علي العبد الله
كثر الحديث، في تقارير الصحافيين وتقديرات المحللين السياسيين، عن توجه روسي لإخراج إيران من سورية في ضوء تباينات سياسية وميدانية صريحة برزت في الأشهر الأخيرة، وتصريحات روسية مباشرة عن ضرورة خروج كل القوات الأجنبية من سورية وموافقة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على مناقشة خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للتسوية النهائية في سورية، والتي تتضمن خروج القوات الإيرانية منها.
هناك قناعة روسية بأن الوجود العسكري الإيراني في سورية مصدر تهديد كبير لمصالحها، وأن هذا الوجود ينعكس سلبا على عملية إعادة الإعمار، إذ لن تسمح الدول العربية والأوروبية، بضغط من الإدارة الأميركية، بانطلاق العملية من دون حل سياسي يخرج إيران من سورية، سيُفقدها الفوز بعوائد اقتصادية كبيرة من العملية. كذلك هناك تنافس محتدم بين روسيا وإيران للفوز بعقود تجارية أو صناعية أو استثمارية كبيرة، خصوصا الفوسفات وميناءي طرطوس واللاذقية، وتأهيل البنى التحتية، وهناك سعي لكل منهما إلى فرض أمر واقع، لتعزيز مواقعه في أي تسويةٍ سياسيةٍ مقبلة، وقلق روسي من ميل رئيس النظام السوري إلى الارتماء في أحضان إيران أكثر فأكثر، وتحفظ روسي صريح على التوجهات السياسية الإيرانية إزاء الحل السياسي، وعلى الانتشار الإيراني الواسع، الحرس الثوري والمليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية، وقوات من جيش النظام، الفرقة الرابعة، موالية لها، على الأرض السورية الذي عكسته مواقف روسية سياسية وميدانية: نقل ملف تشكيل اللجنة الدستورية إلى جنيف؛ ما يعني تدويله وإضعاف الدور الإيراني في صياغة الدستور السوري، والمراهنة على العقوبات الأميركية في إضعاف دور إيران ودفعها للتسليم بالرؤية الروسية للحل، محاصرة الانتشار الإيراني والتضييق عليه، والعمل على إخراج مليشيات شيعية، وقوات سورية موالية من بعض المواقع في محافظات ريف دمشق وحلب وحماة وإدلب ودير الزور (تم إخراجها من مواقع بعد احتكاكات واشتباكات محدودة)؛ رفض شن عملية عسكرية على محافظة إدلب، وعلى مواقع فصائل المعارضة في ريفي حماة وحلب، صمتها على الغارات الإسرائيلية ضد مواقع الحرس الثوري الإيراني والمليشيات الشيعية في طول الأرض السورية وعرضها، ناهيك عن تحرّك روسيا الدؤوب للحد من نفوذ إيران، وتأثيرها على جيش النظام وأجهزة مخابراته؛ وسعيها المحموم إلى حرمان إيران من تحقيق مكاسب اقتصادية، والاستحواذ على جزء من الكعكة السورية؛ واستثمار قرار واشنطن “تصفير” مبيعات إيران من النفط بزيادة حصتها في سوق النفط، (قدّر خبراء روس تحقيق روسيا عائدا إضافيا من بيع النفط مقداره ستة مليارات دولار في حال نجحت الإدارة الأميركية في “تصفير” مبيعات النفط الإيراني)، والعمل على منع وصولها إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط، بإقامة ميناء خاص على السواحل السورية، أو التعاقد على إدارة ميناء اللاذقية. لكن، على الرغم من ذلك كله الذي ذكرناه أعلاه، فإن ما يدور لا يهدف إلى إخراج إيران من سورية في المدى المنظور.
