رندة حيدر
المراسم الرسمية التي أقامتها السلطات الروسية في موسكو لإعادة رفات جندي إسرائيلي فُقد قبل 37 عاماً في معركة بين الجيشين، الإسرائيلي والسوري، في بلدة السلطان يعقوب في منطقة البقاع اللبناني خلال الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982، والوفد الإسرائيلي الرسمي برئاسة بنيامين نتنياهو الذي طار، قبل أسبوع من انتخابات الكنيست (البرلمان)، خصيصاً إلى موسكو ليشكر الرئيس الروسي، بوتين، شخصياً، عكس، بصورةٍ غير مسبوقة، حجم النفاق المتبادل بين الطرفين. ويصل الإحساس بهذا النفاق إلى حدود الغثيان لدى سماع الرئيس الروسي يتحدث عن القيمة العليا التي يوليها الشعب الروسي لاستعادة جثث الجنود القتلى، وأنها قيمة مشتركة بين بلده وإسرائيل، وعن تأثره بمعاناة عائلة الجندي المفقود، ورغبته في إعادة رفات ولدها إليها.
ويبرز الاستخفاف بعقول الناس لدى قراءة الهراء الإسرائيلي عن الجهود الجبارة التي بذلتها الاستخبارات الإسرائيلية سنواتٍ للعثور على جثث مفقودي عملية السلطان يعقوب من دون جدوى، وعن الإنجاز “العظيم” للاستخبارات الروسية في العثور أخيراً على ما تبقى من الجندي المفقود في مخيم اليرموك في سورية، وعن استرداد إسرائيل بكل فخر! “حذاء” زاخريا باومل العسكري و”سرواله”. بالإضافة إلى الاعتراف الإسرائيلي بأن هذا كله لم يكن ليحدث لولا تعاون الجيش السوري.
عكست هذه الخطوة الروسية أسلوب تعامل بوتين مع إسرائيل الذي يقوم على التلاعب بالمشاعر، والدعائية، وحب الظهور بمظهر الدولة العظمى الراعية. وأمر آخر مغزى توقيت الخطوة التي كانت بمثابة هدية مجانية إلى نتنياهو، وساهمت كثيراً في تلميع صورته، عشية انتخاباتٍ، يعلم الكل أنها كانت بمثابة استفتاء على حكمه أكثر من أي شيء آخر. وجاءت هذه الخطوة بعد أسبوع من الصورة التاريخية التي جمعت نتنياهو مع ترامب، بعد اعتراف الأخير بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان. ما أظهر، مع الأسف، السباق بين زعيمي أقوى دولتين على دعم صديقهما الإسرائيلي بأي ثمن على حساب الآخرين.
ومما يثير الغضب أن يأتي خبر العثور على رفات جندي إسرائيلي مفقود منذ أكثر من ثلاثة عقود في سورية، فيما تنتشر في هذا البلد اليوم المقابر الجماعية لمواطنين أبرياء ومقاتلين قتلوا في سنوات الحرب ، بالإضافة إلى مئات الجهاديين من جنسياتٍ مختلفة. وما يدعو إلى العجب استيقاظ الحس الإنساني فجأة لدى بوتين حيال عائلة الجندي الإسرائيلي المفقود، بينما نراه يغض النظر ويتعامى عن المذابح وجرائم الحرب التي ارتكبت تحت أنظاره منذ تدخله العسكري في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015.
ما جرى هو تنازل عن الحد الأدنى لقواعد اللعبة السائدة في عملية تبادل رفات قتلى الجنود الإسرائيليين. ومعلوم أن هذه ليست المرة الأولى التي تستعيد فيها إسرائيل رفات جنود قتلى، لكن هذا كان يجري عادة في إطار صفقة تبادل للأسرى مع الفلسطينيين عامة أو مع حزب الله. ولذلك لا يمكن تفسير الموضوع سوى بأنه هدية روسية إلى نتنياهو، لكنها ليست من دون مقابل، فلا توجد هدايا مجانية في السياسة. والأرجح أن الثمن الذي سيطلبه بوتين من إسرائيل هو وقف هجماتها الجوية على سورية، وعدم عرقلة الجهود الروسية لترسيخ نظام بشار الأسد وتدعيمه.
ليس خافياً المغزى الواضح من إشارة بوتين إلى دور الجيش السوري الذي على الرغم من انشغالاته الكبيرة في الإعداد للمعركة العسكرية لاستعادة محافظة إدلب، وجهوده لإعادة بناء قواته وترسيخ نظام الأسد، وجد الوقت للعثور على رفات الجندي الإسرائيلي المفقود، فهل يسعى بوتين إلى الحصول على موافقة نتنياهو الذي أصبح اليوم رئيس حكومة إسرائيل المقبل الذي لا يقهر على تسليم روسيا، بصورة نهائية، معالجة الوجود العسكري الإيراني في سورية؟ وهل الإقرار الإسرائيلي بدور الجيش السوري مدخل لموقفٍ إسرائيلي داعم لنظام الأسد؟
الثابت اليوم أن عقيدة “معركة بين الحروب” التي طبقتها إسرائيل في محاربتها الوجود العسكري الإيراني في سورية محدودة النتائج، ولا يمكنها بأي شكل أن تحل جذرياً المسألة، ولا أن تفرض على الإيرانيين إخراج قواتهم من سورية. لذا يبدو اليوم أنه لا مفر أمام إسرائيل سوى القبول بالعرض الروسي. ومن هنا، يمكن الاستنتاج أن مسرحية استعادة الجندي ليست سوى واحدةٍ من حلقات تفاهم إسرائيلي – روسي بشأن صورة المستقبل السياسي لسورية.
المصدر: العربي الجديد