إسماعيل جمال
تشير التطورات على الأرض، وتصريحات المسؤولين الأتراك التي تصاعدت في الأيام الأخيرة إلى أن أنقرة تيقنت مجدداً ومبكراً من فشل اتفاق المنطقة الآمنة وإمكانية قيام الولايات المتحدة بخطوات حقيقية للحد من نفوذ وسيطرة وقوة الوحدات الكردية شرقي نهر الفرات شمالي سوريا، وصولاً لإقامة منطقة آمنة حقيقية تلبي الحد الأدنى من المعايير التركية.
وعلى الرغم من هذه القناعة، والتهديدات شبه اليومية لكبار المسؤولين السياسيين والعسكريين الأتراك والتي تصاعدت بشكل كبير جداً في الأسابيع الأخيرة، إلا أن هناك الكثير من المعيقات والتخوفات السياسية والعسكرية والاقتصادية الداخلية والخارجية التي تمنع تركيا من تنفيذ تهديداتها والتحرك عسكرياً بشكل أحادي ضد الوحدات الكردية وإقامة المنطقة الآمنة.
فشل الاتفاق
عقب أشهر من المماطلة الأمريكية في تنفيذ اتفاق منبج بين واشنطن وأنقرة الذي كان ينص على تطهير المدينة من الوحدات الكردية بدأت تركيا بالحديث عن وجود مماطلة أمريكية، وعادت للتهديد بتنفيذ عملية عسكرية في المدينة، لكن هذه العملية التي جرى التهديد بإطلاقها مئات المرات، لم تر النور حتى اليوم. لكن في الاتفاق الجديد حول المنطقة الآمنة شرق الفرات، كانت الاستنتاجات التركية أسرع بكثير، فبالتزامن مع توقيع الاتفاق حذرت من المماطلة وتحويله إلى نسخة جديدة من اتفاق منبج، وقبل مرور شهر عليه أطلقت تصريحات فهم منها ضمنياً أنها وصلت إلى قناعة نهائية بأن الاتفاق فشل وسيكون بالفعل نسخة من اتفاق منبج، وأن الولايات المتحدة لن تُقدم على أي خطوات حقيقية لتلبية الشروط التركية.
واقتصرت الخطوات المتعلقة في المنطقة الآمنة حتى الآن، على تسيير بعض الدوريات الجوية الاستطلاعية، ودورية برية واحدة في منطقة محصورة جداً قرب تل أبيض، وتم تخريب جانب ضئيل جداً من التحصينات التابعة للوحدات الكردية في منطقة محصورة جداً أيضاً، بالتزامن مع عدم التوصل لأي تفاهمات تتعلق بعمق المنطقة الآمنة، أو قبول واشنطن ببناء نقاط للجيش التركي لتأمين تلك المناطق.
وما أثار غضب الجانب التركي بشكل أكبر، هو تسريع وتكثيف الولايات المتحدة من إرسالها لمساعدات عسكرية كبيرة جداً للوحدات الكردية، وحديث أنقرة عن وصول مئات شاحنات الأسلحة والمعدات العسكرية الجديدة، والأنباء عن بدء الوحدات الكردية ببناء تحصينات عسكرية جديدة بمعدات زودتها بها القوات الأمريكية في الأيام الأخيرة.
وكانت تركيا تتوقع أن تبدأ القوات الأمريكية بخطوات سريعة لإقامة المنطقة الآمنة بما يشمل سحب الوحدات الكردية من عمق ولو محدود ولكن على طول الحدود من شرق الفرات حتى الحدود العراقية، وتدمير تحصينات الوحدات الكردية على طول الشريط الحدودي، وتسيير دوريات مشتركة بشكل أوسع وأسرع، قبل البدء بإقامة نقاط للجيش التركي لاعتبار المناطق المحيطة بها مناطق آمنة.
والأحد، كشف اردوغان عن وجود خلافات كبيرة بين تركيا والولايات المتحدة حول اتفاق المنطقة الآمنة، وقال: نجري مباحثات من واشنطن حول المنطقة الآمنة، لكن في كل خطوة نخطوها نشاهد أن ما نريده ليس الشيء نفسه الذي يدور في عقولهم»، وأضاف: «يبدو أن حليفتنا (الولايات المتحدة) تسعى إلى إنشاء منطقة آمنة لمصلحة منظمة بي كا كا/ ي ب ك الإرهابية وليس لمصلحة تركيا وهو ما نرفضه»، وتابع: «لا يمكن إنجاز المنطقة الآمنة عبر تحليق 3 – 5 مروحيات أو تسيير 5 – 10 دوريات أو نشر بضع مئات من الجنود في المنطقة بشكل صوري».
