د. نائل جرجس
استخدمَ النظام السوري المناهج التعليمية كأداة لتكريس سيطرته على مقاليد الحكم، لاسيما من خلال تأطير عقول الطلاب بأيدلوجيته السياسية وتقديسه لشخص الرئيس كما يتبين بشكل خاص من مادة القومية العربية، فضلاً عن اتسامه بالطائفية وعدم الحيادية في مجال التعليم الديني. وقد نصّت المادة 21 من دستور عام 1973 على أن “يهدف نظام التعليم والثقافة الى انشاء جيل عربي قومي اشتراكي علمي التفكير مرتبط بتاريخه وارضه معتز بتراثه مشبع بروح النضال من اجل تحقيق اهداف امته في الوحدة والحرية والاشتراكية والاسهام في خدمة الانسانية وتقدمها”. وتضيف المادة 23 بأنّ “الثقافة القومية الاشتراكية اساس بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد وهي تهدف الى تمتين القيم الاخلاقية وتحقيق المثل العليا للأمة العربية”. وبالتالي تعكس هذه النصوص الدستورية مبادئ وتوجهات حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم. أمّا المادة 28 من الدستور الحالي، فقد اكتفت بالنصّ على أن “يقوم نظام التربية والتعليم على إنشاء جيل متمسك بهويته وتراثه وانتمائه ووحدته الوطنية”، ومع ذلك يستمر النظام في تسخير المناهج التعليمية في خدمة مصالحه وسياساته.
كرّست العديد من الدساتير السورية المتعاقبة أهمية خاصة لمسألة التعليم. فاستفاضت المادة 28 من دستور عام 1950 بالتفصيل عن التربية والتعليم وعدّتهما حق لكل مواطن، وبضرورة أن يعنيا بتقوية الشخصية والحريات الأساسية. وأضافت هذه المادة بأن يكون “تعليم الدين إلزامياً في المراحل لكل ديانة وفق عقائدها”، وبأنّ “يهدف التعليم إلى انشاء جيل قوي بجسمه وتفكيره، مؤمن بالله، متحل بالأخلاق الفاضلة، معتز بالتراث العربي، مجهز بالمعرفة، مدرك لواجباته وحقوقه، عامل للمصلحة العامة، مشبع بروح التضامن والأخوة بين جميع المواطنين.” وأضافت بحظر “كل تعليم ينافي الأهداف الواردة في هذه الفقرة”. ولم يُشر دستور عام 1950 كغيره من الدساتير السورية، باستثناء دستور عام 1930، إلى حقوق للطوائف الدينية بمسألة التعليم. أمّا دستور عام 1930، فقد جاءَ في مادته 28 بأنّ “حقوق الطوائف الدينية المختلفة مكفولة. ويحق لهذه الطوائف أن تنشئ المدارس لتعليم الأحداث بلغتهم الخاصة بشرط أن تراعي المبادئ المعينة في القانون”. ويتشابه هذا النصّ مع مضمون المادة 19 من الدستور الحالي الأردني الذي يقول بأنّه “يحق للجماعات تأسيس مدارسها والقيام عليها لتعليم افرادها على ان تراعي الاحكام العامة المنصوص عليها في القانون وتخضع لرقابة الحكومة في برامجها وتوجيهها”.
وهكذا يترك الأردن لغير المسلمين المعترف بهم، خاصة المسيحيين، الحرية في أن تكون لهم مدارسهم الخاصة، بينما أمّم نظام البعث السوري المدارس غير الحكومية عام 1967، وفرضَ نظاماً تعليمياً موحداً. وقد أدّى ذلك إلى تدخل أكبر ورقابة أشد من قبل النظام الحاكم على المدارس المسيحية التي أُغلقت بغالبيتها، بينما وُضع ما استثني منها تحت رقابة مشددة لوزارة التربية التي تتدخل في تسمية المسؤولين فيها، وتفرض فيها نظاماً تربوياً تعريبياً وكتباً للتعليم الديني والقومية العربية. أساءَ هذا بشكل خاص إلى المسيحيين غير العرب، كالآشوريين والأرمن، الذين فقدوا ميزة تدريس لغتهم، مع وجود استثناءات محدودة حتى يومنا هذا. ومن المعروف بأنّه يدرّس في سوريا مادة الديانة التي تختلف بحسب الانتماء الديني للطفل، دون إلزام بالحياد وباحترام الأديان الأخرى.
لابدّ من التفكير جلياً في مسألة النظام التعليمي السوري الذي سبّب التوترات والمشاكل الطائفية والمذهبية والعرقية، لاسيما من خلال تجاهله التثقيف بدين الآخر وضمان تعلّم اللغات الأصلية لغير العرب السوريين. وتبقى مسألة توحيد المناهج أو السماح بتعددها أمراً مثيراً للنقاش في المرحلة المقبلة. وفي جميع الأحوال، من الضروري أنّ يوجّه التعليم الطفل بطريقة تسهم في تعزيز قدرات الطفل وقيم حقوق الإنسان ودولة المواطنة. فقد جاء في المادة 29 من اتفاقية حقوق الطفل، التي صادقت عليها الحكومة السورية، بأنّ يكون التعليم موجهاً نحو “تنمية شخصية الطفل ومواهبه وقدراته العقلية والبدنية إلى أقصى إمكاناتها ؛ تنمية احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية والمبادئ المكرسة في ميثاق الأمم المتحدة ؛ تنمية احترام ذوى الطفل وهويته الثقافية ولغته وقيمة الخاصة، والقيم الوطنية للبلد الذي يعيش فيه الطفل والبلد الذي نشأ فيه في الأصل والحضارات المختلفة عن حضارته”. وتضيف هذه المادة بأنّ يتم “إعداد الطفل لحياة تستشعر المسؤولية في مجتمع حر، بروح من التفاهم والسلم والتسامح والمساواة بين الجنسين والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات الإثنية والوطنية والدينية والأشخاص الذين ينتمون إلى السكان الأصليين”.
يتطلب إذاً إحلال السلام الدائم وإقامة دول المواطنة في سوريا بأن يتم إصلاح النظام التعليمي بشكل جذري. فالغرض من هذا الإصلاح تدريس الأجيال الناشئة أسس التعايش الديني والأثني ونبذ الكراهية وتقبل الآخر. كما تُشكل مسألة التثقيف بحقوق الإنسان خطوة هامة للوصول إلى حماية فعّالة لهذه الحقوق في سوريا التي لايكف تأثير الدين والطائفية فيها من الصعود. وعلى صعيد التعليم الديني، ليس المطلوب إلغاء الدين من النظام التعليمي، وإنما استخدام جانبه الإيجابي من أجل تعزيز قيم التعايش بين الأديان ونشر فكر التسامح وقبول الاختلاف. فالنظام التعليمي هو أداةً أساسية لاندماج أو عدم اندماج المكونات الدينية والعرقية في سوريا. فيمكن أن يتم استخدامه، كما هي الحال اليوم، لتعزيز الانقسام بين المسلمين وغير المسلمين، وتصاعد الإرهاب والعنف ضد المختلف، بالمقابل يمكن تسخيره لإقامة دولة مواطنة ديمقراطية قائمة على المساواة واحترام حقوق وحريات المواطنين.
المصدر: بروكار برس