منذ أن بدأت الثورة في سورية أخذ النظام يعمم فكرة أن الإعلام الداعم للثورة، والإعلام الخليجي، يفبركان الصور، لكي يُظهرا وحشية النظام، في إطار مؤامرة الإمبريالية على سورية. وأن كثير من الصور التي تُظهر العنف الذي يُمارس ضد التظاهرات هو فبركة تقوم بها قنوات فضائية. وأن كل الصور التي يصوِّرها ناشطو الثورة للتظاهرات، وحجم هذه التظاهرات هي فبركة. بينما كان النظام يعمم صوراً لمطاردة مجموعات مسلحة سلفية باعتبار أنها صور حقيقية، أو صورة لـ”تظاهرة للمعارضة” شعارها: المسيحية على بيروت والعلوية على التابوت، كونها صورة حقيقية كذلك. وكثير من الصور التي تُظهر مسلحين أو اشتباك مسلح كونها كلها صور حقيقية. بين الفبركة والحقيقة كان يضيع كثير من السوريين الذين كانوا في الأشهر الأولى للثورة لا زالوا مترددين، وكان هذا هو الهدف منها. بينما كان مؤيدو النظام من الممانعين يكررون خطاب النظام، فيصدقون ما يقول، ويعتبرون كل ما يعمم من ناشطي الثورة صور مفبركة في إطار “المؤامرة” على سورية.
بعد عام وشهرين ونصف خطب بشار الأسد في مجلس الشعب فأكد على “أنه في الستة أشهر الأولى لم يكن هناك سلاح ولا مسلحين”، و”أن هناك مطالب محقة”. هذا ما كرره بعد ستة أشهر نائبه حينها فاروق الشرع، الذي دعا الى حل سياسي. هذه الأشهر هي التي كان يقال إن صور الثورة مفبركة، وأن الصور التي يعممها النظام عن المجموعات المسلحة حقيقية. بالتالي أوضح بشار الأسد أن مَنْ كان يفبرك هو النظام، وأن المطالب المحقة هي التي دفعت الى التظاهر. لكن ذلك لم يؤثر على خطاب النظام، ولا تصديق الممانعين الذين ظلوا يكررون الخطاب ذاته ذاك الذي رُسم منذ اليوم الأول، وظل يتكرر في إعلام النظام وإعلام مشايعيه. لكن، بعد ذلك، كانت الثورة قد تجاوزت الحصار الإعلامي الذي كان النظام يحاول أن يفرضه عليها من خلال التشكيك في الصور التي تنقلها، وكانت الفئات المترددة قد حسمت أمرها فانخرط معظمها في الثورة. لهذا غابت الإشارة الى فبركة الصور، ولم يعد أحد يكررها. فكثرة الصور التي أظهرت حجم الشعب المشارك في التظاهرات كانت تُضعف خطاب النظام. وكان عنف النظام قد أصبح واضحاً بما يكفي. وكانت قد تشكلت جبهة النصرة ومن ثم تنظيم داعش، ومجموعات “إسلامية” أخرى، فلم يَعدْ النظام بحاجة الى فبركة الصور. أصبح الأمر “على المكشوف”، خصوصاً بعد تراجع التظاهرات الشعبية لمصلحة نشوء الكتائب المسلحة، وتحوّل الثورة الى حرب.