تهديدات واسعة
ولد اتفاق المنطقة الآمنة من رحم التهديدات التركية التي وصلت ذروتها خلال الأسابيع التي سبقت الاتفاق، عندما قام الجيش التركي بواحدة من أكبر عمليات تحشيد القوات على طول الحدود مع شرقي نهر الفرات والتي تبلغ قرابة 430 كيلومتراً، حيث أعلن الجيش التركي استكمال الاستعدادات العسكرية لتنفيذ عملية واسعة وإقامة ما أطلق عليه «ممر السلام» شرقي نهر الفرات.
ولم تتوقف التهديدات التركية سوى قرابة ثلاثة أسابيع قبل أن تتجدد بقوة، ووصلت إلى مراحل متقدمة مع إعلان اردوغان موعداً زمنياً لإقامة المنطقة الآمنة، حيث قال: «إذا لم نبدأ بإنشاء المنطقة الآمنة مع جنودنا في شرق الفرات قبل نهاية سبتمبر، لن يكون لدينا خيار سوى تنفيذ خططنا الخاصة»، في إشارة إلى عملية عسكرية واسعة من جانب واحد.
وزير الخارجية مولود جاوش أوغلو الذي اعتبر، الثلاثاء، أن موقف واشنطن من المنطقة الآمنة «لا يطمئن تركيا» واصفاً خطواتها بـ»الشكلية»، هدد بالقول: «تركيا لديها خطة جاهزة، وبمقدورها تطهير تلك المناطق… في حال لم نحصل على نتائج من التعاون مع واشنطن، فإننا سندخل هذه المناطق (شرق الفرات)»، وسط سلسلة من البيانات لوزارة الدفاع التركية التي تحذر واشنطن من «المماطلة والتلكؤ في التنفيذ».
وفي محاولة لاحتواء الخلافات، قالت وزارة الدفاع التركية، إن المحادثات الجارية مع الوفد العسكري الأمريكي الزائر لأنقرة، بخصوص انشاء المنطقة الآمنة في سوريا، ستستكمل الأربعاء، في مركز العمليات المشتركة بقضاء أقجة قلعة في ولاية شانلي أورفة جنوبي البلاد، وذلك بعد إجرائه محادثات في مقر رئاسة الأركان التركية في العاصمة أنقرة. ويضم الوفد الأمريكي نائب قائد القوات الأمريكية في أوروبا ستيفن تويتي ونائب قائد القوات المركزية الأمريكية توماس بيرغسون.
معيقات ضخمة
ويجمع محللون أتراك على وجود معيقات ضخمة سياسية وعسكرية واقتصادية على الصعيدين الداخلي والخارجي تقف في وجه إمكانية التحرك العسكري التركي ضد الوحدات الكردية شرقي الفرات، الأمر الذي لا ينفي على الإطلاق إمكانية حصول هكذا تحرك، لكنه يقلل من فرص حدوثه إلى درجة كبيرة.
حيث يعتبر التواجد العسكري الأمريكي في مناطق واسعة شرقي نهر الفرات أكبر عائق أمام التحرك التركي الذي تأجل لسنوات، وسط خشية تركية واسعة من أن تؤدي أي عملية عسكرية إلى إيذاء القوات الأمريكية وبالتالي مواجهة خطر الدخول في مواجهة غير محسوبة مع واشنطن وتحمل تبعاتها العسكرية والسياسية، لا سيما وأن مصادر تركية قالت إن الجانب الأمريكي رفض مراراً إعطاء إحداثيات أماكن تواجد القوات الأمريكية لكي يتجنبها الجيش التركي في أي عملية عسكرية متوقعة شرق الفرات.
