بعد تقديرات متباينة حول حقيقة موقف ترامب، من مستقبل الاتفاق النووي مع إيران، جاء قراره بانسحاب أمريكا من تلك الاتفاقية، التي تم التوقيع عليها في نيسان عام 2015 بين إيران ومجموعة ( الستة +1) مؤشراً سياسياً كبيراً على الصلة الوثيقة بين الموقف الأمريكي الجديد من إيران، والتصعيد الإسرائيلي الأخير، من خلال استهداف قواعد ومواقع إيرانية في العمق السوري، تتجاوز مستوى الاختراقات الإسرائيلية في السنوات الماضية، والتي كانت تشهدها الأجواء السورية بين الفينة والأخرى. هذه التطورات المتسارعة كشفت عن تبدّل في قواعد الاشتباك، ليس فقط لأن الخطر الإيراني من وجهة النظر الإسرائيلية، يتعدى المنطقة المحرمة ( الأربعين كيلو متر الفاصلة بين الحدود) وإنما يتعلق بالحسابات الإسرائيلية المستقبلية، وأهمها المخاوف من خروج التمدد الإيراني عن السيطرة في بيئة جيوبولتيكية متغيرة، وإعطاء رسالة قوية فحواها : إن دفاع إسرائيل عن الأراضي التي أقامت عليها احتلالها، يسبق ويعلو على مشاريع إيران في حماية مناطق احتلالها ونفوذها في الدول العربية.
ثمة عاملين يتيحان التصعيد الإسرائيلي ويوفران له مظلة سياسة ومناخ عملياتي :
(الأول) التغير الأمريكي الذي حسمه ترامب ضد إيران، خلافاً لسياسات سلفه أوباما في احتوائها، ووجود تطابق بين ترامب ونتنياهو في الخطوات السياسة والعسكرية التي يجب اتخاذها بهدف ردع إيران وتحجيم نفوذها على الأقل، ويُعتبر جون بولتون مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب، من أشد المنظرين والداعمين لهذا التوجه.
(الثاني) مراعاة روسيا وليس فقط صمتها، لحق إسرائيل في توجيه ضربات في كافة مناطق تواجد القواعد والمواقع الإيرانية في سورية، وقد تأكد ذلك عشية زيارة نتنياهو لروسيا في التاسع من أيار الجاري، وإعلانه عن تفهم روسيا المخاوف الإسرائيلية حيال إيران، ما يعني تهيئة مناخ عملياتي يتيح لإسرائيل الوصول لأي هدف إيراني دون أن يستثير غضب أو اعتراض موسكو.
منذ قصف مواقع للحرس الثوري الإيراني في الكسوة يوم الثلاثاء 8 نيسان، ثم رد ميليشيات موالية لإيران في اليوم التالي، بقصف صاروخي على مواقع إسرائيلية في الجولان، وما تلاه من هجوم إسرائيلي هو الأعنف، طال كل المواقع الإيرانية في سوريا “وفق المتحدث العسكري الإسرائيلي”. اتضح جلياً أن فصلاً ساخناً بدأ بين الطرفين، فتح بدوره على تقديرات وتكهنات مختلفة حول السيناريوهات المحتملة لهذا التصعيد، وما سيتداعى عنه من آثار ونتائج على الحالة السورية خصوصاً وعلى المنطقة عموماً، وانقسمت الآراء حيال تطورات الأيام الأخيرة، تبعاً لاختلاف الرؤى والمواقف من طرفي الصراع، فبينما حاول محور إيران ومن يدور في فلكه، إخفاء حجم الضربة الإسرائيلية، وإعادة إنتاج بروباغندا المقاومة وجهوزيتها العالية لمواجهة إسرائيل، جاءت تصريحات النظام السوري عن ضرورة ضبط النفس، تعبيراً عن مأزق النظام، وحقيقة الحرج الواقع به، بعد انكشاف ضعفه وحليفه الإيراني أمام تلك الضربات، رغم كل محاولات الاستعراض ونفخ العضلات. أما الأطراف والقوى المعادية لإيران ومشروعها في المنطقة العربية، فقد كان الاتجاه الأبرز فيها يرى : بأن طبول الحرب قد قُرِعت، وأن ترامب ونتنياهو قلبوا الطاولة على إيران، وأن الخسارة ستكون من نصيبها في النهاية. ويعزز هذا الاتجاه من رؤيته تلك، بربط الأحداث الأخيرة في سوريا، بنتائج الانتخابات اللبنانية، التي كرست هيمنة حزب الله ذراع إيران الأقوى على لبنان، وبأنه سبب إضافي لخوض معركة مفتوحة مع إيران وميليشياتها الحليفة، وضمن هذا الاتجاه تقديرات متفاوتة لحدود المعركة ومداها وتأثيراتها على الصراعات في المنطقة.
