أحمد مظهر سعدو
مع مطلع يوم 30 أيلول / سبتمبر 2015 بدأ سلاح الجو الروسي بتوجيه ضربات جوية في الأراضي السورية معلنًا بذلك تدخلًا عسكريًا واضحًا وصريحًا في سورية، بعد أن أضحى النظام السوري آيلًا للسقوط، رغم كل الدعم المقدم إليه عسكريًا واقتصاديًا من إيران، والمليشيات الطائفية التي استقدمتها من لبنان والعراق وأفغانستان دعمًا لنظام الأسد.
وكانت دولة (الاتحاد الروسي) قد عززت حضورها العسكري في سورية، إذ نشرت 21 طائرة، ودعمت قاعدتها العسكرية في طرطوس الموروثة من بقايا الاتحاد السوفياتي، والتي تصر عليها أكثر، بعد خسارة روسيا لقاعدة البصرة في العراق، إبان حرب الخليج، ثم موانئ ليبيا بعد انهيار نظام القذافي.
سبق التدخل العسكري الروسي أن وقعت موسكو ونظام بشار الأسد في شهر آب/ أغسطس 2015اتفاقية تسمح لروسيا بتأسيس قاعدة (حميميم) الجوية في محافظة اللاذقية، تمهيدًا لانطلاق هجماتها الجوية العسكرية منها.
وتبريرًا للتدخل العسكري الروسي الذي جاء بعد أربع سنوات ونصف من عمر الثورة السورية، قال وزير الخارجية الروسي (سيرغي لافروف) ” إن الولايات المتحدة الأميركية غير جادة في محاربة تنظيم داعش والقضاء عليه” ثم قال ” إن الاستخبارات العسكرية الروسية تتابع قصف طائرات التحالف في سورية والعراق لمواقع التنظيم، لكنها تتجنب ضرب المواقع المؤثرة والحيوية التي يتمركز فيها. وهو ما يعني أن الأميركان يتظاهرون بمحاربة داعش وإضعافه لكن دون القضاء عليه، مما يشير إلى وجود نوايا خفية لدى الإدارة الأميركية وحلفائها “.
بعد ذلك بعدة أيام قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ” إن روسيا قررت القضاء على (داعش) وستتحرك بقوتها لحماية نظام الرئيس بشار الأسد “.
لكن يبقى السؤال ما المصالح الفضلى التي دعت روسيا للتدخل الاحتلالي العسكري في الجغرافيا السورية، علاوة على ما تدعيه، من القضاء على (داعش)، وبعيدًا عن السبب الرئيسي وهو حماية نظام الأسد من الانهيار، والذي كان قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من انفراط عقده كلية، بعد أن سيطرت المعارضة السورية المسلحة على ما يزيد عن 70 بالمئة من الأراضي السورية.
يمكن أن نقف على بعض الأسباب التي دعت بوتين للوقوف إلى جانب نظام سياسي كاد أن ينهار، هو نظام بشار الأسد، منها: _ الحفاظ على مصالح استراتيجية روسية في المنطقة، والتـأكيد عالميًا أن روسيا ماتزال قوة كبرى لها وجودها العسكري الفاعل. _ حماية مصالح روسيا الاقتصادية والعسكرية، وقواعدها في سورية. _ العمل على منع قيام خط الغاز القطري المزمع عبر سورية، والذي سيؤثر بالضرورة على مشاريع توريدات الغاز الروسي نحو أوروبا. _ محاولة رفع العقوبات المفروضة على روسيا بعد أزمة شبه جزيرة القرم. _ الترويج للسلاح الروسي الذي خفت صوته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. _ قتال الجماعات الإسلامية التي يوجد الكثير منها من الشيشان المحتل روسيًا. بالإضافة إلى إعادة بناء هيبة روسيا عالميًا، التي أصبحت بالحضيض، بعد تفرد الإدارة الأميركية بالقطبية الواحدة.
عبر سنوات أربعة خلت من عمر التواجد الروسي في سورية، استطاعت روسيا أن تحقق الكثير مصلحة لها، ودعمًا للنظام الأسدي، حيث استطاعت من خلال سياسة الأرض المحروقة، وطيرانها الداعم للأسد، والمضي في اتفاقات ومسارات أستانا أن تقضم المحافظة تلو الأخرى.