نتفاجأ بعودة خطاب فبركة الصور خلال الهجوم الوحشي على الغوطة الشرقية. خلال ذلك عرض بشار الجعفري ممثل النظام في الأمم المتحدة صورتين، واحدة لجندي يُنزل عجوزاً من شاحنة من خلال الانحناء لها لكي تتكئ على ظهره، وأخرى لمجموعة تلوّن وجوهها لتظهر في الصور كونها تعرضت للقصف بينما هي “تقوم بتمثيلية”، والهدف هنا هو إظهار فبركة الصور من قبل المعارضة. تبيّن أن الصورة الأولى هي لجندي عراقي، وأن الثانية هي لتمثيلية جرت في غزة. لم يُعتبر ذلك فبركة، ولا كذبٌ صريح، بل بدأ التركيز على أن صور القصف الوحشي على الغوطة، والتدمير الواسع، والأطفال القتلى، كلها صور مفبركة، وأن النظام لم يقصف بالأسلحة الكيماوية. عودة لافتة لخطاب الصور المفبركة، التي توصل الى أن كل هذا الدمار والقتل، وكل هذه الوحشية هي صور مفبركة. طبعاً لم يُفِدْ أن كل المدن والقرى والأحياء التي استعادها النظام ظهرت مدمرة بشكل كامل تقريباً، وهي صور نقلها إعلام النظام. وبالتالي لم يجرِ الاستنتاج أن كل هذا الدمار يعني أن هناك عشرات آلاف القتلى، وبالتالي أن الصور التي كان يبثها الإعلام المعارض صحيحة وليست مفبركة. فالوقائع تظهر وحشية القصف، ووحشية الدمار، وبالتالي هناك جرائم فظيعة. هذه “حالة كابوسية” ربما يحتملها هؤلاء الممانعون، لهذا لا بدّ من الهروب الى ما يشكك فيها. الشك هنا هو هروب الذات من ذاتها. بالتالي يحتاج الأمر الى إعادة إنتاج خطاب الصور المفبركة. فهذا يريح “الضمير”، ويكرّس استمرار الدعم لنظام مجرم. أن كل هؤلاء الممانعين يحتاجون الى خطاب الصور المفبركة، النظام يعرف ذلك جيداً، لهذا يعيد إنتاج خطابه هذا. حيث أن هؤلاء يحتاجون دائماً الى “إقناع الذات” بأن مواقفهم صحيحة رغم كل هذا الوضوح في ارتكاب الجرائم، بل كل هذه “الفظاظة” التي تُظهر كل تفاصيل الجريمة. هنا تجري مراوغة الذات للتمسك بالموقف الداعم للمجرمين، النظام، إيران وروسيا. يجري التعلّق بـ “كذبة” الصور المفبركة، والإصرار على صحتها، فكل هذا الدمار هو صور مفبركة، كل هؤلاء القتلى ممثلون أتقنوا الدور، وكل هذا القصف بكل أنواع الأسلحة الأكثر حداثة ليس هو من فَعَل كل هذا التدمير والقتل.
الأمر هنا يتعلق بمسخ الذات لكي تقبل واقعاً مرسوماً في الإعلام، كي تهرب من مواجهة الواقع الحقيقي. لهذا لا بدّ من فبركة العقل، أي لا بدّ من مسخ العقل لكي يقبل ذلك. هنا لا يتعلق الأمر بفبركة الصور بل يتعلق بمسخ العقل. نحن هنا إزاء عقل مفبرك لكي يقبل خطاباً واضح التزوير، وواضح الكذب. فالصور ليست مفبركة بل هي النقل المباشر لواقع قائم، هو في جوهره حملة من الإجرام الوحشي تقوم به طائرات وصواريخ وقذائف وكيماوي النظام وروسيا وإيران. ولقد أدى الى دمار نصف سورية دماراً كاملاً، وفرض تهجير أكثر من نصف الشعب السوري، وقتل مئات الآلاف منه. وهي أرقام سهلة المنال، وتعبّر عن عدد من جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية. والصورة نقلت ذلك لحظة بلحظة، لهذا كان يجب أن يجري الإقتناع أنها مفبركة، كان يجب مسخ العقل، لكي يظلّ الموقف داعماً لأكثر النظم إرهابية ووحشية تحت تبرير أنه “ضد الإمبريالية”.
النظام أعلن أنه سوف يفعل ذلك، وهو يفعله بوضوح، وبلا تردد أو خوف، ويقول: الأسد أو لا أحد. لكن يبدو أن هذه اللا أحد هي صور مفبركة. هكذا يريد العقل الذي يريد تبرير نظام وحشي، وإمبريالية هتلرية، وثيوقراطية جشعة.
ببساطة، إن قبول فكرة الصور المفبركة هي مرواغة ذاتية من أجل قبول دعم نظام “معادٍ للإمبريالية”، حتى وإن دمّر سورية. فأمام صور أطفال دوما التي تُظهر بوضوح شديد تعرضهم الى السلاح الكيماوي، وأمام الدمار الواسع الذي تُظهره الصورة المنقولة على تلفزيون النظام وحلفائه، يحتاج الممانع الى الخطاب الذي يحوّل له كل هذا الواقع الى صور مفبركة. فهو يحتاج الى أن يبرر موت ضميره، وانحدار قيمه الأخلاقية، وحيونته لذاته.