أحمد مظهر سعدو
تتصاعد اضطرادًا وتيرة الخطاب السياسي العنصري تجاه السوريين، وخاصة في لبنان، عبر بعض التصريحات والممارسات لسياسيين لبنانيين أولهم جبران باسيل وزير الخارجية. لكن ما يلفت النظر أن الدعوات المماثلة التي جرت في مصر مؤخرًا، ضد السوريين قوبلت بهبة مصرية شعبية وسياسية إعلامية واضحة وقوية، حيث تمكنت من إسكات الدعوات المسيئة للسوريين وإنهائها في مهدها.
وهنا يصعد إلى المخيال سؤال غاية في الأهمية لماذا استطاع المصريون إنهاء هذه العنصرية وإغلاق كل الدعوات لطرد السوريين، بينما يلف الصمت المريب كل الدعوات العنصرية اللبنانية لطرد السوريين، خلا بعض الاعتراضات الفردية الخجولة. لماذا هذا الصمت؟ وكيف يمكن أن يبقى السوري محتضنًا من إخوته العرب، ليس في مصر فقط، بل في كل الأماكن التي هُجِّرَ قسريًا إليها؟ ومن المسؤول عن ذلك؟ هذا ما توجهت جيرون به إلى غير كاتب وأكاديمي وباحث مصري ولبناني وسوري.
الكاتب والصحافي المصري حمادة إمام قال لجيرون ” بالنسبة لمستوى القيادة السياسية في مصر فهي تعلم أن أمن مصر يبدأ من سورية، وبالتالي فإن أى تصرفات مع السوريين المقيمين، له عواقب لا يدرك عواقبها مستقبلًا، كذلك فإن السوري في مصر لم يخصم من نصيب المواطن المصري، بل حرض فيه روح المنافسة والمغامرة، نظرًا للنجاحات التي حققها رغم الصعاب، إضافة إلى أن الأشخاص الذين قادوا التحريض، عليهم علامات استفهام، ومحل كراهية من فئات المجتمع، علاوة على أنه تاريخيًا يوجد جذر من علاقات المصاهرة والنسب وكثيرين من المصريين جذورهم سورية”.
الأكاديمي السوي الاقتصادي المعارض عارف دليلة يجيب على السؤال بقوله ” في عام 2011 كان نصيب الفرد الوسطي من الدخل القومي في سورية قد وصل في الانخفاض على مدى العقود السابقة إلى ما يقل بنسبة كبيرة عما كان قد بلغه في الدول العربية المحيطة بسورية (علمًا بأنه كان يجب أن يكون الأعلى مقارنة بها، لولا الأفعال المضادة للتنمية التي استشرى ممارسوها على ارتكابها بفجور فاق الفجور الجاري من حول سورية ) وهذا في ما قبل 2011 ، حتى لا يقال أنت تتحدث عن مرحلة(الحرب الكونية! ) وما أدراك ما الحرب الكونية التي هبطت بنصيب الفرد في سورية من الدخل القومي إلى ما لا يزيد عن ثلث أدنى دخل في العالم، مع أن ثلاثة أرباع هذا الدخل (الثلث) يصرف بعيدًا عن معدة المواطن (ولا حديث، بالتأكيد، عن مأواه وملبسه وتعليمه وصحته الخ، ما دام لم يكن يومًا مدرجًا في الحسبان كإنسان _مواطن له حق حتى بالحاجات الضرورية للحيوانات!)، وإنما كان يقع على رأسه ورؤوس أطفاله! وبالرغم من ذلك فإن هذا المواطن السوري المنتهك الحقوق دائمًا استقبل بكل ترحاب وبدون أي تذمر أو امتعاض أو تأفف، ثلاثة ملايين مهاجر عراقي إبان الحرب الأميركية الماحقة على العراق عام 2003 وما بعد، والتي اعترف قادة العدوان المجرمون، من طوني بلير البريطاني إلى جورج بوش الأميركي بكل وقاحة، ودون خوف من عقاب، على تدمير دولة وقتل وتهجير الملايين من مواطنيها وإعادتها إلى ما قبل الحضارة التي كانت بالأصل منشأها الأول، بأنهم فبركوا أسبابها التبريرية بالادعاء الكاذب بوجود أسلحة دمار شامل لدى العراق دون انتظار انتهاء لجنة التحقيق من التفتيش، التي لم تعثر على شيء!”