ومنذ مطلع عام 2016، كان بوتين يصرح بأن “القوات المسلحة الروسية حققت أهدافها” وقال في غير مناسبة ” إن القوات العسكرية الروسية يمكن أن تبقى طالما تطلب الأمر ذلك” وهو الذي ما برح يتفاخر أن ” 63012 شخصية عسكرية (حصلت على خبرة حربية) في سورية، يشمل ذلك 25738 من الرتب العسكرية الروسية و434 جنرالاً روسيًا بالإضافة إلى 4349 خبير جوي وصاروخي”.
وعملت روسيا عبر وجودها العسكري “من أجل بيان قدراتها التسليحية لأغراض تصدير السلاح” ومنها بشكل خاص “مقاتلات SU-34 العسكرية وصواريخ كروز”. ويعلن الخبراء العسكريون الروس أن ” ما يزيد عن 200 سلاح متطور وجديد، قد استخدمت في سورية حتى شهر شباط/فبراير 2018″، وهو الذي صرح به (فلاديمير شامانوف) القائد العسكري السابق وعضو البرلمان الروسي حاليًا.
من خلال الوجود العسكري الروسي لأربع سنوات سلفت، ساهم بوتين في المقتلة والمحرقة السورية، التي تجري فصولها تباعًا ومازالت في إدلب وشمال سورية، كما ساهم في زيادة أعداد القتلى والمدنيين عمومًا، وحسب (المرصد السوري لحقوق الإنسان) في تقرير نشره، الجمعة 30 آب/أغسطس 2019، قال “إن الطائرات الروسية قتلت 19012 شخصًا، منذ 30 أيلول/سبتمبر 2015 وحتى 30 آب/أغسطس 2019، وهم 8285 مدنيًا، بينهم 1997 طفلاً، و1255 امرأة، إضافة لـ5244 عنصرًا من تنظيم الدولة، و5483 مقاتلًا من الفصائل المقاتلة ، وهيئة تحرير الشام، والحزب الإسلامي التركستاني، ومقاتلين من جنسيات عربية وأجنبية”. وهذه الأرقام تقول المنظمات الأكثر موضوعية أنها أقل من الواقع بكثير، وأن أعداد القتلى من المدنيين على أيدي الروس قد فاقت ذلك.
لكن كيف ينظر المتابعون والباحثون للمشهد السوري بعد التدخل الروسي، ومستقبل وجوده في سورية؟ وهل يمكن أن يبقى الروس بعد سقوط النظام السوري؟ وهل من موافقة دولية، أميركية على هذا الاحتلال الروسي؟
الأكاديمية والمستشارة السياسية السورية مرح بقاعي تحدثت للعربي الجديد بقولها “بعد التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية وإنشاء قاعدة حميميم الكبرى وسيطرة موسكو على مفاصل القرار السياسي في سورية وتوجيهها للنظام بالاتجاه الذي تراه مناسبًا كثمن لدعم النظام لاستمرارية الحكم، فأنا لا أتوقع خروجًا قريب المدى لروسيا وقواتها من سورية، لا سيما أنها وقعت اتفاقية مع النظام السوري بالتعاقد على ميناء طرطوس لمدة 49 عامًا”. لكنها نوهت أنه ” إذا وصلت حكومة وطنية في المرحلة الانتقالية إلى سورية، بالتأكيد سيتم نقض هذه الاتفاقية التي تمت بين روسيا والنظام السابق، وبالتأكيد ستحدث مفاوضات على الخروج الروسي من سورية، وضمن مظلة اتفاقات يمكن أن تخدم مصالح البلدين، وبما يصون سيادة البلدين أيضًا. السيادة السورية هي رقم واحد بالنسبة لنا، وأي اتفاق ينتهك السيادة السورية، هو لاغ ٍبالنسبة للمعارضة، وبالنسبة لأي حكومة وطنية تأتي في المرحلة الانتقالية”. أما عن رضى أميركا فترى بقاعي ” الولايات المتحدة الأميركية كانت ستخرج من سورية عام ٢٠١٨ كما قرر الرئيس (دونالد ترامب) في ذلك الوقت، لكنه عاد وعدل عن الخروج، وسبب البقاء الأميركي وجود روسيا. أميركا لا تريد أن تترك الملعب السياسي خالي ومتاح لروسيا دون أن تكون موجودة في المنطقة، وفي نفس الوقت تريد أن تُخرج آخر عنصر من عناصر الميليشيا الإيرانية، التي هي حليفة لروسيا في سورية، ولو أن هناك خلافات بينهما لكنهما حلفاء، ومن الدول الضامنة لأستانا ويشتركان فيها مع تركيا”.
من جهته يرى الباحث السوري نبيل ملحم للعربي الجديد ” أن التدخل الروسي في سورية جاء ليكون احتلالًا دائمًا للساحة السورية، وفقاً لمخطط ومصالح المافيا الروسية وقيادتها الحاكمة. وثانيًا إن هذا التدخل والاحتلال جاء في الأساس لحماية النظام من السقوط، بعد أن استنفذ حليفه الايراني كل امكانياته العسكرية.” واستبعد ملحم أن ” تقوم روسيا بإسقاط النظام، وجل ما يمكن أن تفعله هو عملية إعادة هيكلة هذا النظام، على صعيد بنيته السياسية والعسكرية والأمنية، ومن المستبعد أن تقوم بتغيير رأس النظام في المدى المنظور، وثالثًا وهو الأهم إن التدخل والاحتلال الروسي لأجزاء واسعة من الساحة السورية، جاء بناء على طلب وموافقة كل من أميركا وحكام دولة إسرائيل، ضمن سياق عملية تفتيت بنية المجتمع والوطن السوري بشريًا وجغرافيًا من خلال خلق كيانات سياسية قائمة على الهوية الطائفية والمناطقية وكل هوية ما دون وطنية، وحيث وظيفة الدور الروسي أتت لحماية هذا التفتيت والمساهمة في خلقه، وحيث إن هذا الدور محمي من أميركا وإسرائيل، الأمر الذي يجعلني أقول إن هذا الدور له طابع استراتيجي وبما يعني أن بقاء الاحتلال الروسي في سورية سيكون لأمد طويل يسمح له بتكريس هذا التفتيت وتكريس الاحتلالات التي رافقت هذا التفتيت، وحيث إن حصة روسيا مقابل الدور الذي تلعبه سيكون سورية المفيدة لها وللنظام الطائفي ولإسرائيل، ومن خلفهم أميركا، التي تضع كل ملفات المنطقة في جعبتها وفي خدمة مصالحها الآنية والاستراتيجية.”
أما الكاتب السوري محمد خليفة فيقول للعربي الجديد ” جاءت روسيا إلى سورية لتبقى، لا لتخرج بعد ثلاثة شهور أو أعوام، ولا حتى بعد خمسين عامًا. وصحيح أن هدفها المعلن سورية، غير أن أي خبير بالمخططات الاستراتيجية الروسية يعلم أن الوثبة استهدفت الإقليم بكامله. سورية هي موطئ القدم، أو نقطة الارتكاز الأولى على سواحل ومشارف منطقة، ظلَّ الروس يفكرون ويسعون لدخولها قرونًا، وارتبطت سابقًا بآفاق امبراطوريتهم الكبيرة حين أسسوها ووسعوها جنوبًا وشرقًا. وما زالت لليوم ضمن أفق مشروعها (الأوراسي) بالتعاون مع حلفائها الصين وإيران، لصد الزحف الغربي عليها وعلى محيطها وعلى الشرق الأقصى.” ويرى خليفة أن ” (البوتينية) الحاكمة في روسيا الآن تجمع بين طموح القياصرة للتوسع الجغرافي، والطموح السوفياتي لبناء القوة، فضلاً عن أنها تستبطن عداء هاتين المرجعيتين لحداثة الغرب وليبراليته، ومخططاته لاحتواء روسيا وحصارها. لذلك تعمل على تثبيت موقعها الصغير في سورية، وجعله منصة انطلاق للتوسع باتجاه العراق ولبنان ومصر وليبيا والجزائر والاقتراب من الخليج، وهذا ما تفعله.” ويوضح خليفة ” أن التوغل الروسي حدث بتواطؤ أميركي، ولكن هذه سلمت به لأن سورية منذ سبعين عامًا منطقة نفوذ روسية، وروسيا استغلت التفاهمات التي حدثت بين أوباما وإيران في صفقة البرنامج النووي. هذا ما يضع شعبنا السوري في حالة صراع طويل المدى وشامل مع روسيا، يترجم تناقضًا موضوعيًا عميقًا بين مشروعين عربي وروسي، فسورية ليست هذه الدولة الصغيرة، ولكنها قاعدة المشروع العربي وبوابة المنطقة، لذلك لن يقبل السوريون أن يصبحوا شيشانًا أو داغستانًا في الامبراطورية الأوراسية المترامية، بل ستكون مقبرة لأوهامهم وأحلامهم، كما كانت أفغانستان. في ضوء ذلك أصبح بقاء الأسد في السلطة ضمانة لبقاء روسيا في سورية، ولكن العمل لإسقاط الطاغية يعطي للسوريين الحق في إعادة التفاوض مع روسيا على وجودها. “
المصدر: العربي الجديد