وائل السواح
يحاول بشار الأسد أن يبدو كالبهلوان الذي يقفز فوق الحبال، ولكنه بهلوان رديء، لم يتقن حرفته، لذلك تراه يتعثّر في كلّ مرّة، وقريبا سوف يقع بحيث يدقّ عنقه. أحد الحبال التي يتقافز عليها الأسد هو حبل العَلمانية. فمنذ بدء الثورة السورية قرّر الأسد أن الحراك المدني الذي انطلق من مدن وبلدات سوريا كان حراكا إسلاميا راديكاليا وينبغي إذن مواجهته بنقيضه، أي العلمانية.
ويتذكّر جميعنا حين خرجت علينا مستشارة الأسد السياسية والإعلامية بثينة شعبان واصفة الحراك بأنه حركة جهادية تسعى لإقامة “إمارة سلفية” في سوريا. ويتذكر جميعنا أيضا أن سوريا 2011 لم يكن فيها إرهابيون وجهاديون، فكان على الأسد الابن أن يخلق ذلك التيار، فأطلق سراح المئات من الجهاديين الذي كان يرسلهم للقتال في العراق، فإذا أبوا الموت وعادوا، أودعهم في سجن صيدنايا سيئ السمعة.
وقد صدرت قبل أيام ورقة تفصيلية تظهر التعاون الوثيق بين نظام الأسد وبين تنظيم الدولة الإسلامية في السويداء، مذكّرة بما جاء على لسان المستشارة الإعلاميّة في القصر الرئاسيّ، لونا الشبل، في لقاءٍ جمعها مع وفدٍ من السويداء بقولها، “إذا لم يلتحق شباب السويداء بالجيش فإنّ داعش قريبةٌ منكم. بعدها.” وبعدها بدأ تنظيم الدولة الإسلاميّة يرهب مجتمع المحافظة، ليظهر بعدها “إجماعٌ لدى شريحةٍ واسعةٍ من سياسيّي ومثقّفي المحافظة وكتلةٍ وازنةٍ من المجتمع الأهليّ، على أنّ داعش فزّاعةٌ لتخويف المحافظة وإخضاعها وعقابها في آنٍ، وأنّ سلطة الأسد استخدمته بدلًا من إطلاق الجيش والميليشيات العسكريّة عليها، كما فعلت في عموم مناطق سوريا، لتأديب المحافظة وإعادتها إلى بيت الطاعة، تفاديًا لانهيار أكذوبة حماية الأقليّات التي تدّعيها وما يستتبعه ذلك من خسارتها أوساطًا ما زالت تصدّقها بين اليساريّين وغيرهم على الصعيد الإقليميّ والدوليّ.”
لعبُ الأسد على حبل العلمانية مردّه أمران: الأول هو محاولته تخويف بعض المكونات المجتمعية للأمة السورية من تطرف أحد المكونات؛ والثاني رشوة المجتمع الدولي والحكومات والمجتمعات الغربية وتحذيرها من نشوء نظام إسلامي راديكالي على حدود أوروبا وعلى تخوم إسرائيل.
بيد أن العلماني العنيد هو ذاته من أطلق سراح دفعة كبيرة من قادة السلفيين الجهاديين الذين كانوا قادوا التمرّد في سجن صيدنايا في عام 2008، وبينهم الأقوياء الثلاثة زهران علّوش”، قائد لواء الإسلام الذي سيبايع بعد قليل قائدا لجيش الإسلام وحسّان عبّود (الملقّب بأبي عبد الله الحموي)، قائد حركة أحرار الشام؛ وعيسى الشيخ، قائد لواء صقور الإسلام. وسيسهم الثلاثة مع أبي محمد الجولاني وأبي بكر البغدادي في دفع سوريا – بمباركة من بشار الأسد وأجهزته الأمنية – إلى أتون التطرف الإسلامي
وفي مثال توضيح على علمانية نظام الأسد، سأروي القصة التالية:
أيام كان الأسد يغازل الإسلاميين، ألغت مدرّسة الرياضيات في مدرسة قبيسية خاصة في دمشق درسَي الفائدة البسيطة والفائدة المركبة من منهاج الرياضيات، أما معلمة العلوم الطبيعية فحذفت من كتاب العلوم فصلا كاملا هو التكاثر البشري. لم تحدث هذه القصة في أفغانستان أيام طالبان، بل في إحدى المدارس الخاصة بدمشق. وهي مدرسة تعلم طلابها المنهاج السوري بعد تعديله وقصقصته وإعادة تفصيله ليوافق رؤية إدارتها الضيقة الأفق للشريعة الإسلامية.
