قانون العقوبات الأميركي ضدّ النظام السوري المعروف بقانون “قيصر” الذي دخل حيّز التنفيذ أمس الأربعاء، يعني كثيراً بالنسبة إلى إيران، وربما هي المعنية به بالدرجة الأولى أكثر من روسيا، الحليف الآخر للنظام، وحتى أكثر من الأخير نفسه، وذلك لأنّ مفاعيل القانون وتداعياته، تتعدى إلى ما هو أبعد من الحليف المباشر، إلى أذرع إيران في المنطقة، وأبرزها “حزب الله” اللبناني. وقد بدأت ارتدادات القانون في لبنان تظهر بنحو جليّ حتى من قبل تطبيقه. الشعور بخطورة قانون “قيصر” دفع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، إلى كسر الحظر الذي فرضه فيروس كورونا منذ أربعة أشهر على زياراته الدبلوماسية، ليطير سريعاً إلى تركيا، ومن ثمّ إلى روسيا أخيراً، وذلك بحثاً عن روادع في مواجهة القانون، سواء في إطار عملية “أستانة” المتعلقة بسورية، أو في سياق التنسيق مع روسيا، المعنية هي الأخرى بالقانون.
تحرك إيران السريع جاء مدفوعاً من إدراك أنّ المستهدف الأساسي من قانون “قيصر” هو نفوذها في المنطقة، وتحديداً في سورية، التي تحظى بثقل استراتيجي في الحسابات الإيرانية الإقليمية. وانطلاقاً من فهم القانون في السياق الإقليمي للصراع الإيراني الأميركي، فإنه ينقل المعركة مع طهران إلى مرحلة جديدة، لكونه يمثل نقطة تحوّل في استهداف أذرعها بالسلاح “الفتاك” نفسه، الذي لطالما استخدمته واشنطن ضدّ طهران منذ أكثر من عامين بعد انسحابها من الاتفاق النووي، أي العقوبات أو “الحرب الاقتصادية الشعواء”، حسب التسمية الإيرانية.
وبالتوازي مع دخول قانون “قيصر” حيّز التنفيذ، تشهد بقية عناوين الصراع القديم المتجدد بقوة بين طهران وواشنطن تصعيداً هي الأخرى هذه الأيام، خصوصاً في ما يتعلّق بالملف النووي، الذي تسعى الإدارة الأميركية لإعادته إلى مجلس الأمن، وسط احتدام الخلافات بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية والأطراف الأوروبية للاتفاق النووي كذلك، فضلاً عن تصاعد التوتر بين طهران والأمم المتحدة على خلفية تقرير الأمين العام للأخيرة، أنطونيو غوتيريس، أخيراً حول استخدام أسلحة إيرانية في هجمات على السعودية عام 2019، فيما يتوجه الكونغرس الأميركي نحو فرض عقوبات جديدة غير مسبوقة على طهران.
وسط هذا التصعيد المركب في مختلف الاتجاهات والمجالات مع طهران، يطرح بدء سريان قانون “قيصر”، تلقائياً، تساؤلات ملحّة عن تأثيراته المحتملة، سياسياً وعسكرياً، على السياسة الإيرانية في سورية. فعلى المستوى السياسي، لا شكّ في أنّ القانون الأميركي يضع إيران في سورية أمام تحديات جديدة في لحظة حساسة جداً، أرادت استثمارها لتعزيز نفوذها ودورها في هذا البلد، بعدما تبدلت موازين القوة في الميدان لمصلحة النظام السوري، إذ أرادت طهران إلى جانب موسكو ترجمة “النجاحات” العسكرية في ترتيبات سياسية معينة، بما يضمن بقاء النظام السوري ورئيسه بشار الأسد من جهة، ويعزز نفوذها وحضورها في سورية من جهة ثانية. إلا أنّ “قيصر” الأميركي جاء ليمنع إيران من هذا الاستثمار، وليحدّ من تأثيرها في مرحلة ما بعد التغييرات الميدانية العسكرية، عبر إرباك المشهد، وخلط الأوراق من جديد. إذ يستهدف القانون حرمان النظام الحليف لطهران أهم مقومات تثبيته، عبر شلّ الاقتصاد السوري، ومنع إعادة الإعمار، الأمر الذي يضع هذا النظام أمام أزمة اقتصادية خانقة، لا يملك مفاتيح الخروج منها. وهنا عندما يصبح الجسم الذي تعتمد عليه طهران في وضع هشّ كهذا، وتتهدد مقوماته، فمن شأن ذلك أن يُدخل مجمل السياسة الإيرانية في سورية في مرحلة حرجة قد تطيح ما كانت طهران تخطط له لتعزيز النفوذ والحضور بعد تحولات موازين القوة ميدانياً.
