محمد خليفة
تواجه جماعات الاسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الأخوان حاليا أزمة مع الذات ومع الآخرين، وتعاني حرجا شديدا منذ انتفاضة الشعب السوداني على نظام عمر البشير، وحتى سقوطه. إذ لا يستطيع الاسلاميون التشكيك بمشروعية الانتفاضة على حاكم طاغية، لأن غالبيتهم أصلا استثمروا ثورات الربيع العربي منذ نهاية 2010 وحتى اليوم، وركبوا موجاتها التصاعدية، وزعموا أن ثورات الشعوب العربية منتج أخواني خالص، وبركة من بركاتهم!
من البديهي أنهم متعاطفون مع البشير ويشعرون بالخسارة الفادحة التي لحقتهم بسقوطه، بهذه الطريقة التي تعكس مدى السخط والنقمة عليه وعلى كل ما يمثله، إلا أنهم لا يستطيعون الاعراب عن مشاعرهم المتعاطفة مع النظام الساقط، ولا مشاعرهم السلبية ضد الشعب السوداني، وبقية الشعوب العربية التي تفاعلت بأعلى درجة مع انتفاضة السودان.
إنهم في ورطة حقيقية، وأزمة مع خصومهم ومع أنفسهم. ذلك أن نظام البشير كان نظاما اخوانيًا اسلاميا مائة بالمائة، وتجسيدا فعليا لفلسفتهم العقائدية الاجتماعية ونظريتهم في الحكم والسلطة والادارة والسياسة (الاسلام هو الحل)، وترجمة حقيقية لمدى التزامهم بالديمقراطية، وقدرتهم على حل مشاكل المجتمع، وتحقيق التنمية والعدالة، والحوكمة الرشيدة، وغير ذلك من المبادئ والمناهج التي يطرحونها ويتبنونها نظريا، ويبشرون بها الشعوب العربية والاسلامية.
إلا أن الانتفاضة العارمة الكاسحة التي أسقطت البشير ونظامه بعد ثلاثين سنة تمثل استفتاء حقيقيا على الحصيلة الخائبة، والنتائج السقيمة لهما. أو بعبارة أخرى تجسد الفشل والافلاس التام على كل الأصعدة.
فالبشير الذي استولى على السلطة في 30 يونيو 1989 بانقلاب عسكري دبره الجناح العسكري لجماعة الاخوان التي كان يرأسها د. حسن الترابي، وبدأ عهده بإعدام عشرات الضباط القوميين، ثم أسس نظاما سلطويا شموليا، لا يختلف عن نظام البعث في سورية، أو نظام القذافي في ليبيا، أو نظام علي صالح في اليمن. فألغى الدولة الوطنية، وأحل محلها دولة موازية وعميقة، يقودها رجال الحزب بواسطة تنظيمات وتشكيلات عسكرية وأمنية، أو شبه أمنية، تعمل على فرض برامجها الحزبية وفلسفتها العقائدية على الناس بالقوة.
البشير وشيخه حسن الترابي، وزمرتهما التي تضم علي عثمان طه، وأحمد هارون، وغازي العتباني، وعلى الحاج، وكلهم من شيوخ الاسلام السياسي في السودان، أقاموا وأشرفوا على سجون سرية خاصة، وشكلوا منظمات للتنكيل بالمعارضين واعتقالهم، ونهبوا أموال الدولة، وأفسدوا في الارض، وأفقروا الناس في بلد يعد من أغنى بلدان العالم، حتى ارتفع معدل الفقر لأكثر من 40%. وهؤلاء مسؤولون عن اقتراف جرائم ابادة وجرائم ضد الانسانية وثقتها المنظمات الدولية، وخاصة في دار فور والجنوب بواسطة عصابات الجنجويد التي قتلت المدنيين، واغتصبت النساء، بشكل واسع، وهو ما جعل محكمة الجنايات الدولية تصدر مذكرات اعتقال بحق البشير وعدد من قادة جيشه ونظامه.
وفي الجنوب حول اسلاميو السودان الصراع المستمر منذ نصف قرن بين السلطة والحركات الجنوبية الانفصالية من سياسي الى ديني، وعبأوا المؤيدين لحربهم لكونها كحرب النبي مع الكفار! وللأسف ورط هؤلاء كل جماعات الاخوان في العالم، في هذه الحرب العدوانية على قسم من سكان السودان، واتهموهم بالكفر والخيانة وأحلوا لأنفسهم قتلهم بكل وسيلة، مما أدى لتفاقم الأزمة، وأعطى للدول الغربية المتربصة الفرصة والحجة للتدخل وفرض الانفصال، ووافق البشير وجماعته على أسوأ حل، لم يقبل به أحد قبلهم. بل إنهم هيأوا الفرصة لانفصال دارفور أيضا، وتمزيق البلاد بسبب ممارستهم للسلطة الدينية على بلد يحوي اقليات مسيحية كبيرة، فضلا عن جرائمهم الكبيرة والكثيرة التي اقترفوها حتى آخر يوم في عهدهم الغابر، فنائب الرئيس علي عثمان أطل في فبراير من شاشة التلفزيون الرسمي ليهدد الشعب بتدخل (كتائب الظل) أي المنظمات الحزبية السرية، وهي تشبه الشبيحة والدفاع الوطني في سورية لإخماد الانتفاضة، والدفاع عن النظام والرئيس البشير.. إلخ!
الاخوان المسلمون، وجماعات أخرى كثيرة كانت ارتبطت بنظام البشير على مدى ثلاثين سنة، كجماعة الجهاد المصرية المتطرفة، وتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن الذي أقام في الخرطوم خمس سنوات، وتعاون مع البشير في التآمر على الدول المجاورة، من مصر الى ليبيا، ومن تشاد الى النيجر ومالي وتونس.
ونظرا للسجل الأسود للبشير وأخوان السودان ونتيجة لثورة الشعب عليه يحاول انصاره من الاسلاميين العرب التنصل من علاقاتهم معه، ويدارون حرجهم بعد سقوطه المدوي، ويتصرفون كما لو أن ما حدث لا يعنيهم، بينما يعلم الناس أن نظام البشير كان نظاما اخوانيا بامتياز، ويتحمل الاخوان عموما مسؤولية أدبية واخلاقية وسياسية عن جرائمه وانتهاكاته التي دمرت السودان ومزقته. لا اخوان السودان فقط، ولكن كل الاخوان، في كل البلدان العربية والاسلامية.