركة الباغوز، ما يعني جهوزية الأفرقاء الثلاثة، واستعدادهم للسيناريوهات المحتملة، فضلاً عن تعزيز التعاون المشترك، في سبيل التضييق على الولايات المتحدة، ودفعها إلى الخروج ما أمكن، وإن كانت بغداد أقل حماسةً من دمشق وطهران في هذا المضمار.
أبعد من معركة الباغوز، ثمّة رغبة أميركية متجدّدة في البقاء، تعزّزها عوامل عدّة، منها الرغبة في احتواء أسرى “داعش”، وتعقّب القيادات المتوارية، ذلك أن الولايات المتحدة تعي إمكانية تجدّد التنظيمات المتشدّدة، والتي يولد واحدها من رحم الآخر، في ظل غياب القوّة الأمنية اللازمة، كما أن أميركا لم تعد تملك رفاهية إيكال مهمة مراقبة السجون إلى قوى محلّية، قد تفضي رخاوتها، أو تواطؤها، إلى تكرار عمليات الفرار الكبيرة التي وقعت في سجن بوكا وسجون عراقية أخرى. لذلك، من المرجح أن بقاء القوات الأميركية بات وثيق الصلة بالوديعة الثمينة في سجون “قسد”، مضافةً إلى ذلك الرغبة الأميركية المتمثّلة في التضييق على الوجود الإيراني المتنامي.
يبدو أن الطوق سيشتد على السياسة الأميركية في المرحلة اللاحقة، ومن كل حدب وصوب هذه المرّة. لذا قد يكون حدث الباغوز، الذي لم تحتف به قوّات التحالف كما ينبغي، نقطة تحوّل جديدة في سيرة الوجود الأميركي في سورية، إلّا أنه وفي مقابل اشتداد الطوق، وجب التذكير بأن أميركا لن تُعدم الوسائل أو الأسباب التي قد تدفعها إلى البقاء أمداً أطول من المتوقع.
المصدر: العربي الجديد