أحمد ذيبان
في الحقيقة التاريخيّة، نرى أنّ أحداثًا معيّنة تطوي صفحة ثمّ تأتي أحداث أخرى لتفتح صفحة جديدة أو، ربّما تقوم نفس الأحداث – حسب ضخامتها – بالعملِيّتين معا. أمّا الصفحات، المطويّ منها والمفتوح، فتأتي نتيجة تراكمات لسنين طويلة من الأحداث المتتالية والمتشابكة والمعقّدة حسب المنطقة وتنوّعها وامتداد جغرافيّتها،
في منطقتنا، المنطقة العربيّة، يرى القارئ للتاريخ – بعمق – أنّ الصفحات لا حصر لها ولا عدّ نظرًا للموقع الجغرافيّ الاستراتيجيّ وللثراوات الهائلة وللتنوُّع القونيّ والدينيّ الذي ينتِج – بالضرورة تنوُّعًا اجتماعيًّا وثقافيًّا يؤدّي – في حالات الانسجام والانصهار – إلى بناء حضارات، وفي حالات التنافر إلى هدم تلك الحضارات والعيش في أجواء الفوضى والمجهول فالتخلّف والانهيار ..
ألصفحة الأولى التي فُتِحت، بعد اغتصاب فلسطين من قِبل عصابات الصهاينة المتبنّاة والمدعومة من قِبل أميركا وبريطانيا في ذلك الوقت، هي صفحة الثورة المصريّة بقيادة جمال عبد الناصر، وما تبِعَها من ثورات مشابِهة في كثير من البلدان العربيّة، التي جعلت من قضيّة فلسطين جزءًا جوهريًّا من مشروع نهوض وتوحيد الأمّة العربيّة وخاضت الحروب والصراعات العديدة في هذا المسار، كان آخرها حرب تشرين عام 1973، إلى أن انتهج الرئيس المصري الراحل أنوار السادات نهجًا مغايرًا لنهج الثورة وأبرم اتّفاقيّة “كامب دايفد” بين مصر والكيان الصهيونيّ ، ثمّ تلاه ملك الأردن السابق حسين ابن طلال فأبرم اتّفاقيّة “وادي عربة” ممّا ضيّق الخناق على منظّمة التحرير الفلسطينيّة بكل فصائلها، بعد الحروب التي تعرّضت لها في لبنان وأخرجتها منه، فاضطُرّت إلى توقيع اتّفاق “اوسلو”.
نأتي إلى صفحة جديدة فتحتها عمليّة طوفان الأقصى بعدما طوَت صفحة دامت عشرات السنين من تهميش قضيّة فلسطين ومن تعذيب وتقتيل شعبها وحرمانهم من أرضهم ومن أبسط الحقوق المدنيّة والانسانيّة..
جاءت عمليّة طوفان الأقصى نتيجة لتراكمات نضاليّة قامت بها الفصائل الفلسطينيّة لعشرات السنين من خارج الوطن المحتّل ومن داخله حيث اضطُرّت المقاومة بقيادة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، بعدما حُرِمَت من مناطق تواجدها في دول جوار فلسطين، إلى إبرام معاهدة “أوسلو” التي اعطتها حكمًا ذاتيًّا، في الضفّة الغربيّة وغزّة رأسَه عرفات حتى مماته ثمّ جاء من بعده محمود عبّاس فحوّله إلى أداة مراقبة وقمع في يد سلطة الاحتلال الغاصب ممّا جعل بعض الفصائل المقاوِمة وبعض الوطنيّين الفلسطينيّين ينخرطون في تشكيلات مسلّحة لمقاومة هذه الحال من هدر الحقوق ومن التعذيب والتنكيل والاعتقال والتقتيل اليوميّ المستمرّ. هذه التشكيلات تمثّلت بكتائب القسّام وكتائب شهداء الأقصى وسرايا القدس وغيرهم.
هذه الصفحة، التي فتحتها كتائب القسّام والفصائل المناضلة الأخرى ، تكتسب أهمّيّة قصوى لما لها من انعكاسات على مستوى المنطقة والعالم، ولها من النتائج الآنِيّة والاستراتيجيّة ما يجعلها من الصفحات الغنيّة بأجواء التفاؤل بمستقبل واعد للقضيّة الفلسطينيّة وللشعوب العربيّة كلِّها،
أولى هذه النتائج هي وضع الحل العادل – نسبيًّا – لقضايا الشعب الفلسطينيّ ابتداء بتشكيل دولته السيّدة الخرّة المستقلّة مهما طالت المفاوضات ومهما تعجرفت قوى الصهيونيّة وحلفاؤها في الخارج والداخل .
ثانيها، دخول المنطقة العربيّة في حال من الاستقرار الذي – بالضرورة – سيؤدّي إلى نهضة شاملة تمكِّن الشعوب العربيّة من استثمار طاقاتها في مجالات العلوم والتقنيّة الحديثة ممّا يسهم في تحقيق طموحاتها بحياة حرّة كريمة اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا أسوَةً بالأمم الأخرى في هذا العالم.
ثالثها، سينتهي حلم الصهيونيّة العالميّة وحلفائها، المتمثِّل في دولة من النيل إلى الفرات، ليجد نفسه مُقيَّدًا بمواثيق دوليّة تحوِّلُهُ من كيان القاعدة العسكريّة الدائمة، والمستمرّة الاستنفار، الفارض وجودَه بقوّة أميركا والغرب وبعض العرب والمسلمين المستفيدين من حضوره، إلى كيان يستجدي التعايش مع من حوله حيث – بالضرورة وبمنطق التاريخ – سيندثر شيئًا فشيئًا لأنّه سيضطرّ إلى العيش في ظروف مخالفة لطبيعته ووظيفته. لن تمضي بضع عشرات من السنين حتّى يصبح في خبر كان كما أصبح غيره عبر التاريخ العريق لهذه المنطقة .
رابعها، سينشأ – على الأرجح – شكل من أشكال الوحدة العربيّة تنضوي تحت لوائه الدول العربيّة القائمة بطريقة تحفظ خصوصيّة كل دولة على غرار الولايات المتّحدة الأميركيّة أو كندا.
خامسها، ستستطيع المجتمعات العربيّة المحافظة الكفاءات من أبنائها الذين سوف يكتشفون أنّ بقاءهم بين أهلهم أفضل لهم من الهجرة بسبب قلّة أو انعدام فرص العمل وأجواء الحدود الدنيا من الحرِّيّة المقبولة..
هذه النتائج الاستراتيجيّة فرضتها عمليّة طوفان الأقصى بقوّة الإرادة والإيمان بقضايا عادلة، وهذه القوّة سوف تتعاظم يومًا بعد يوم مهما تراكمَ أمامها من عقبات ومعَوّقات لأنّ طعم العبور الذي حصل سينتشر لعابُهُ في مدى كلّ أجيال العرب والتوّاقين إلى كسر القيود والعيش بحرِّيّة وكرامة ..
إذا تعثّر حصول هذه النتائج الاستراتيجيّة على قاعدة المفاوضات فسيأتي جيل جديد من المقاومين أشدُّ بأسًا وأصلبُ إرادةً وأعمقُ إيمانًا يكون كالطوفان يأخذ في طريقه كلّ رواسب الماضي ليبني الحياة، من جديد، على هذه الأرض المباركة..
المصدر: المدار نت / من كتاب طوفان الأقصى والزمن الآخر.