يبدو حال الرقة اليوم بعد عام من “تحريرها”، شبيهاً بحالها لحظة سقوط النظام فيها وانحسار سيطرته (غيتي)
في الرقة، يكاد لا يمر يوم دون حادثة قتل أو تفجير مفخخة. قبل يومين، وبرصاصتين عن قرب في رأسه، قُتلَ بشير فيصل الهويدي، أحد أبرز أعيان مجتمع الرقة، وأحد شيوخ أكبر عشائرها؛ العفادلة.
ويعتقد أن اغتيال الهويدي سيخلط جميع الأوراق في المدينة، خاصة بعدما طرد الأهالي وفداً من “قوات سوريا الديموقراطية” جاء للتعزية، وهاجموه بالحجارة. ولم يصدر موقف واضح من “التحالف الدولي” أو الأميركان، إذ لم يشر مبعوث الولايات المتحدة إلى “التحالف الدولي” بريت ماكورغ، إلى اغتيال الهويدي بل قدم تعازيه بـ”موته”، في “تويتر”، وطالب بـ”العدالة” من “المسؤولين” عن “موته”.
ويبدو حال الرقة اليوم بعد عام من “تحريرها”، شبيهاً بحالها لحظة سقوط النظام فيها وانحسار سيطرته عنها في ربيع العام 2013. فوضى عارمة وتفجيرات واغتيالات يومية، زاد عليه تهتك وتفكك نسيجها الاجتماعي بتناحرات عشائرية وعائلية، والانتشار الواسع لزراعة وتعاطي المخدرات.
ويتزامن ذلك مع انحسار رقعة سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى أدنى حد لها منذ إعلان “دولة الخلافة” من جانب واحد في صيف العام 2013. وجود “داعش” انحصر بمستطيل ضيق محاذٍ لنهر الفرات لا يزيد طوله عن 50 كيلومتراً وعرضه بضعة كيلومترات في أقصى شرق محافظة دير الزور، بينما لا يزال يملك قدرات لوجستية وبشرية قادرة على إحداث قلاقل أمنية في معظم المناطق التي خرج منها.
الوضع الأمني القلق تزامن مع انتهاء مليشيا “قوات سوريا الديموقراطية” من تفكيك “لواء ثوار الرقة” ووضع قائده تحت الإقامة الجبرية في الرميلان شرقي الحسكة. وترافق ذلك مع توافد أنصار النظام إلى مدينة الرقة، وتسلل عناصر من “داعش”. الاغتيالات وتفجير السيارات المفخخة، تستهدف أفراداً ودوريات من “قسد”، ومعظمهم من المتعاملين المحليين. وفيما درج إعلام “قسد” على إلقاء اللوم على “داعش”، فإن الأمور تبدو أكثر تعقيداً على الأرض، إذ يشير من زاروا الرقة من أبنائها مؤخراً لتفقد أملاكهم أو ترميم بيوتهم، بأن الحال يشبه ما كان عليه أثناء سيطرة التنظيم على المدينة بين العامين 2013 و2017. أي حين “كنت تجد نفسك غريباً في مدينتك بسبب كثرة الأجانب والغرباء”، بحسب ما قالته امرأة خرجت مؤخراً متسللة إلى تركيا.
الوضع الأمني المتدهور في الرقة وعجز “قسد” عن ضبطه، دفع بالأميركيين للتدخل. ولاحظ سكان المدينة في 8 تشرين الأول/أكتوبر قيام جنود أميركيين، بعملية تفتيش في أحد المباني وسط المدينة، من دون معرفة طبيعة العملية. وهذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها الجنود الأميركيون في الرقة، إذ اقتصر دورهم على قيادة العمليات العسكرية الكبرى وبعض عمليات الكوماندوس الدقيقة ثم الإشراف لاحقاً، عن بعد، على تطور الأوضاع السياسية والأمنية في المناطق التي تسيطر عليها “قسد”.
كما عمدت القوات الأميركية خلال الأسابيع الماضية إلى إظهار بعض جنودها يساهمون ويشرفون على أعمال “إعادة إعمار” تقوم بها منظمات ممولة من قبل جهات أميركية تحت أنظار صحافيين أجانب.