أمام هذين الاتجاهين في التعاطي مع التصعيد الإسرائيلي – الإيراني، لابد من عرض الحقائق التالية، كي نستطيع فهم تلك المستجدات الطارئة، والتقاط دلالاتها السياسية، ومعرفة الخيارات المحتملة، وإمكانيات وفرص توظيف هذا التصعيد بما يخدم قضية الثورة السورية، وقضايا التحرر والحرية في منطقتنا العربية:
أولاً : إن إسرائيل وإيران قوتين معتديتين، لعبتا أدواراً تاريخية في استباحة الحقوق والمصالح العربية، وفيما دعمت الحكومات الغربية ولادة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وأصبحت الولايات المتحدة هي الراعي الأكبر لضمان وجوده، فإن التمدد الإيراني في المنطقة العربية وتحديداً بعد احتلال العراق عام 2003، تم أيضاً وفق استراتيجية أمريكية، في استخدام إيران كمحرض للصراعات المذهبية والطائفية، وإثارة الانقسامات والحروب في المنطقة العربية. وبناءً عليه من الخطأ الجسيم محو تلك الحقائق أو القفز عنها، مهما تناقضت مصالح هذه القوى الغاشمة، أو اندلعت الصراعات بينها، ومن الناحية المبدئية السياسة والأخلاقية، فإن مشروع قوى الحرية والتغيير، يتناقض جذرياً مع كل أشكال الاستبداد والعدوان والاحتلال، ويتناقض بالضرورة مع ” قوى المقاومة ” التي ساندت وتحالفت مع النظام السوري وإيران، وتاجرت بقضية فلسطين وأضرت بمكانتها وعدالة قضيتها، بسبب تحالفها مع نظامٍ مستبد ومجرم.
ثانياً : إن نشوب الصراع بين إسرائيل وحلفائها في مواجهة إيران وأدواتها، يقوم على تضارب في جوانب مصلحية ونفعية بين مشاريعهما في المنطقة، وليس له أية علاقة بالدفاع عن الشعوب العربية، أو الدفاع عن قيم الحرية في بلادنا، وبناءً عليه من مصلحة شعوبنا، تطور هذا الصراع واحتدامه، بما يؤدي إلى إضعاف إيران وإنهاء وجودها في سوريا والعراق ولبنان واليمن، ودون أن نعطي إسرائيل في نفس الوقت صك براءة عن احتلالها وجرائمها في فلسطين والجولان، فالمفاضلة بين عدوين ليس أكثر من استبدال ظالم بآخر، فيما المطلوب هو التمييز بين سلوكهما، لمعرفة حجم أضرار كل منهما على المصالح الوطنية والقومية.
ثالثاً : إن الرهان على تطور هذا الصراع بينهما، لا يجوز أن يقوم على الرغبات والأوهام، بل على قراءة سياسية واعية وحذرة، تتلمس فهم التناقضات في مصالح كل منهما، ومستويات وحدود المواجهة بينهما، ما بين الانتقال من قواعد الاشتباك إلى حرب مفتوحة، أو إعادة رسم قواعد اشتباك جديدة، وما لذلك من تداعيات مختلفة، تفرض سياسات واضحة ومحددة في التعامل مع كلٍ منها. ونرى في ” تجمع مصير” أن المواجهة القائمة ونرجح استمرارها، هي أقرب إلى تغيير جدي في قواعد الاشتباك، من حرب مفتوحة وشاملة مع إيران، وفي جميع الأحوال علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الأثمان التي يسعى ترامب للحصول عليها، كرئيس لديه عقلية المقاول في إبرام الصفقات والمساومات، واستخدامه خطاب التصعيد كوسيلة لتحقيق أهدافه، وعدم الركون لأقواله ووعوده فقط، كمادة لمعرفة نواياه تجاه إيران أو غيرها من الملفات الساخنة.
رابعاً : وبصورة أولية إن الضربات الموجهة لإيران في سوريا، تسهم في فضح صورة النظام، بوصفه نظاماً مُنتهكاً من الخارج، وعاجزاً عن تبرير شرعيته المزعومة في حماية سيادة الدولة، وتكشف حقيقة دوره كأداة بيد حلفائه، كما أنها تزيد من التناقض بين كلاً من مصالح روسيا وإيران في الساحة السورية، وكلما أدت المواجهة إلى إضعاف إيران، سيعمل النظام على بيع إيران وزيادة تبعيته لروسيا، ومن شأن هذه التغيرات التي ستتوقف على مستويات التصعيد وخياراته، أن تؤدي إلى حدوث انقلابات كبيرة في التحالفات القائمة، قد تشمل الوجود الإيراني في الدول العربية الأخرى، ولذلك من الخطورة بمكان، أن تقوم بعض الفصائل الفلسطينية الحليفة والموالية لإيران، بتحويل الأنظار عما يجري في سوريا وهو الآن لغير مصلحة إيران، بافتعال مواجهات مع الطرف الإسرائيلي في قطاع غزة أو أمكنة أخرى، يتم من خلالها استخدام الورقة الفلسطينية، لتخفيف الضغوط الإسرائيلية على إيران، فالصراع الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي، يحتاج إلى برنامج وقيادة تضع مصالح وحقوق شعبنا الفلسطيني فوق كل اعتبار.
إننا في تجمع مصير ومع إدراكنا لأوضاع الثورة السورية في هذه المرحلة الصعبة، وضعف المؤسسات والهيئات المُمثلة لها، نجد في التطورات الأخيرة التي تشهدها القضية السورية، ضرورة وفرصة لإعادة استنهاض الواقع الذاتي لقوى الثورة، والتفكير الجدي بكيفية الاستفادة من تحولات المشهد وتطوراته المتسارعة. ونجد لزوماً التذكير بأن تعزيز وتقوية العامل الذاتي لقوى الثورة والتغيير، هو الشرط الأساسي للعب دور وطني فاعل ومؤثر، يشكل ضمانة الدفاع عن وحدة أرضنا وشعبنا وحقنا في نيل الحرية والخلاص..