سعيد الشحات
أطل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، فناداه سميح القاسم: “محمود.. تعالي يا محمود”.. فجاء محمود “. كنا في شهر نوفمبر عام 1988 ، وكان اتحاد الفنانين العرب ينظم أسبوعا احتفاليا باسم “حماية المقدسات الفلسطينية ” في فندق (شبرد) بالقاهرة بحضور ياسر عرفات رئيس منظمة التحير الفلسطينية ( لم يكن هناك دولة فلسطينية بعد)..وشهد الأسبوع أمسيتين للشعر ، واحدة في مسرح الجمهورية ، للشاعرين محمود درويش وسميح القاسم ، وكان الدكتور أسامة الباز المستشار السياسي لرئيس الجمهورية في مقدمة الحضور وألقي درويش قصيدة “هي أغنية ” و”على هذه الأرض ما يستحق الحياة ” وألقي سميح قصيدته “شخص غير مرغوب فيه .
،أما الندوة الثانية ، فكانت في مسرح البالون ،للشعراء ، محمود درويش وسميح القاسم ومريد البرغوثي وأحمد دحبور(مازلت احتفظ بتسجيل للأمسيتين قمت بتسجيلهما وعلي درجة عالية من الجودة ).. وألقي درويش قصيدته المهداة إلي سميح القاسم ” أسميك نرجسة حول قلبي ” ، ويومها فرت الدموع من عين سميح ، ودرويش يقول له :” أما زلت تؤمن أن القصائد أقوي من الطائرات /إذأَ كيف لم يستطع امرؤ القيس فينا مواجهة المذبحة “.
كان الحضور حاشدا في الأمسيتين ، وكان سميح القاسم يزو مصر لأول مرة قادما من فلسطين المحتلة ،ولهذا كان الاحتفاء به كبيرا .
ذهبت إلي فندق “شبرد ” بعد الأمسيتين ، للقاء الشيخ عبد الحميد السايح ، رئيس المجلس الوطني الفلسطيني حسب موعد مسبق، وكان معي صديقي المصور محمد السهيتي ،وفوجئت بأن الرجل جاءه استدعاء مفاجئ في رئاسة الجمهورية ،فوقفت محبطا ،وإذا بصديقي الكاتب الصحفي مجدي حسانين” رحمه الله ” يظهر ، وكنا نعمل سويا في مركز “صاعد ” للخدمات الصحفية ،شرحت لمجدي ما حدث ، فهدأ من غضبي، واقترح أن نذهب إلي مكان الاستقبال ربما نجد بديلا صحفيا.
دخلنا إلي “الاستقبال” ومعنا محمد السهيتي ، ووجدنا سميح القاسم يجلس وحيدا ،وكان مجدي أجري معه حوارا في اليوم السابق ، فذهبنا إليه، وقام مجدي بتقديمي إليه ، وصمم سميح علي أن نجلس معه، تحدثنا معه في شعره ، وكان سعيدا بأننا نحفظ كثيرا من أشعاره ،وبين الحين والآخر كان يعبر عن سعادته البالغة بأنه لأول مرة يزور بلد عربي ،وبينما يأخذنا الحديث إذ بمحمود درويش يظهر بهيبة ، فناداه سميح :” محمود ، تعالى يا محمود “.
جاء محمود درويش، وتبادلنا أنا ومجدي النظرات التي تعني أننا أمام صيد صحفي ثمين، لا يقتصر علي إمكانية الحوار مع درويش الذي لا يرحب كثيرا بإجراء حوارات صحفية، وإنما مع الاثنين في جلسة واحدة بكل ما يحملاه من صداقة عمر ونضال وشعر في فلسطين المحتلة.
سلمنا علي “درويش”، وقدمنا إليه سميح بمحبة وتقدير قائلا:” مجدي حسانين، صحفي “و”سعيد الشحات، صحفي” ..فرد محمود متبرمًا: “صحافة .صحافة. بلاش صحافة ” ، لكن سميح طمأنه بتقدير لنا :” لا ،لا ، اطمئن دي جلسة أصدقاء والحقيقة هم صحفيين ممكن تحبهم” ..رد محمود ضاحكا: “ممكن آه وممكن لأ..الأفضل تكون جلسة أصدقاء “، وواصل كلامه معبرا عن ضيقه من ملاحقة الصحفيين:” أسئلتهم لا تتغير: ما رأيك في إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة؟.. إلي أين تذهب القضية الفلسطينية؟ ما رأيك في موقف مصر؟ ..وأضاف ضاحكا: “الأسئلة تكون ضعيفة ويطاردك الصحفي في كل وقت، لكن أنا احترفت الهروب “.
كان درويش يتحدث، وكنت أنا مشغولا في كيفية كسر هذه الحالة عنده لنفوز صحفيا بالجلسة، وإذا بي استحضر في ذاكرتي حوارا قرأته منذ سنوات أجراه معه مفيد فوزي في عمان، ونشرته مجلة الدوحة القطرية أظن أنه كان في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وقت أن كان الكاتب والناقد رجاء النقاش رئيس تحريرها ، وقال مفيد في مقدمته ما معناه: “أقصر الطرق إلي قلب محمود درويش أن تحدثه في شعره “..فقررت أن أجرب معه هذه الحيلة وأنا الحافظ لكثير من أشعاره ، فسألته :” شاعرنا الكبير، ودون صحافة، أريد أن أعرف منك، كيف كتبت قصيدة “أحن إلي خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسة أمي/وتكبر فيِ الطفولة يوما علي صدر يومي/ وأعشق عمري /لأني إذا مت أخجل من دمع أمي “.
تركني درويش ألقي القصيدة كلها، وكأنه يختبرني، وإذا به ينبسط ،وتعلو الابتسامة وجهه ،ويقول:”ياه ، ياه ” ثم يوجه نظرته إلي سميح :” فاكر يا سميح ، فاكر يا سميح “، ويهز سميح رأسه:” فاكر ، فاكر “..وبدأ درويش في سرد القصة التي حرضته علي تأليف هذه القصيدة وكانت موجعة.
كنت أضع جهاز كاسيت صغير وفيه شريط في الجيب الداخلي للسويتر الذي أرتديه، فمددت يدي كي أضغط عليه كي أسجل خلسة فربما يجد في الأمور شيئا يجعلنا نندم بسبب تفويت هذه الفرصة ،وإذا بدرويش بلمحة بالغة الذكاء يفاجئني ويدي في جيب السيوتر ،قائلا :” طلع الكاسيت ” فضحكنا جميعا، وأخرجت الكاسيت الذي سجل جلسة نادرة ، انضم إليها ، الفنان كرم مطاوع ، والكاتب الروائي يوسف القعيد ، والشاعران الفلسطينيين ، أحمد دحبور ، وهارون هاشم الرشيد.