وتتجاوز التحديات التي يشكلها “قيصر” للسياسة الإيرانية في سورية، مسألة التهديدات التي يوجهها إلى النظام السوري الحليف، إلى أنّ القانون قد يُفقد أيضاً طهران إحدى أهم أدوات مواجهة التحديات الناجمة عنه في سورية، إذ إنّ القانون يُؤسس لوضع جديد وخطير في لبنان، ما من شأنه أن يشغل “حزب الله” على حساب حضوره في سورية في هذا التوقيت الحساس.
فضلاً عمّا سبق، من أهمّ تبعات العقوبات الأميركية المشددة، التسبب بتدهور خطير في الوضع الأمني بالمناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري، ليفرض ذلك تحديات أمنية وعسكرية خطيرة مختلفة عن سابقاتها، على إيران والفصائل المسلحة المقاتلة إلى جانبها في سورية. ولعل التظاهرات والاحتجاجات التي خرجت أخيراً في بعض هذه المناطق تمثل إنذاراً مبكراً في هذا الاتجاه، إذ لا يستبعد أن تضع هذه العقوبات إيران وحلفاءها في سورية أمام ثورة جياع.
إلا أنّ قانون “قيصر”، إلى جانب تهديدات وتحديات كبيرة يفرضها على طهران في سورية، سياسياً وأمنياً، فإنه في الوقت نفسه قد يشكل فرصة لها، ولو خجولة، لا تتوافر لغيرها. إذ إنّ القانون بحكم التهديدات الأميركية بفرض عقوبات على أي دولة تنتهكه من خلال مساعدة سورية اقتصادياً والمشاركة في ملف إعادة الإعمار، من شأنه أن يصرف هذه الدول، بما فيها روسيا عن ذلك، خوفاً من العقوبات الأميركية. وهو في المقابل يعني إخلاء الساحة لإيران، إذ لا يوجد ما يردعها عن تقديم مساعدات اقتصادية للنظام السوري، لكون الاقتصاد الإيراني محظوراً بالأساس، وسلاح التهديد بفرض العقوبات على التعاون الاقتصادي مع دمشق، ليس فاعلاً هنا مع طهران، إلا إذا أُرفق القانون لاحقاً بأدوات عملية أخرى لمنع الالتفاف على العقوبات ضدّ النظام السوري، مثل فرض حظر جوي وبحري وبري، وهذا مستبعد حالياً.
وفي السياق، أكد وزير الخارجية الإيراني، الثلاثاء الماضي، في أثناء زيارته لروسيا، أنّ بلاده لديها “روابط اقتصادية قوية” مع دمشق، مؤكداً أنّ طهران “ستفعّل جميع أدوات التعاون الاقتصادي مع سورية” في مواجهة قانون “قيصر”.
أمّا المساعدات التي يمكن أن تقدمها إيران لحليفها السوري، في ضوء أزمة اقتصادية تواجهها، هي نفسها بسبب العقوبات الأميركية، فإنها لن ترقى إلى حجم التحديات الاقتصادية التي سيواجهها النظام، ولن تشمل توفير موارد مالية له، لكون طهران نفسها تواجه أزمة في ذلك، لكن بإمكانها توفير مساعدات عينية من شأنها تخفيف الأعباء على دمشق، مثل المحروقات والأدوية ومواد البناء، وما شابه ذلك.
المصدر: العربي الجديد