إبراهيم صموئيل
هل صحيح ما يُقال من أن الكتابة تُعامل صاحبها بالمثل: إذا صدَّ تصدُّ، وإذا جفا تجفو، وإذا انشغل عنها تنشغل عنه؟ عديد من الكتَّاب العرب اهتموا بالمقولة هذه، وحرصوا على منح معظم أوقاتهم للكتابة كي لا يقعوا في خطيئة حَرَدِ الكتابة أو صدّها أو جفائها أو هجرانها لهم.
أستاذنا الكبير نجيب محفوظ، عُرف عنه مواظبته -يوميًّا- على الكتابة وعدم الانقطاع عنها أشبه بحرصه على عدم التغيُّب عن عمله الوظيفي. وكذا لم يكفَّ روائينا حنَّا مينه عن اعتبار الكتابة توأم وجوده وحياته، فضلًا عن تحذيره الدائم للكتَّاب الجُدد الشباب بالقول: “إيَّاكم والكسل! اكتبوا واكتبوا واكتبوا بلا توقّف ولا تكاسل حتى تطوع الكتابة لكم، أو تمتثل أفكاركم وعوالمكم وهواجسكم للتعبير عنها نثرًا وشعرًا”. وقد حوَّل إدوار الخراط مكتبَه محرابًا يُمارس فيه -يوميًا- طقوسَ الكتابة كما يمارس الراهب التعبُّد في ديره، ولا يُغادره إلاّ لضرورة. ورحل نزار قبّاني بعد أن بلغت تركته لقرائه نحو خمسين عملًا من دواوين الشعر وكُتب النثر. أمّا شاعرنا ممدوح عدوان، فرغم رحيله المُبكّر نسبيًا (64 عامًا) فقد سجَّل اسمه على ما يربو عن ثمانين كتابًا في الشعر والرواية والمسرح والنقد والدراما التلفزيونيّة والترجمة وألوان ثقافيّة متنوّعة. واللائحة تكتظُّ بأسماء الكتَّاب الذين رأوا أن الحياة كتابة والكتابة حياة.
على الضفَّة الأخرى، سنلتقي كتَّابًا لم يأبهوا لمخاطر الصدّ والجفاء المُتبادل بين الكاتب والكتابة؛ إبراهيم أصلان لم يلتفت إلى ما قيل ولم يعمل بفحواه، بل ترك لروحه الحبلَ على الغارب؛ تعشق حين تشاء، وتصدُّ حين تشاء، من دون قلقٍ أو توجُّس، فلم يزد منجزه في القصة والرواية -خلال 77 عامًا عاشها- على سبعة كتبٍ. ومحمود درويش -رغم عدم غزارة إنتاجه- لم يتردّد في القول من أنه لو كان له أن يُعيد النظر في ما صدر له لحذف ثلاثة أرباع كتبه. ومن المعروف أن محمد الماغوط -على شهرته ومكانته الشعريّة- لم يُنتج سوى ثلاثة دواوين فحسب. وكذا اكتفى سعيد حورانيَّة، خلال حياته الثقافية كلّها، بمجموعات قصصيّة ثلاث فقط. أكثر من ذلك -وربما أغرب- أن أنطون مقدسي، العَلَم في الثقافة والفكر في سوريّة، رحل عن عمر يناهز الثمانين من دون أن يُصدِر كتابًا واحدًا. واللائحة تزدحم -هنا أيضًا- بأسماء كتَّاب عديدين، ولكنْ، ممَّنْ لم يروا قطُّ أن الحياة كتابة ليس إلاَّ.
ليس القصد مما سبق الوصول إلى استنتاج مفاده: “لا تكتبوا، ولا تطبعوا، ولا تنشروا إلَّا أقلَّ القليل!” ولا إلى استنتاج معاكس: “هبوا حياتكم كلَّها للكتابة”. فالكتابة كالعيش، طرائق وميول ورغبات وأمزجة، تستعصي على الضبط في قواعد أو تحذيرات أو حتى “نصائح” مهما كان محتوى النوايا الصادرة عنها.
مُؤدَّى القول هو أن طاقة الإبداع حين تتوفر في المرء لا تحتاج إلى أدوات تنقيب وأعمال حفر، على غرار التنقيب عن الثروات في باطن الأرض. حين توجد ستخضُّ صاحبَها وتتفجَّر من تلقاء وفرتها وشدَّة اندفاعها. ستُطارده كالهواجس والغرائز وتقضّ مضجعه، وتحتلُّ صوتَه، وتُملي نفسَها عليه رغمًا عنه. لا الرعاية تُوجِدها، ولا المنع يُلغيها. ما من خوفٍ على الموهبة الحقيقيّة حين تكون وتتوفَّر. ما من خوف على تبدُّدها وتسرّبها وضياعها.
الخوف، كلُّ الخوف، هوس النضح بعد النضح وصولًا إلى تجريف ما هبَّ ودبَّ من صالحٍ وطالح وغثّ، تحت وهمٍ مخادع مخاتل يوحي للكاتب أنه ينضح الماء الزلال كي يبلَّ به عروق العطاش الظمأى، وأنه -بذلك- إنّما يُحافظ على “الثروة العظيمة” لديه من الهدر دون المحتاجين إليها.
المصدر: جيرون