مهنّا بلال الرّشيد
قد يظنّ بعض المتابعين أنّ علم السّيمياء علم غريب عن الحضارة العربيّة أو وافد جديد إليها من هذه الحضارة أو تلك، والحقّ أنّ هذا العلم علم عربيّ أصيل في الحضارة والثّقافة العربيّتين. ومن مشهور الموروث العربيّ في هذا المجال، قول الأعرابيّ:
(البعرة تدلّ على البعير، والخطوة تدلّ على المسير، فأرض ذات فِجاج، وسماء ذات أبراج ألا تدلان على العليّ القدير)؟!
وفي الآية الكريمة رقم 29 من سورة الفتح: (سيماهُم في وجوههم من أثر السّجود).
ضلالات الإعلام السوري
أمّا علم السّيميولوجيا (Semiology) أو السّيميوطيقا (Semiotics)، بمصطلحاته المتعدّدة فهو علم حديث لدى الغربيّين، وإن جاء تعريف هذا العلم ومصطلحاته المتعدّدة كلّها من كلمة (Semion) الإغريقيّة، وهي بمعنى الإشارة. وعلم السّيمياء العربيّ، هو علم الإشارات أو العلامات في أقصر تعريفاته، وهو – في معناه الدّقيق – علمٌ يُعنى بدلالات العلامات والرّموز والصّور والمفاهيم والأفكار، وبهذا فهو علم أوسع من علم اللّسانيّات، الّذي يركّز على دراسة العلامات اللّسانيّة/اللّغويّة؛ حيث يتجاوز علمُ السّيمياء علمَ اللّسانيّات ليدرس أنظمة العلامات اللّسانيّة وغير اللّسانيّة؛ فيدخل في مجال علم السّيمياء أنظمة التّواصل الرّقميّة والأيقونيّة، وكلّ ما يمكن توظيفه في مجال التّواصل والاتّصال؛ كالنّار والدّخان والرّياح والأبنية والصّور والأعلام والإشارات والرّموز والأشكال والأرقام والأيقونات. ولهذا نجد في المعجم العربيّ تعالقًا بين علم السّيمياء وعلوم أخرى كعلم الكيمياء وعلم اللّسانيّات وعلم التّأويل وعلم الفِراسة وعلم الدّلالة.
ولأنّ المتلقّي العربيّ وريث أجداده القدماء من أهل الفِراسة، فقد بات من الصّعوبة بمكان أن تستخفّ وسائل الإعلام المعاصرة بعقله تارة، أو تستغبيه وتُدلِّس عليه تارات أخرى، ولا سيّما قنوات الإعلام الممانع منها، وهي تقدّم تأويلاتها العجائبيّة وقراءاتها غير المنطقيّة لكثير من الصّور والأحداث اليوميّة، الّتي عايشناها مع انطلاق الثّورة السّوريّة على أقلّ تقدير؛ كأن تؤوِّل إحدى هذه القنوات خروج المتظاهرين ضدّ بشّار الأسد في دمشق بتعبيرهم عن فرحتهم وابتهاجهم بهطول المطر، وتفسِّر مطالب الطّلّاب المكتوبة في يافطاتهم المرفوعة في مظاهرة كلّيّة الآداب في جامعة حلب بالمؤامرة الكونيّة المدسوسة في كرتونة.
ومع استمرار الثّورة السّوريّة ودخولها عامها التّاسع كثرت المنشورات المكتوبة والصّور الثّابتة والمتحرّكة الّتي يجيد المتلقّي العربيّ عمومًا، والسّوريّ خصوصًا تأويلَها في إطار خبراته الموروثة، فوجدت غالبيّة المتلقّين السّوريّين نفاقًا وانحطاطًا لا مثيل لهما، في صورة الممثّل السّوريّ زهير عبد الكريم، وهو يضع على رأسه (البِسطار/البوط) العسكريّ، بما يفوح منه من روائح القمع والظّلم والاستبداد، ناهيك عن روائح الجوارب النّتنة والمتعفّنة في ظلّ انقطاع الماء والغاز والكهرباء وعدم قدرة نظام بشّار الأسد على تقديم مستلزمات الحياة الضّروريّة، ليس لمرتزقته وميليشياته المنسيّين فحسب، بل لطبقة المرتزقة الّتي كانت مدلّلة في يوم ما، كطبقة الممثّلين الّذين لم يتوانوا عن التقاط الصّور وتسجيل المشاهد المرئيّة؛ لنقد الدّولة، والكشف عن معاناتهم، أو التّذكير بأنفسهم على أقلّ تقدير، كحديث الممثّلة أنطوانيت نجيب عن حبّها للحذاءَ العسكريّ.
وصورة الممثّل الآخر باسم ياخور مع أسطوانة الغاز، أضف إليها منشورات بعض الممثّلين وأحاديثهم المؤيّدة لكلّ ما يقترفه بشّار الأسد ونظامه في حقّ السّوريّين، كأحاديث: بشّار إسماعيل وأيمن زيدان وشكران مرتجى وسلاف فواخرجي وسلمى المصري وكلام نقيب الفنّانين السّوريّين زهير رمضان.