وإلى جانب المخاطر العسكرية، تعي أنقرة جيداً التبعات السياسية لعملية عسكرية مباشرة ضد الوحدات الكردية التي شددت واشنطن مراراً على أنها قوات حليفة لها ولن تسمح بمهاجمتها، وإن جرى ذلك عسكرياً فإن تكلفته السياسية ستكون كبيرة وستؤدي إلى خلافات غير مسبوقة بين وواشنطن وأنقرة التي تسعى لاحتواء الخلافات ومنع تفجرها قبيل اللقاء المرتقب بين ترامب واردوغان في الأمم المتحدة أو الزيارة المحتلة لترامب إلى تركيا في محاولة لحل الخلافات المتعلقة بأزمة منظومة الدفاع الروسية والطائرات الأمريكية.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تخشى تركيا التي يمر اقتصادها بصعوبات حقيقية في الأشهر الأخيرة، من الآثار الصعبة لأي خلاف كبير مع واشنطن قد يدمر حجم التبادل التجاري الذي وصل إلى 25 مليار دولار حديثاً، ويخرب المباحثات التي يجريها وزير التجارة الأمريكي في أنقرة منذ أسبوع من أجل رفع مستوى التبادل التجاري بين البلدين إلى 100 مليار دولار.
يضاف إلى ذلك، الفاتورة الباهظة التي سيتكفلها الاقتصاد التركي في حال القيام بعملية عسكرية واسعة وما تحتاجه من تكاليف مباشرة لتغطية احتياجات الجيش، وآثار جانبية قد تنعكس على السياحة وسعر صرف الليرة التركية التي تواجه صعوبات كبيرة.
وإلى جانب المخاطر المباشرة مع واشنطن، توجد مخاطر شبيهة مع الاتحاد الأوروبي الذي تنتشر لبعض دوله قوات في شرق الفرات، كما يرفض الاتحاد العمليات التركية ضد الوحدات الكردية في سوريا بشكل عام، وما قد يترتب على ذلك من عقوبات اقتصادية ستؤثر على الاقتصاد التركي بشكل حقيقي.
وعلى الصعيد الداخلي، يعلم الجيش التركي أن أي تحرك عسكري واسع شرق الفرات سوف يواجه بقوة من قبل الوحدات التي تمتلك كميات هائلة من الأسلحة الحديثة وتتمتع بتدريب عالٍ، وهو ما قد يترتب عليه الاستعداد لدفع فاتورة باهظة من القوات والآليات العسكرية، الأمر الذي ينعكس بشكل مباشر على الحياة السياسية الداخلية وردة فعل الشارع التركي، لا سيما في الوقت الذي يبدو فيه الرئيس التركي غير مستعد لخوض مغامرة قد تؤثر بشكل أكبر على شعبية حزبه الذي يشهد تراجع وانشقاقات في الأشهر الأخيرة.
الخيارات الممكنة
وانطلاقاً من هذه المعطيات، ورغم التهديدات ذات السقف المرتفع جداً، إلا أن خيارات أنقرة تبقى محصورة في محاولة الاستمرار بالضغط على واشنطن من خلال التهديدات لتحقيق ما يمكن تحقيقه في شرق الفرات عبر اتفاق المنطقة الآمنة، أو اللجوء إلى عملية عسكرية محدودة جداً قد لا تتجاوز حدود منطقة صغيرة في تل أبيض أو رأس العين.
أما الحديث عن عملية عسكرية واسعة وإقامة ما أطلق عليه «ممر السلام» فهو أمر من غير الممكن القيام به في هذه الظروف، ويحتاج إلى قرار وطني استراتيجي مع العلم المسبق والاستعداد لدفع الفاتورة الكبيرة لهكذا تحرك على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصادي وذلك على غرار ما قامت به تركيا في قبرص من تدخل عسكري واسع عام 1974 وتحملت خسائر اقتصادية هائلة وعقوبات أمريكية أوروبية كبيرة لكنها نجحت في تحقيق مكاسب إستراتيجية في الجزيرة الهامة.
ومن هذا المنطلق فإنه كما أن الفاتورة الباهظة لأي تحرك عسكري تركي واسع شرق الفرات تدفع الكثيرين لاستبعاد هذا التحرك، فإن الأهمية الاستراتيجية لشرق الفرات بالنسبة لتركيا تدفع آخرين للاعتقاد بإمكانية القيام بهكذا عملية كبرى، لكن يبقى السؤال الأبرز، هل استنفدت تركيا خياراتها كافة لإتخاذ قرار استراتيجي خطير بهذا الحجم؟
المصدر: القدس العربي