يشير المسار العام في التعامل مع قضية المعتقلين في سورية، إلى إدراج هذه القضية الإنسانية الكبرى، التي تضرب على عصب الألم السوري بلا هوداة، في سياق الحصيلة السياسية المأساوية، التي كشفت عن فشل متتالي في إدارة الصراع مع النظام. ليس فقط لعدم حدوث تقدم ملموس في الجهود الرامية، إلى إنقاذ الأعداد الهائلة من ضحايا الاعتقال، مع استمرار عمليات التصفية المنظمة التي يرتكبها النظام بحقهم، دون حسبان لأية عواقب ناجمة عن جرائمه تلك. فثمة أسباب أخرى تضاعف من حالة العجز، التي يشعر بها ذوي المعتقلين خاصةً والسوريين عامةً، نتيجة تضاؤل الفرص والآمال باستعادة حياة وحرية، من ينطبق عليهم فعلياً وصف المختفين قسرياً أكثر من أي وصف آخر. من أبرز تلك الأسباب انحسار مهام الدفاع عن المختفين قسرياً بالمؤسسات السياسية والتفاوضية لقوى المعارضة، التي ينحصر دورها بهذا الصدد في مسارات التفاوض، التي لم تؤد طيلة السنوات الماضية سوى لمزيد من الخسائر التي طالت كافة أوضاع الثورة والحقوق المشروعة للسوريين. لا يغير من هذه الحقيقة إعادة تذكير من تولوا تلك المهام، على سبيل المثال بالبند 12 من القرار 2254، والذي يعتبرها إحدى المسائل الإنسانية التي تُعتبر ما فوق تفاوضية، لاسيما أن الواقع على الأرض في السنتين الأخيرتين على وجه التحديد، يؤكد أن العملية التفاوضية وبمختلف أشكالها، أصبحت مجرد غطاء لتوافقات وترتيبات بين الدول المتدخلة في الصراع السوري، لا وزن فيها ولا اعتبار للفريق الذي يمثل قوى الثورة والمعارضة، إلا بالقدر الذي يثبّت التنكر الدولي والإقليمي لمرجعيات ومرتكزات العملية التفاوضية أكثر مما ينفيها. ما يوضح أكثر الحدود الضيقة جداً في التعويل على معالجة قضية المختفين قسرياً من خلال المفاوضات، طالما أن التوافقات على إعادة تأهيل النظام تعني ضمنياً، إبعاد سيف الضغوط والملاحقة عن مختلف الجرائم والفظائع التي اقترفها بحق الأبرياء، وتمكينه كما تفعل روسيا بكل صفاقة من تحويل قضية المختفين والمغيبين قسرياً، إلى ملف جنائي يجب أن يطوى بالكشف عن مصير أشخاص قضوا لأسباب طبيعية (سكتات قلبية وجلطات دماغية).
من تلك الأسباب التي تضاعف أيضاً من اختزال قضية المختفين قسرياً، النشاط الحقوقي الذي تتولاه بعض منظمات المجتمع المدني الناشطة في مجال التوثيق، ومؤخراً توّجه بعضها إلى المحاكم الأوربية، لملاحقة مسؤولي النظام المتورطين عن ارتكاب انتهاكات ضد ضحايا الاختفاء القسري، فعلى أهمية هذا النشاط والجهود المقترنة به، يبقى محصوراً ضمن آليات قضائية ليست بمنأى عن الاعتبارات السياسية، ويبقى التعويل عليها في ردع مسؤولي النظام وسوقهم إلى العدالة، ذات أثر محدود عملياً في الفترة الراهنة وفي الأمد القريب على الأقل، لأن مؤشرات حماية النظام ورموزه من قبل المجتمع الدولي، أكبر من معطيات رفع الغطاء عنه. معرفتنا بذلك تفرض عدم المبالغة بالنتائج المتوخاة، من طرق أبواب القضاء الدولي، لفضح مجرمي النظام أمام العالم، ليس تقليلاً – كما سبق – من قيمة وأثر كل هذه الجهود. إنما لأن المطلوب والملح في آن: هو الانتقال في ضوء تعثر المسارات السياسية حتى على صعيد القضايا الإنسانية، إلى البحث الجدي في كيفية تحويل قضية المختفين قسرياً، إلى قضية إنسانية وطنية، نملك حيالها خطة عمل متكاملة شعبياً وسياسياً وقانونياً وإعلامياً، بما يحيلها إلى قضية رأي عام في مختلف المنابر والمؤسسات الدولية، وعلى الصعيدين الرسمي والمجتمعي. لا مناص من القيام بهذه المهمة التي هي واجب في أعناق كل السوريين، المهجوسين بالحرية وبمصير من ضحوا من أجلها، سيما أنها القضية التي توحدنا جميعاً بغض النظر عن خلافاتنا حول العديد من القضايا الفكرية والسياسية والإيديولوجية. إنها القضية التي تشكل أرشيفا ضخماً من الشهادات والأدلة القاطعة، على إدانة النظام وفضح جرائمه وفظائعه. لابد إذاً من تغيير في طريقة التعامل مع حقوق أكثر من مئتي ألف مختفٍ في أقبية وزنازين العار، التي أقامها نظام الإجرام الأسدي خارج نطاق القانون، كي تكون مسالخ بشرية تحصد أرواح السوريين، باستخدام أشنع وسائل التعذيب والقتل النفسي والمادي. لابد لهذا التغيير أن يقوم على خطاب قانوني وسياسي وإعلامي متكامل، يستند إلى استراتيجية وطنية في الدفاع عن ضحايا التعذيب والاختفاء القسري، وعلى تحركات شعبية منظمة في الداخل والخارج، تتميز بالاستمرار في تظهير قضيتهم بكافة وسائل التعبير ( ندوات – اعتصامات – وقفات تضامنية – معارض فنية – رسائل موحدة عبر التواصل الاجتماعي ) وبما يؤدي إلى استقطاب رأي عام تضامني واسع، يمارس بدوره ضغوطاً متواصلة على الدول والحكومات والمؤسسات الدولية، للوفاء بواجباتها الإنسانية والقانونية، وأولها إجبار النظام على السماح للمنظمات الحقوقية الدولية، بدخول كافة مراكز التوقيف والاعتقال والاحتجاز، كي لا تبقى مطالب الكشف عن مصيرهم، رهناً بسياسة التهرب والإنكار التي يستخدمها النظام، وكي لا تبقى أياديه طليقة بعد كل الجرائم الوحشية التي ارتكبها، والتي لا تسقط بالتقادم، طالما أن أصوات المدافعين عن حقوق الضحايا، تعلو وتكتسح حالة الصمت والتخاذل بكل دأب وإصرار وعنفوان.