. وأضاف دليلة ” وأما بالنسبة إلى اللبنانيين، بمختلف طوائفهم، التي كان مجرموها أثناء الحرب العنصرية الداخلية قد دفعوا بمئات الألوف منهم خارج لبنان خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي داخل الأراضي السورية، ثم لجوء الثمانمائة ألف لبناني، هربًا من العدوان الاسرائيلي عام 2006، إلى سورية. وقد تميزت هذه الهجرات العربية المليونية إلى سورية بأنها لم يرافقها نصب خيمة واحدة على الأراضي السورية، أو ، بالأحرى ، إقامة تجمع واحد للاجئين على أي بقعة في سورية وتطويقه بالأسلاك الشائكة والحرس المسلح، مع حرمانهم من جميع الضروريات والحقوق الإنسانية الدنيا، بل وأكثر من ذلك استغلالهم كأبشع ما يكون الاستغلال، والتعامل معهم أسوأ مما يعامل به العبيد بكثير، ومنعهم من التحرك حيثما يرغبون بكل حرية، بل عومل جميع القادمين إلى سورية في جميع المراحل كضيوف يسكنون بيوت السوريين، مع السوريين في كثير من الأحيان، أو مستقلين، إذا شاؤوا، ولم يسمع أحد بحدوث أي حادث ذي طبيعة عنصرية بينهم وبين المواطنين السوريين، حتى عودتهم الاختيارية إلى بلدهم أو خروجهم باختيارهم إلى أي مكان يشاؤون! وبالطبع، لسنا بصدد الحديث عن استقبال وإقامة مئات آلاف الأشقاء الفلسطينيين بعد إخراجهم من أرضهم وبيوتهم بتعاضد وتضافر الإرهاب الصهيوني والأوامر الرسمية (العربية) المحملة بوعود (الأشقاء) بأنهم سيعودون بعد أيام إلى بيوتهم ويفتحوها بالمفاتيح التي حملوها معهم، ليحتفظوا بها لأكثر من سبعين عامًا في مهاجرهم! ولسنا بحاجة لأن نذكر كم كانت سورية فخورة بأن تحتضن الأمير المنفي عبد القادر الجزائري ومن رافقه من الجزائريين في أواسط القرن التاسع عشر والذين أصبحوا جزءا غاليا من أهلها الأصليين، وحتى مشاركة السوريين العميقة مع نضال الجزائريين في نضالهم ضد الاستعمار الفرنسي وأثناء سنوات التعريب الطويلة التي تلت الاستقلال وحتى التسعينات السوداء من القرن العشرين! ” ثم قال بكل حرقة ” هل نقول: كان ياما كان، في قديم الزمان؟ فلماذا لا نسمع أو نقرأ هذه الأيام عند بعض (العرب) الذين قابلوا، بعنصرية لا تقل بشاعة عن عنصرية النازيين القدماء والجدد، المهاجرين السوريين الهاربين من أمام مخاطر أعنف بكثير حتى من تلك التي هربوا هم منها أيام الغزو الأميركي /الأطلسي /الصهيوني للعراق، أو الحرب الهمجية العنصرية بين (الأشقاء) في لبنان، أو الاحتلال الصهيوني العنصري في فلسطين، أن الشعب السوري كان دائمًا يفتح ذراعيه لأشقائه العرب، بغض النظر عن أي اعتبار أثني أو ديني أو قطري أو سياسي أو… الخ ، ولم يسجل أحد حدثًا لا في الشارع ولا في الإعلام بين أي سوري ولاجئ عربي جاءه من أي بلد عربي، أيًا كان سبب اللجوء ؟ بل، وأكثر من ذلك، ألا يؤكد ذلك على انتفاء وجود جذور الحقد والإرهاب والعنصرية في طبيعة السوريين الأصلية على العموم؟ فكيف إذن نفسر الحملات العنصرية التي تشن ضدهم، كسوريين، في هذا البلد العربي أو ذاك، دون الأخذ بعين الاعتبار الظروف اللاإنسانية القاهرة التي اضطرتهم لمغادرة بيوتهم ووطنهم إلى العراء، وإلى الخارج، وكأنهم لم يكونوا يومًا أصحاب أرض وبلد وبيت ومجتمع وأهل وعائلة وثقافة وتاريخ وحضارة، فكيف، وهم ذلك كله، وربما أكثر من أي شعب آخر؟ ما الذي حصل حتى أصبحت سورية والسوريين العدو الأول للجميع، كما يبدو من ظاهر الأمر، وكما هي وهم الآن على الأرض؟ الكثيرون يطرقون هذا الموضوع، ولكنه يبقى مفتوحًا على مختلف الأجوبة لدهر طويل، وسيكون موضوع أكثر من مقال قادم، مثله مثل كلمة (حتى) التي قضى كبير النحويين عمره في البحث فيها حتى قال: سأموت وفي نفسي شيء من (حتى)! فكم تحتاج (حتى) السورية من السوريين حتى يعودوا إلى أصلهم، ويغتسل الخطاة الذين انحرفوا والذين استرخصوا مصير شعبهم وأهاليهم من أدرانهم، ويرون ويرى الآخرون ماذا وكيف ولماذا جرى كل ما جرى لسورية ولهم، وينال المسؤولون عما جرى جزاءهم العادل عما اقترفوا؟”.