صحيحٌ أن روسيا، بعد نجاحها في تدمير القسم الرئيس من قوات المعارضة المسلحة، ودفع المتبقي منها إلى الانضواء تحت جناح تركيا، ما يعني أنها أصبحت تحت السيطرة، لم تعد بحاجةٍ إلى القوات البرية الإيرانية، إلا أنها ما تزال بحاجة للحضور والدور الإيرانيين على الأرض السورية، وفي الملفات الإقليمية الأخرى، لتوظيفهما في مساوماتٍ ومقايضاتٍ مع الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية وإسرائيل وتركيا والدول الخليجية. كذلك، صحيح أن ما يجري هو محاولة لضبط التوازنات السياسية والميدانية للسيطرة على مفاصل الملف السوري، والإبقاء على قرار الحل النهائي بيدها، فروسيا، وفي مواجهة تعدّد القوى المنخرطة في الملف السوري، وتعارض توجهاتها وخياراتها تحتاج إلى ورقة “الرجل الشرير”، للضغط على حلفائها وخصومها وابتزازهم. إنها بحاجةٍ لإيران، للضغط على الولايات المتحدة، ومقايضة إخراج إيران من سورية بخروج القوات الأميركية من شرق سورية وجنوبها؛ ولدفعها للجلوس إلى طاولة المفاوضات، للاتفاق على حل للملفات العالقة بينهما، العقوبات الاقتصادية وأوكرانيا وضم جزيرة القرم، والاعتراف بدور دولي وازن لها، يجعلها شريكة في حل الملفات الدولية الساخنة.
روسيا بحاجة للدور الإيراني في سورية، لابتزاز الدول الأوروبية بملف اللجوء، في حال وافقت على سعي إيران والنظام السوري إلى مهاجمة محافظة إدلب التي يقطن فيها قرابة الأربعة ملايين نسمة بين مواطن ونازح، ودفعها إلى إعادة العلاقات مع النظام السوري، وتأهيله دوليا، والمساهمة في إعادة الإعمار. هي بحاجة للدور الإيراني في سورية في المقايضة مع إسرائيل: لجم إيران مقابل تحرّك إسرائيلي لصالح الأجندة الروسية مع الولايات المتحدة. إسرائيل سلّفت موسكو موقفا بالاستثمار المكثف في جزيرة القرم؛ مع أن في ذلك مخالفة صريحة لموقف واشنطن، لكنه جاء على خلفية قناعة إسرائيلية أن وجود روسيا في سورية يخدم مصالحها الاستراتيجية (بقاء النظام السوري واحتواء الخطر الإيراني) الذي جسّده تغاضيها عن استهدافها إيران على الأرض السورية، ووعدها بالاستمرار على هذا الموقف. روسيا بحاجة إلى الحضور والدور الإيرانيين للضغط على تركيا في شمال وشرق سورية، من أجل تنفيذ كل بنود اتفاق سوتشي حول إدلب (محاصرة القوى المتشدّدة وإخراج الأجانب وفتح الطريقين، حلب دمشق وحلب اللاذقية، والاتفاق على مستقبل شرق الفرات بالانفتاح على النظام، والعودة إلى اتفاق أضنة الموقع بينهما عام 1998، وتسليمه الأراضي التي تسيطر عليها)، وإلا واجهت طوفانا من اللاجئين، عبر السماح بعمليةٍ واسعةٍ في محافظة إدلب؛ لوّح الرئيس الروسي بهذه الإمكانية، في مؤتمره الصحافي في بكين يوم 27/4/2019، حين قال: “إنه لا يستبعد عملية عسكرية في إدلب، لكن الوقت غير ملائم الآن، إذ يجب الأخذ بالاعتبار الأوضاع الإنسانية وحياة المدنيين”، ولإبقائها بعيدةً عن التفاهم مع الولايات المتحدة حول شرق الفرات، وصفقة الـ إس 400. وروسيا بحاجة إلى الحضور والدور الإيرانيين، لمقايضتهما مع دول الخليج العربية، بالتطبيع مع النظام السوري، وإعادة تأهيله عربيا، والمشاركة في إعادة الإعمار، وفي السياسة النفطية، للاتفاق على سقف الإنتاج من أجل المحافظة على سعرٍ للنفط، يتوافق مع احتياجات الموازنة الروسية.
لا تنوي روسيا العمل على إخراج إيران من سورية، قبل جني المنافع التي تتيحها ورقة “الرجل الشرير”، وتوسيع دائرة مصالحها في ملفاتٍ عدة مع حلفائها وخصومها؛ واستثمار الضغوط الشديدة التي تتعرّض لها إيران في استنزافها وإضعافها، كي تكون عملية إخراجها يسيرة وقليلة التكلفة، في حال نجحت في عقد صفقةٍ بهذا الخصوص مع الولايات المتحدة، تحقق طموحات الرئيس الروسي الدولية. وهذا يفسّر الموقف الرخو الذي اتخذته من العقوبات الأميركية على إيران، ما دفع موقع “تابناك” الإيراني إلى القول: “لم تظهر موسكو التصميم الجاد للوقوف مع طهران”، وتعزيز علاقاتها وتنسيقها مع إسرائيل.
المصدر: العربي الجديد