مليشيا “قسد” درجت بدورها وبثبات على اتهام تنظيم “داعش” و”متسلليه” و”خلاياه النائمة” بارتكاب كل عمليات الاغتيال والتفجير في الرقة وأريافها من دون أن تقدم أية اثباتات على مزاعمها. لكن المتحدث الرسمي باسم قوى الأمن الداخلي علي الحسن، استخدم مصطلح “الإرهابيين” أثناء احتفالية أقامتها “قسد” في 27 تشرين الأول/أكتوبر بمناسبة مرور عام على “تحريرها” في معرض حديثه عن “القضاء على الخلايا النائمة المتوارية عن أنظار المدنيين، وإزالة الألغام والمتفجرات التي زرعها الإرهابيون، وحفظ فئة الشباب من مخاطر انتشار المخدرات وملاحقة مروجيها وتجارها”. والأرجح أن تغاضى المسؤول الأمني في “قسد” عن الإشارة إلى “داعش” ونسب كل ما يحدث في الرقة إليه، يمكن أن يكون اعترافاً ضمنياً بوجود أطراف أخرى في عمليات الاغتيالات شبه اليومية، إن لم يكن يُطابق فعلياً بين “داعش” و”الإرهاب”.
تعقد الواقع السياسي والأمني في الرقة يساهم في طمس حقيقة تعدد الأطراف المنخرطة اليوم في أعمال المقاومة، كما يموه دوافع كل طرف من هذه الأطراف، لكنه لا يلغيه. إلّا أن إلقاء اللوم على “داعش” في خطاب “قسد” المعهود، يمكن أن يخدمها بإيجاد وظيفة ودور لها بعد الانتهاء فعلياً من القضاء على التنظيم، في وقت تستشعره اليوم قريباً أكثر من أي زمن مضى.
الخريطة السياسية للمقاومة الناشئة اليوم في الرقة تقبل بسهولة القسمة على أربعة أطراف متنافرة الأهداف والبرامج في ما بينها، لكنها تتفق موضوعيا وظرفياً على تقويض مشروع “قسد” في المنطقة، ومن وراءه رؤية وإرادة “التحالف الدولي”. وأول هذه الأطراف، بطبيعة الحال، تنظيم “الدولة” الذي يبدو قادراً حتى الآن على إحداث قدر معين من الفوضى في المناطق التي انسحب منها، وإن بدا عاجزاً عن تحقيق عودة علنية أو استثمار إيجابي في ذلك.
الطرف الثاني هو النظام والمجموعات المرتبطة بها، خاصة تلك التي قاتلت تحت راية “قسد” أثناء معركة الرقة، ثم طردتها من مناطق سيطرتها بعد بسط سيطرتها على الرقة إلى شريط التماس مع النظام في القرى جنوبي الرقة. هذا بالإضافة إلى مجموعات دخلت الرقة في صورة مدنيين عائدين إلى بيوتهم من مناطق سيطرة النظام.
ويُضاف إلى هاتين المجموعتين، فصائل إسلامية وأخرى كانت تنتمي إلى الجيش الحر تعمل تحت الإدارة السياسية التركية، وهي غالباً من الفصائل التي رفضت الانضواء تحت مظلة “قسد” وفضلت انتظار “لحظة مناسبة تركية” كما حدث في عملية “غصن الزيتون” بريف حلب الشمالي.. وأخيراً، ما تبقى من “لواء ثوار الرقة” من أفراد ومن البيئة الاجتماعية المناصرة له والذين يُرجح أنهم يقاومون بإمكانيات وأدوات بسيطة.
وفيما يحاول كل طرف من الأطراف الأربعة المذكورة استغلال واستثمار الفوضى الأمنية القائمة في الرقة، بطريقته ولأهدافه، يعمل الطرف الكردي ممثلاً بمليشيا “قسد”، على فرض وقائع أمنية واقتصادية وبشرية جديدة تسير باتجاه مخالف. إذ يكاد لا يمر شهر من دون تخريج دورة جديدة من المقاتلين أو عناصر قوى الأمن الداخلي من أبناء المجتمع المحلي وزجهم في مواجهة بقية الأطراف، كوقود لصالح أجندته. كما يورط المزيد من سكان الأرياف الشمالية في زراعة الحشيش بدلاً من القطن، من خلال تمويل وحماية يوفرهما أكراد حصراً، وبدفع أعداد متزايدة من اليائسين من الأوضاع الاقتصادية والأمنية إما للانتساب إلى أو التعاون والتحالف مع مليشياته وقواه الأمنية أو إلى النزوح مرة أخرى، خاصة إلى مناطق النظام.
عملياً، تبدو مليشيا “قسد” في وارد تكرار تجربة تنظيم “الدولة” تجاه المجتمعات التي وقعت تحت سيطرتها، ولذلك يصعب تصور مصير مختلف لها عن ذاك الذي خطه التنظيم لنفسه.
المصدر: المدن