بينما يرى الأكاديمي اللبناني جميل حمود عميد كلية إدارة الأعمال في جامعة رفيق الحريري أن
” استضافة مصر لأعداد من النازحين السوريين هي حدث مستجد وغير ذي خلفيات وشؤون وشجون تاريخية كما الحال في لبنان. علمًا أنه لا مجال للمقارنة بين استضافة 230 ألف نازح في بلد المئة مليون نسمة والمليون كيلومتر مربع، مقابل 1.5 مليون نازح في لبنان الخمسة مليون نسمة على 10،452 كيلومتر مربع. لطالما تميز تفاعل الشعبين اللبناني والسوري على مر التاريخ بعلاقات يغلب عليها طابع المحبة والبغض في آنٍ معًا. فمن جهة هناك جوار جغرافي واسع وتاريخ مشترك وتبادل اقتصادي كبير، وتفاعل اجتماعي متشعب في علاقات قربى وزواج وعادات وتقاليد مشتركة. ومن جهة أخرى هناك أطماع ومشاريع نفوذ ومحاولات سيطرة تجلت في أقسى صورها في احتلال سوري، أو وصاية سورية أو وجود سوري شرعي ومؤقت دام 30 سنة. طبعًا يضاف إلى تعقيد العلاقات اللبنانية السورية أزمات النظام اللبناني الداخلية التي تفتح الباب واسعًا أمام قوى المجتمع اللبناني على التحالف أو التنافر مع النظام السوري، الذي لم يعترف يومًا باستقلال لبنان ولم ير فيه إلا عمق استراتيجي لوجوده وديمومته. فبالرغم من بشاعة العنصرية في مواقف بعض شرائح المجتمع اللبناني تجاه النازحين السوريين، لا يمكن واقعيًا وبرغماتيًا عزل هذه المواقف عن سياق العلاقات والمشاكل بين البلدين. ومهما يكن من أمر تفاعل اللبنانيين مع السوريين، فإن مواقف بعض الساسة اللبنانيين العنصرية مؤخرًا ليست إلا مساعي ضغط على المجتمع الدولي بهدف تحصيل الأموال ووضع اليد عليها.” ولفت الانتباه إلى أن ” مطلقي المواقف العنصرية من الساسة اللبنانيين هم على علاقة ممتازة مع نظام بشار الأسد ويعون تمامًا مدى رفض هذا النظام للتعاون في عودة النازحين. هذا وقد فشلت منظومة السلطة اللبنانية الضعيفة والمنقسمة على نفسها منذ البداية في وضع مخطط وطني لمواجهة النزوح السوري، مما ترك الأمر للمبادرات الفردية والعشوائية هنا وهناك وأدى إلى تفاقم ضغط النزوح على مختلف قطاعات البلد. كما أنه لا بد من القول أن شرائح واسعة و كبيرة جدًا من اللبنانيين ترفض مطلقًا التعاطي العنصري مع أهلنا السوريين وتعبر عن ذلك في ميادين مختلفة. وما ارتفاع حدة الصوت العنصري إلا انعكاس للمثل الشعبي القائل، (الفاجر يأكل مال التاجر.)”
