منير الخطيب
تقوم الحياة العامة المعاصرة على تأسيس راسخ لثنائية: التعدد والتنوع والاختلاف في مجالات الحياة كافة من جهة، و الوحدة في مجال الدولة من جهة ثانية.. تنتمي الاختلافات الطائفية والإثنية و المذهبية و الايديولوجية و السياسية إلى حيزات النسبي و الجزئي و الحصري، فيما تنتمي مفاهيم مثل: المجال الوطني، الدستور، الدولة، الأمة، المواطنة، إلى المجال العام أو الكلي الذي يتأسس بفعل إخضاع النسبيات إلى منطق و روح المُطلق.
كذلك، يتولّد الاستبداد من جراء احتلال المجال العام من قبل إرادة خاصة، نسبية، جزئية، حصرية، لا تعترف بالتعدد و الاختلاف و التنوع، أي تقوم بوضع نسبيّها في المشترك الاجتماعي العام، و تحاول فرضه تعسفياً و ديماغوجياً على أنه عام و كلي..
و هنا من المناسب استحضار هذا النص للراحل إلياس مرقص: «المطلق و النسبي ليسا شيئين، إنهما مفهومانِ و حدّان؛ المطلق مفهومٌ يحدُّ النسبي، و من ليس في روحه و فكره المطلق، يُحوّل نسبيّهُ إلى مطلق و ذلكم هو الاستبداد».
بهذا فرض حزب البعث إرادته الخاصة، التي غلفّت بدورها إرادة جزئية مذهبية أخرى، على المجال العام، مما أفضى إلى الإطاحة بالمفاهيم الكلية وأُسس الحياة العامة و الفاعلية المجتمعية، و بالتالي أدى إلى سيطرة ثنائية، «مجتمع جماهيري/سلطة توتاليتارية».
كانت الثورة السورية في آذار (مارس) 2011 في احدى أهم مناحيها عبارة عن انفجار تاريخي كبير في مواجهة تلك الإرادة الخاصة الغاشمة التي احتلت المجال العام، و التي كان يُستدّل عليها بمصطلح «الدولة السلطانية المحدثة»، كما عبّرت إرادة الحرية، لدى الحراك الشبابي السلمي العارم عن نزوع صميمي لكسر احتكار المجال العام من قبل تلك الإرادة الاستبدادية.
لكن إرادة الحرية تلك، التي قدّم السوريون في سبيلها ما يكفي لإسقاط كل أنظمة الاستبداد في العالم، لم تستطع الوصول إلى تشكيل مجال وطني سوري، و ذلك أساساً بسبب تراكب هذا الانفجار التاريخي الكبير و غير المسبوق، مع انفجار التأخر المجتمعي و انبعاث النسبيّات و الهويّات الحصرية، التي توهمت على أنها هويّات عامة و كلية، فضاع الكلي و العام، و فشل السوريون في تقديم أنفسهم للعالم الخارجي كمواطنين عموميين، إذ قدّموا أنفسهم فصائل و ميليشيات و منصّات تنتمي إلى ثقافة و علاقات القرون الوسطى، هذا بالطبع لا ينفي صحة ما قيل عن خذلان دولي لهم و انكفاء أميركي عن قضيتهم، و كذلك صحة ما قيل عن شراسة قهرية غير مسبوقة لدى النظام و الإيرانيين و الروس لكسر إرادة الحرية لديهم، لكن الأكثر صحة هو فشل السوريين في تشكيل مجال وطني سوري نتيجة غياب المطلق الأخلاقي و غياب العمومية في تصورات و أفكار تشكيلات طفت على السطح و عجزت عن مخاطبة العالم، مثل: المنصة و الحزب الايديولوجي و الفصيل المذهبي و الميليشيا المذهبية، و جميعها كائنات مُخرّبة لمفاهيم و أفكار تتصل بالمجال العام، و بوحدة الاختلاف، و بالهويّة كعلاقة مع الآخر المختلف، و بالتالي كانت كائنات فلكلورية، لم تعِ أهمية الارتباط الوثيق بين المسألتين الإنسانية و الوطنية، و أهمية إنتاج الذات كونياً و إنسانياً.
لقد أصبح واجباً نقد «ثورات الربيع العربي» في ضوء النتائج و المآلات التي انتهت إليها، و مع انفجار الموجة الثانية من هذه الثورات في كل من الجزائر و السودان، و من مداخل هذا النقد تصويب العلاقة بين مفهومي المطلق و النسبي بغية وضع الحدود على أوهام و خرافات الإرادات الجزئية، كإرادوية الإسلام السياسي و كإرادوية العروبة أو الكردية السياسيتين، و كإرادوية قوى «الممانعة»، فهذه إرادات مولدة للحروب و محكومة بعدم القدرة على تشكيل حياة عامة ذات مضمون إنساني.
إن جعل المطلق مفهوماً يحدّ النسبي، و يقيم الحد على نزواته و رغباته، يجعلنا نقتنع عقلياً و منطقياً أن الأديان الإبراهيمية الكبرى الإسلام و المسيحية و اليهودية، في طبيعتها العقيدية، هي أديان محلية غير كلية و تسييسها يؤدي إلى العصبية و العنف و التطرف، و إلى نشوء «دول» عنصرية عدوانية مثل «الدولة» المذهبية في إيران و «الدولة الإسرائيلية» و التنظيمات الإسلامية المتطرفة التي هي «دول» عنصرية عدوانية بالقوة.
و كذلك أن جعل المطلق حداً يحدّ النسبي، يدفعنا إلى رفع ألوية الكليات في مواجهة النسبيات، الحرية ضد الهوية، و النقد في معارضة النقد الثوري البنّاء، و المواطن الكلي حدُّ على مفهوم المواطن الصالح، و الدولة في معارضة «الدولة» الدينية، و القانون في مواجهة تحديد مصادر التشريع له، و الأمة كسيرورة تشكل حية دائمة و حاكمة على الملة كجثة قذفها جوف التاريخ إلينا، و الكونية في مواجهة الخصوصيات الإقوامية.
مع مرور ثمانية أعوام على انفجار إرادة الحرية لدى السوريين، بات منطقيا و أخلاقيا و معرفيا و ضروريا، نقد و دحض المبادئ الإبستمية التي غذّت الإرادات الجزئية الخاصة، التي صادرت الروح العمومية للثورة، و غلفّت استكلابها الحصري بقداسة مستمدة من أيديولوجيات دينية و غير دينية، لم يعد يفوح منها إلا روائح الموت و الخراب.
المصدر: الحياة