جمال الشوفي
تأخرت السويداء! لو أنها قامت مع ثورة عام 2011 لحُسمت الثورة من وقتها! تساؤل وأمنية تحتمل الإجابات المتعددة بحجم الفرضيات التي تجيب عنها.
في المقابل، لم تقدم السويداء خارطة طريق للحل الوطني في سوريا! وإلى متى ستبقون في ساحات التظاهر؟ وهل الأغاني والأهازيج ستسقط النظام؟ ما هو مستقبل سوريا؟ وكيف سيكون شكل الحكم فيها؟ وهذه أيضاً تساؤلات تتباين بين حدين واسعين، أولهما الإمكانية والمعادلة السورية، فيما ثانيهما قول جربنا قبلكم ولم تنجح سلميتنا ولن تنجحوا! إذاً، أين هي المعادلة التي علينا حلها؟
فرضيات غير مكتملة
شهدت الساحة السورية طوال الأعوام السابقة العديد من فرضيات الحل فيها. منها وأبرزها الثورة السلمية مقابل الثورة العسكرية، الدولة المدنية مقابل الدولة العلمانية، فيما عبر الشارع الثوري عن رغبته بالقول إن مشاركة دمشق العاصمة وحلب الصناعية والتجارية في التظاهر السلمي سيغير المعادلة السورية، كما ومشاركة السويداء كأقلية سيغير معادلة الثورة.
وبعيداً عن عودة الجدل في هذه الفرضيات، والتي طالما نوقشت إمكانيات ومعطيات أي منها، والتي أفادت سياقات الحدث السوري بتعدد مراحل الثورة وانتقالها من السلمية للعسكرة، ومن ثم للتدخلات الإقليمية والدولية الواسعة، هذا إضافة لتمدد وتوسع مساحات الثورة سلمياً وعسكرياً، ولكن لم تأت أي منها بنتيجة تحسم المسألة السورية.
وهذا ليس سوى مؤشر واضح على أهمية المعادلة السورية في المنطقة، والتي استدعت هذا الحجم الهائل لشتى صنوف التدخل في مساراتها، سياسياً وعسكرياً. وبالضرورة لا يمكن الحسم النهائي بأن فرضية بعينها خطأ أو صواب بالمطلق، بقدر القول عنها جميعاً إنها فرضيات لم تكتمل شروطها الموضوعية تماماً. فالسلمية رافعة هامة وأساسية في الثورات، ولكنها لم تتمكن من التغيير السياسي لمواجهتها بالعنف العسكري شديد الوطأة. والعسكرة أيضاً استدعت تدخلات إيرانية وروسية وقوى التحالف الدولي، وما رافقه من تنامي التطرف وحرب الميليشيات الطائفية التي خرجت بجُماعها عن سياق الثورة وإسقاط النظام أو التغيير السياسي.
كما أن دخول العاصمة دمشق والمدينة الصناعية حلب، رغم ما شكلاه من ثقل في المعادلة الثورية، لكانت النتيجة عام 2018 هو نهاية مطاف الحل العسكري وعدم اكتمال المعادلة.
فيما أن الجدل المستمر حول مستقبل الدولة السورية وصفاتها، لليوم كان وما زال محط خلاف واسع محمول على جملة من التوجهات الأيديولوجية والمحمولة على الرغبات والأماني، متجاوزة فكرة التعاقد الوطني وكيفية الوصول للمرحلة الانتقالية بالمبدأ، وانفتاح الحوار حول هذه المفاهيم والآليات. وليس فقط، بل تكاد تكون في غالبها غير مدققة في منحاها السياسي الفكري مع اختلاط بيّن بين النظري والإجرائي، لتبقى لليوم فرضيات تحتاج لزمنها وحيثياتها.
في معادلة السويداء، تأخرتم!
وتأخرتم سؤال يبدو إشكالياً في ذاته، فبعضه أمانٍ لاستعجال الحل السوري كما كان حول دمشق وحلب، ولكن في موقع آخر سؤال القنوط والتهكم! فالسويداء التي طالما كررنا أنها أقلية سورية شاركت في مظاهراتها في بدايات الثورة وواكبت حراكها السلمي والمدني حتى وإن كان نخبوياً وسياسياً. لكنها مع اشتداد العنف والتحول لمعترك وصراع متعدد الأجندات والأحلاف وتحوله لصراع ذي صبغة طائفية متشددة، نأت السويداء بنفسها عن المعادلة.
واختارت جملة من المعطيات الهامة في هذا الصراع: فقد فتحت منازلها أمام أطياف السوريين النازحين من دوائر العنف والصراع العسكري، من حمص، من درعا، الرقة، الدير، ريف دمشق وبمئات الآلاف. وأيضاً سحبت أبناءها من الخدمة العسكرية بعشرات الآلاف. واختارت طوعاً الحماية الأهلية المحلية ونأت بنفسها عن الخوض في الدم والمقتلة السورية، ورفعت شعار حرمة الدم السوري.