أما الإعلامي المصري فتحي عبد الفتاح فقد قال ” لأن مصر شطر الجمهورية العربية المتحدة، وقد احتضنت كل من وفد إليها حتى من أسرة آل سعود الذين تآمروا على الوحدة بين مصر وسورية وصانعوا كارثة ٦٧ و٦٩ مجزرة الفلسطينيين، وحتى اللحظة مؤامراتهم مستمرة ضد سورية، أقول الوطن وليس النظام من وقف مع السوريين، أما لبنان فلا يمتلكون من أمرهم شيئًا. إذ أن حسن نصر الله وفصيله يتحكمون في كل شيء”.
الكاتب والطبيب اللبناني عبد الناصر سكرية تحدث لجيرون بقوله ” ” يعاني مجتمع اللبنانيين من سطوة شديدة للمشاعر المذهبية والطائفية والانقسام والتعلق بأطراف السلطة تبعًا لتلك المشاعر، فضلاً عن ارتباط كل مصالح الناس بذلك الانقسام وذلك الارتباط. وهذا ما يجعل لبنان غير مؤهل لاتخاذ موقف وطني أو حتى إنساني موحد أو متقارب. في حين إن مصر مجتمع متجانس منصهر إجتماعيًا مما يسهل امكانية اتخاذ مواقف شعبية موحدة، فيما لو توفرت قضية أو قيادة ايجابية. إن سنوات القهر والاذلال التي مارسها النظام السوري طيلة ثلاثين عامًا في لبنان تركت آثارًا سلبية عميقة جدًا، وشكلت أرضية صالحة للتصرف حيال أي سوري بمنطق ردة الفعل. كما أن غالبية النازحين السوريين في لبنان ينتمون إلى قطاعات فقيرة وعاملة، وقد دخل كثير منهم سوق العمل اللبناني مما سهل للمغرضين التحريض عليهم بحجة أنهم ينافسون اللبنانيين في عملهم.” ثم أضاف ” أما في مصر فغالبية السوريين متوسطون اجتماعيًا ولم يسكن أحد منهم في مخيمات، وأعمالهم أضافت إلى سوق العمل المصري، ولم تنافسه. كما أن السجل الأسود لأجهزة الأمن السورية لم يصل إلى مصر.
مع العلم إن الايمان الديني في مصر أقوى مما عند اللبنانيين الذين تتنازعهم مشاعر التعصب الطائفي والمذهبي. فالإيمان الديني السليم يحرض على اتخاذ مواقف انسانية . يبقى عاملان مهمان جدًا فيما يتعلق بالتعاطي اللبناني مع النازحين السوريين. ١- غالبيتهم ينتمون إلى المذهب ( السني) وهو ما يجعل أبناء المذاهب الأخرى في حالة تشنج استنادًا إلى الخلفيات والحسابات المذهبية..فضلًا عن أنه يجعلهم مستهدفين كما هي حال المدن العربية التاريخية التي جرى تدميرها وتهجير أهلها. ٢- سورية هي المدخل الجغرافي الوحيد لترجمة هوية لبنان العربية. والاهتمام بالنازحين يشكل تجسيدًا للعروبة كهوية مشتركة. إلا أن الواقع اللبناني يعاني من هجمات تاريخية مزمنة ومتصاعدة ضد العروبة تولته المارونية السياسية مطولاً وتوسعت فيه شعوبية الأدوات الايرانية وما لها من نفوذ.” ثم قال سكرية ” إن جميع أصحاب النفوذ والسلطة في لبنان مرتهنون للنفوذ الأجنبي المعادي للعروبة، ولثورة الشعب السوري وآماله في التحرر والكرامة. وفي مقدمتهم الإعلام الذي يلعب دورًا تحريضيًا كبيرًا ضد النازحين السوريين، ومثلهم رجال المال والاعلام. وجميعهم يتشاركون في ترويع اللبنانيين من إخوتهم السوريين. كما أن هؤلاء جميعًا يمالئون النظام السوري سواء لمصلحة أو لارتباط أو تنفيذًا لأوامر خارجية. جميع هذه العوامل غير متوفرة في مصر وبعضها ضعيف التأثير شعبيًا. ولبنان حاليًا يقع ضمن دائرة النفوذ الإيراني بتفويض أميركي، وهذا لا يصب في مصلحة النازحين السوريين”.
المصدر: جيرون