الرّد بالسخرية
ولم يخفَ على طائفة كبيرة من المتلقّين العَوَزُ الكبير والفقر الشّديد الّذي دفع مغنّيًا مثل علي الدّيك إلى الظّهور في قناة لبنانيّة تُعارض أفكار الدّيك وبشّار الأسد معًا، وتؤيّد حقّ الشّعب السّوريّ ومطالبه المشروعة في الدّيمقراطيّة والحرّيّة والكرامة والعدالة والانتقال السّياسيّ والانتخابات النّزيهة بعيدًا عن ظلم الأسد وجوره ورغبته في إنهاء الثّورة من خلال القمع للحفاظ على السّلطة والمضيّ في سياسة التّوريث، وقال بعض المتابعين
لو كان علي الدّيك مخلصًا لإعلام بشّار الأسد أو لم يكن خائنًا له لرفض الظّهور على تلك القناة، ورأى آخرون أنّه لو لم يكن في فقر مدقع لكان مثل هذا الظّهور مستحيلًا.
وخلصت فئة أخرى إلى أنّ خلاف الدّيك مع سلام الزّعتريّ حول بيع حافظ وبشّار الأسد الجولان كان تمثيليّة مكتوبة ومتّفقا عليها قبل الحلقة لتبرير ظهور الدّيك على قناة معارضة لإجرام بشّار الأسد، ولتصويره بطلًا أمام جمهور المقاومة على النّحو الّذي صُوِّر فيه كلّ من حسن نصر الله وحافظ وبشّار الأسد أبطالًا قوميّين لعقود من الزّمن. لكنّ دريد لحّام لم يرضَ كعادته إلّا بدور البطولة في مجال النّفاق والتّمثيل- حسب طائفة جديدة من المتلقّين-عندما صوّر نفسه وهو يوقّع على قرار بالتّنازل عن واحدة من الولايات الأمريكيّة للمكسيك، بطريقة ذكّرت المتلقّين بمسح وليد المعلّم أوروبّا من خريطة العالم.
الزعيم القزم
كثيرة هي الصّور الّتي يجيد المتلقّي العربيّ قراءتها وتأويلها بخلاف التّأويلات المؤدلجة؛ لتتنوّع ردّات فعله تجاهها بين الغضب والحَنَق والامتعاض والسّخرية والتّهكّم. وهنا نتذكّر بعضًا من تعليقات المتابعين الغاضبة بسبب صورٍ لاحتفال سوريّ رسميّ أوّل بمناسبة وضع نصب تذكاريّ للحذاء العسكريّ، وتعليقات أخرى على صورة ثانية لقصّ الشّريط الحريريّ بعد الافتتاح الرّسميّ لواحدة من آلات السّحب الآليّ للنّقود، ووصفها متابعون أنّها واحدة من أهمّ منجزات الحركة التّصحيحيّة، والحركة التّصحيحيّة – لمن لا يعرفها- هي الاسم الرّسميّ لانقلاب حافظ الأسد في 16 تشرين الثّاني/نوفمبر عام 1970. وضمن إطار السّخرية والتّهكّم ظلّت تعليقات الطّائفة الكبرى من متابعي الإعلام الرّسميّ السّوريّ، وهو يعلن احتفاظه بحقّ الرّدّ بعد كلّ ضربة تتلقّاها مواقعه ومواقع ميليشياته من هذا الجيش أو من تلك النّاحية.
لكنّ النّصيب الأكبر من القراءات الدّلاليّة المعبّرة حظيت بها صور بشّار الأسد عندما التقى بكلّ من خامنئي وروحاني وبوتين، وهو يقف محنيّ القامة الطّويلة، شابكًا يديه خلف ظهره في سوتشي، وصورة ثانية يقف فيها خلف الخطّ الأصفر في ما بعد بوتين، وصورة ثالثة يسحبه فيها أحد جنود روسيا إلى ما وراء بوتين، برغم وقوفهما على أرض حميميم السّوريّة، وصورة رابعة يجلس فيها بشّار بجوار خامنئي، ولا عَلَم خلفه، ولا شيء بجواره يدلّ على سوريّته، أو يُمكّن الأجيال المقبلة من معرفة انتماء الشّخص الجالس بجوار خامنئي بعد استدعائه، وحمله فجرًا إلى إيران، وإعادته إلى سوريا قبل الإعلان عن تلك الزّيارة التّاريخيّة المهمّة.
جيل الفراسة المهموم
مع تطوّر وسائل التّواصل الاجتماعيّ وازدهارها الكبير لم يعد فقط خبراء الفراسة ونقّاد السّيمياء وأساتذة علم الدّلالة ومدرّبو لغة الجسد وحدهم الّذين لا يتركون نظرة أو حركة دون تفسيرها على هذا النّحو أو تأويلها في هذا الاتّجاه، بل صار بإمكان روّاد وسائل التّواصل الاجتماعيّ جميعهم أن يقدّموا قراءاتهم المتعدّدة لهذه الصّورة أو تلك، فكم سيكتب هؤلاء المتابعون عن سيمياء هذه الكميّة الكبيرة من الصّور الثّابتة والمتحرّكة، الّتي تزداد يومًا بعد يومٍ مع استمرار الثّورة السّوريّة، ومن الرّاجح أنّ كتاباتهم عن دلالاتها لن تكون حملًا خفيفًا على أصحاب تلك الصّور، وقد تُتعب ورثتهم من بعدهم لسنوات مقبلة، ولربّما لأجيال وعقود.
المصدر: القدس العربي