إذاً السويداء لم تتأخر عن المشاركة في الثورة السورية، بل شاركت فيها ولكن وفق رؤيتها الخاصة وبفاعلية هامة هو تحريم القتل والقتل المضاد. أما أن شارعها الشعبي لم يتظاهر بشكل واسع ضد النظام إلا في الصيف الماضي، فهذا الوصف هو تقطيع في الأوصال السورية، وعدم القدرة على رؤية مشهد المسألة السورية من كامل جوانبها، واختزالها في طائفية الثورة وحسب، وهذا قول يجافي حقيقة أنها ثورة لكل السوريين. فالثورة السورية ولكونها مفصلاً رئيسياً في معادلة الربيع العربي، وكيفية استقرارها والشكل الذي يمكن أن تصل إليه، سيغير وجه المنطقة برمتها. أضف لكونها ثورة جذرية تعددت مساراتها ولم تقتصر على السياسية والعسكرية منها وحسب، بل اجتاحت البنى المجتمعية كافة، وخاضت في معترك متعدد المستويات سواء على مستوى السلطة السياسية والسلطات الدينية والأهلية والأبوية، واتسعت لمساحات الجدال الفكري والثقافي، والذي سبق ووصفته بمسار التحولات الكبرى والمسار الشاق. وبالنتيجة مشاركة السويداء اليوم، ومنذ ما يزيد عن 250 يوماً من التظاهر اليومي السلمي إحدى محطاتها الهامة في هذا السياق متعدد المستويات والمحاميل، فلماذا يصر بعض قصار النظر على هذه الرؤية الأحادية الضيقة!
المعادلة التي تحاول الاكتمال
تشهد محافظة السويداء منذ منتصف شهر آب الماضي تظاهرات سلمية يومية وحراكاً ديمقراطياً واسعاً، بدأت بإضراب عام وإغلاق جزئي للأسواق والمؤسسات الحكومية، وإغلاق لمقر قيادة فرع حزب البعث الحاكم في مدينة السويداء، وعدد من المقار الحزبية في المدن والبلدات الأخرى. واتسعت رقعتها لتشمل غالبية قرى ومدن السويداء. كما واتسعت رقعت المشاركة فيها السياسية والمدنية والأهلية والدينية وبمشاركة نسائيّة حاضرة وفاعلة بقوة في حراكها السلمي، وحظيت بتأييد كامل من الرئاسة الروحية لطائفة المسلمين الموحدين الدروز، بالإضافة إلى عدد من الزعامات الاجتماعية والعائلية المؤثرة.
مطالب الحراك السلمي هذا واضحة، تتجلى في رفض النظام القائم والمطالبة بالانتقال والتغيير السياسي عبر تطبيق القرار الأممي 2254، والتأكيد على وحدة الأراضي السورية والهوية الوطنية ودحض أي اتهامات انفصالية، وما تخللها وبشكل يومي، من المطالبة بالمعتقلين والمغيبين قسرياً وتحقيق العدالة الانتقالية واسترداد الدولة من السلطة القمعية القائمة. ومع هذا لم تتغير المعادلة السورية! إذاً ما الحل؟ أو أين هو الخطأ؟
لا يوجد خطأ سوى التقليل من شأن التظاهر السلمي والمدني هذا، فهو الرافعة الفعلية لأي حل سياسي ممكن، ويكفي أنه يحجّم دور المنتصر العسكري الذي حققته روسيا وحلفائها الإيرانيون وسلطة النظام عام 2018 ولم يتمكنوا من فرض حلهم السياسي على الشعب السوري. فيما أن الحل هو سياق ممتد من الحراك المدني السياسي، لعودة الملف السوري لجدول عمل الأمم المتحدة والدول المتدخلة فيها، وما بينهما من إظهار أحقية الشعب السوري بحياته الحرة والكريمة، والإصرار على الخروج من المعادلات العنفية متعددة المحاور التي أنهكت السوريين جميعاً.
واليوم تشهد السويداء تعزيزات عسكرية غير مسبوقة، جعلت كل الأوساط المحلية أمام استنفار عام، فهي المتمسكة بالسلمية وتغيير السلطة القائمة تجد نفسها أمام تهديد كبير. فالمعادلة التي لم تكتمل في الأشهر الماضية، باتت اليوم أمام حدّين: إما اكتمال هيمنة هذه السلطة على آخر معاقل السلمية في سوريا، أو اكتمال المعادلة السورية حين تنفتح الوطنية السورية على السويداء دعماً وتأييداً معيدة ذاكرة ثورة عام 1925، ولكن هذه المرة من بوابة السلمية لا الحرب، وتحذير هذا النظام وميليشياته الملحقة بخطر ما يقدم عليه في السويداء. فأهالي السويداء كما كل السوريين محبون للسلام ويكرهون العنف، لكن فرض لغة الحرب سيغير كل المعادلات، ويحول أهازيج ساحة الكرامة لنخوات لا تقبل المساومة على الأرض والوطن والحرية، والأيام القادمة محطة لا مفر من خوضها ولا بد للمعادلة الوطنية السورية من الاكتمال.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا