أمين الشامي
وتمتلئ الكأس …
نقطة …
نقطة …
حتَّى تفيض.
يتابع تتالي النِّقاط بعيني قلبه الذَّابل وهي تقطر فوق كأس النَّدم المترعة، ليقوم به عن طاولة التَّردُّد قبل أن تنضح تلك الكأس بما فيها على نبضاته المتساقطة كأوراق صفر.
“يا قلب، تعال، سنرجع، هيَّا بنا”.
هناك، وسط تلال الحنين، يقف ويمشِّط بنظراته الغرفة الَّتي أنعموا عليه بها كي يلمَّ فيها ذكريات شرَّدتها الرِّياح، وبعضاً من أشلاء أحلامه، وخيال الحرِّيَّة الَّتي سكنت خلاياه.
“انتهينا. لا مكان لنا هنا. أتخمتني أحاديثهم عن العتمة والظَّلام هناك، بينما الضَّباب هنا سيِّد الموقف”.
هكذا يحدِّث نفسه، وهو يخرج حقيبته الَّتي لجأت معه.
“أوف من ضبابهم. إنَّهم يغلِّفون به كلَّ شيء، حتَّى الشَّمس”.
يقوم بجرد مقتنياته بنظرات تعرف أين تتَّجه. لم يثقل على الوقت، فحاجيَّاته كانت قليلة ككلِّ مسافر اعتاد التَّجوال بلا دفء.
يبدأ بتوضيب تبعات قراره بنزق.
“يعزُّ عليَّ أن أبقى. سأعود، وليكن ما يكون. القرار نهائيٌّ لا رجعة في حتميَّته. تعبت من الارتعاش. كلُّ شيء هنا لا حرارة فيه، حتَّى تحيَّاتهم مثلَّجة، وابتساماتهم مطعَّمة بالبرد”.
يقولها تضجُّراً من أزقَّة التَّعاطف الخلفيَّة الَّتي آوت لوعاته حيناً، ومن جرعات الوعود الَّتي خدَّرت نهاراته، ومن أقداح التَّأسّي الَّتي أسكرت لياليه.
سيعود إلى مكَّته بعد أن فاض به من يثربهم.
“في شعاب مكَّتي خطواتي أكثر ثباتاً. على الأقلِّ لن أعثر فيها، ولن أتعثَّر. وهناك ما زالت تعيش أشعاري، ولي ناس هم الحبُّ أيَّامهم”، هكذا يردِّد وهو يمدِّد الحقيبة فوق سريره البارد، ويبدأ بتجميع ما يريد أن يصحبه في فتحه القادم ويدسُّه فيها.
يخرج الرَّصاصة الَّتي حملت روح محمود الجوابرة إلى السَّماء بما عليها من آثار دماء لا زالت قانية ويضعها في جيب الحقيبة الدَّاخلي، ثمَّ يوسِّد إلى جوارها جثَّة آخر وردة حملها غياث مطر قبل أن ينتقل مع سلميَّتها إلى مكان لا وجود فيه لقاطفي الأزهار والأحلام.
يتناول الفيلم الأخير الَّذي لم يكتمل لباسل شحادة ويدسّه فيها، بعد أن يغلِّفه بآخر كلمات قالها مشعل تمو.
وفي صندوق مزيَّن بالأعلام الباقية يحفظ كلَّ هتافات فدوى سليمان ومواويل عبد الباسط السَّاروت، وينزله منزل ما سبقه.
من جيب جهة قلبه يتناول حنجرة إبراهيم القاشوش بحذر وحرص شديدين ويلفّها بخصلات شائبة جمعها من شعر مي سكاف كي يبقوا على دفئهم، ثمَّ يؤوي اللَّمَّة موضعها من الحقيبة.
يحمل بعد ذلك كيساً يحوي آخر أنفاس إيلان قبل أن يبتلع غدَه بحرُ إيجة، ويضعه بهدوء إلى جانب كيس مثله يحوي كلَّ ذهول عمران المكلَّل بالتُّراب بعد أن لفظ يومَه الموتُ لسبب ما.
“ماذا يتبقَّى؟”، يسائل نفسه.
يتذكَّر فجأة سترة النَّجاة الَّتي أودت بحياة صديقه أمام عجز الجميع، فيضمُّها إلى رفاق العودة.
يلملم بعدها كلَّ الصُّور الَّتي احتفظ بها لبشر غير البشر، ويجمعها في ظرف أبيض مع الكلمات الختاميّة الَّتي قالها من مضوا في رحلة الخلود.
يغلق الظَّرف بعناية ويكتب عليه من الخارج “إلى الله … لأخبره بكلِّ شيء”، ويُفرد له حيِّزاً خاصَّاً حتَّى لا تمتدَّ إليه أو إلى محتوياته يد مزاود.
وأخيراً…
يخرج قنينة صغيرة من الزُّجاج الأبيض الشَّفَّاف خبَّأها في ثنايا روحه. يحملها بين الإبهام والسَّبَّابة وينظر بحنان إلى محتواها ثمَّ يرجُّها. لم يتغيَّر ما فيها ولم يتبدَّل على الرَّغم من مضيِّ زمن ليس بالقصير عليه.
لقد عبَّأ فيها دموع أمِّه يوم ودَّعته …
يفتحها ويسكب بحرص بضع قطرات منها على يده. يفرك كفّيه ويفرد الحنان المفتقد على نفسه تبرُّكاً، فيدفأ المكان فجأة.
يلقي نظرة أخيرة على الغرفة الَّتي كانت كلَّ عالمه في سنيِّ بحثه عن لقاء مع الحرِّيَّة. وعندما يتأكَّد أنَّها خالية من أيِّ ذكرى منسيَّة أو حلم سارب أو أمنية متوارية، يغلق الحقيبة ويحملها ويمضي.
يصكُّ الباب وراءه بعد أن يعلَّق المفتاح عليه ويكتب كلمة واحدة على ورقة الوداع:
“راجع”.
يتحسَّس طريق العودة…
يتتبَّع آثاراً منهكة خلَّفتها خطوات متردِّدة رصفت ذلك الدَّرب حين قدومه، عندما تبع رغبته في اللَّحاق بالسَّراب.
عندما يقترب من منحنى ما، يستقبله صوت عندليب لا زال يخبِّر بذات اللَّهفة، يوم ظنَّ أنَّه في طريقه إلى لقاء النُّبوءة، أن سنرجع، فيمضي وراء رجع الخبر.
وعند أوَّل خيمة نزوح غزاها المطر، واختطفها الطِّين، وتناسى جرحها الجميع، يضع حقيبته من يده ويحطُّ رحاله.
يرفع سِجفها ويقف عند مدخلها ثمَّ يولِّي وجهه شطر الجنوب.
كانت الشَّمس ترسل أولى ذوائبها النَّاعسة، وقد أيقظها صوتٌ ناعمٌ يدندن من بعيد ’سنرجع يوماً إلى حيِّنا‘، فيسلِّمها الظَّرف الأبيض بما فيه، ويغرق في دافئات المنى.
يدسُّ يده في جيبه ويخرج منه مفتاح منزلهم. كان قد علَّقه بسلسلة مشغولة على شكل علم فلسطين أهداها له رفيق تيه. يتذكَّر ذلك النَّهار البعيد كأنَّه يعيشه اليوم.
يخشخش بالمفتاح لصورة الصَّغيرة روان كي يهدهد آخر روعها الَّذي لا يغادر ذاكرته، فيتجمَّع حوله كلُّ سكَّان حقيبته بانتظار ساعة العودة.
يرتفع الصّوت النَّاعم ثانية، فيبدأ الجمع يردِّد معه:
سنرجع مهما يمرُّ الزَّمان وتنأى المسافات ما بيننا
فتبسم لهم رهام من السَّماء، حيث راحت رفوف الطُّيور تعود.
ملاحظة:
(القصة تم اعتبارها واحدة من أهم ١٥ قصة شاركت في مسابقة شهد الحروف برعاية كل من اذاعة اسطنبول اف ام واكاديمية اسطنبول وبيت فلسطين للشعر وثقافة العودة والنادي العربي)