ولو أن الأمور وقفت عند هذا الحد لكانت نصف مصيبة فقط، ولاستطاع المرء إغماض العين، نصف إغماض عنها ربما. ولكن المصيبة تكتمل حين عاد الأطفال إلى بيوتهم وأخبروا آباءهم أن كارثة تسونامي – وفق معلمتهم – ليست كارثة طبيعية ناجمة عن زلزال عنيف في قاع البحر، وإنما هي غضب من الله على تلك البلدان لأنها تسمح للسواح بأن يأتوا إليها بملابس مخلة للآداب حيث يسبحون معا بملابس السباحة ويختلطون معا ويرتكبون ما لا ندري من الآثام.
معلّمة أخرى في المدرسة نفسها قالت إن التثاؤب بفم مفتوح مكروه لأن الشيطان يدخل من فمك إلى جوفك، ثم طلبت من طلابها النظر إلى القمر من خلال منظار ليروا كيف انشق القمر بأم أعينهم، وحذّرت الطلاب من متبعة برامج التلفزيون إلا تلك التي تبثّها قنوات مثل الوصال والمجد واقرأ.
وطبعا، لن يكون ثمة فائدة الآن للحديث عن اختلاط الصبيان والبنات. فرغم أن المدرسة مختلطة، بحكم القانون على الأرجح، إلا أن الفصل بين الصبيان والبنات فصل فظ وجائر ومتعسف. وهو أشد وطأة من المدارس المنفصلة، حيث يتعلم الأولاد والبنات في مدارس مستقلة. فهناك لن تكون عقوبة الصبي الذي يرتكب ذنبا وضعه بين بنتين. ذلك منتهى الانتهاك لكرامة الولد والبنت معا، وهو لا يعمل إلا على تنمية الخوف من الجنس الآخر بدل فهمه وقبوله والعيش معه. وهو لن يؤدي إلا إلى المزيد من العلاقات المشوهة بين الجنسين، القائمة على العنف والخوف والإكراه، وحتى الاغتصاب، ربما.
كتبت يومها مقالا في جريدة النور الدمشقية حول الأمر، فاتصل بي مفتش اللغة العربية الأول في دمشق، وقال إنه يريد أن يحقّق في الأمر. أعطيته اسم المدرسة واسم أولياء أمور الطلاب الذين اشتكوا من سلوك المعلّمات. ذهب المفتش إلى المدرسة وعاد فكتب تقريرا يبرئ المدرسة ويدين أولياء الأمور ويكذّبني.
ومثال آخر عن علمانية الأسد. كنا في عام 2007 نعمل على عقد مؤتمر للعلمانية في دمشق، ودعونا إليه مجموعة من كبار منظري الفكر العلماني العربي. في آخر لحظة، أمر وزير الثقافة وقتها (والذي سيغدو فيما بعد أحد قادة المعارضة) بمنع المؤتمر، ورفض إعطاءنا الصالة التي كنا نحضرها لعقد المؤتمر. اضطررنا في النهاية إلى اختصار المؤتمر إلى طاولة مستديرة عقدناها في المركز الثقافي الدنماركي.
وهناك الكثير من الأمثلة على علمانية الأسد. من ذلك مثلا، امتثال رئيس الوزراء السوري آنذاك لمطالب متشددين إسلاميين بمعاقبة داري نشر سوريتين لنشرهما وتوزيعهما كتابا حول الحجاب كانت السلطات السورية المختصة قد سمحت، أساسا، بطبعه وتداوله في سوريا. ومن ذلك مثلا، خضوع السيدة وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل لضغوط رجال دين متشددين آخرين، لوقف مجموعة نسائية صغيرة عن العمل في مشروع استبيان طرحته هذه المجموعة للنقاش بين السيدات السوريات حول قانون الأحول الشخصية. ولم تحتج السيدة الوزيرة على الهجوم الظالم الذي شنه بعض رجال الدين المتطرفين على أعضاء هذه المجموعة، ولا على اتهامهم لهن بالفجور والكفر والعمالة لإسرائيل، وإنما استدعت بكل بساطة رئيسة هذه الجمعية وأمرتها أن تكف فورا عن متابعة العمل في هذا الاستبيان.
يمكنني أن أمضي في تقديم الأمثلة إلى ما لا نهاية، ولكن الخلاصة واحدة. ليس بشار الأسد إسلاميا ولا علمانيا، ليس رأسماليا ولا اشتراكيا، إنه باختصار زعيم عصابة، وهو يتصرف تحديدا كزعيم عصابة، وآخر سلوك مافيوي له كان طرد ابن خاله من شركاتهما المشتركة، وهو تصرّف لا يقوم به إلا زعيم عصابة.
المصدر: بروكار برس