سامر إلياس
توظف السلطات المركزية والمحلية في روسيا كل إمكاناتها لرفع نسبة المشاركة في التصويت على تعديلات دستورية تسمح للرئيس فلاديمير بوتين بحكم البلاد حتى 2036. وبعد يوم على استعراض قوة في الساحة الحمراء بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين للنصر على النازية، ومع إعلان السلطات انتصارها على فيروس كورونا، انطلق أمس الخميس التصويت لاعتماد تعديلات بحزمة واحدة على 206 من فقرات الدستور الروسي الحالي، على أن ينتهي “العرس الانتخابي” في 1 يوليو/تموز المقبل بقبول شعبي واسع لتعديلات يفترض أن تحدد عقداً اجتماعياً جديداً بين السلطات والشعب.
لكن صفاً واسعاً من الروس يخشى أن يكون الهدف الوحيد هو فتح المجال أمام تتويج بوتين “قيصر” مدى الحياة، بصيغة علاقات معقدة بين الكرملين والبرلمان والحكومة لا تسمح بالتعددية الحزبية ولا يمكن ضبطها، إلا بزعيم يُمسك بجميع مفاصل الحكم، ويشرف على توزيع الأدوار، ما يجعل حظوظ أي زعيم مقبل بعد بوتين شبه مستحيلة في إدارة النظام الجديد. عملياً كان يمكن تمرير التعديلات الدستورية الحالية من دون اللجوء إلى التصويت العام، لكن بوتين أصرّ على نيل تفويض شعبي عام أطاحت جائحة كورونا بتنظيمه في 22 إبريل/نيسان الماضي. ومع التراجع الحاد في مؤشرات الاقتصاد الروسي بفعل تهاوي أسعار الطاقة وكورونا، ووسط توقعات بازدياد أعداد العاطلين من العمل إلى أرقام قياسية غير مسبوقة منذ عشر سنين، بات موقف الكرملين صعباً جداً، ما اضطره إلى إعلان انتهاء كورونا، على الرغم من استمرار حالات العدوى والوفيات المرتفعة، وتنظيم عرض عسكري بمناسبة النصر، تلاه افتتاح صناديق الاقتراع على التعديلات الدستورية، خوفاً من تراجع شعبية السلطات، وفشلها في تأمين نسبة حضور كبيرة في حال تأجيل الانتخابات إلى الخريف.
إجبار على التصويت
منذ تحديد الكرملين موعد التصويت الجديد، أشارت تقارير وتحقيقات لوكالات أنباء عالمية، ومواقع محلية، إلى حملات لإجبار الموظفين الحكوميين في عدد من القطاعات على المشاركة في التصويت. وتناقل رواد مواقع التواصل الاجتماعي تسجيلات صوتية لمسؤولين في المدارس والمستشفيات تطالب الجميع بالتصويت. ومن أجل رفع نسبة التصويت لإضفاء شرعية إضافية على التعديلات الدستورية، اتّبعت السلطات استراتيجية متكاملة تستفيد من تجارب الحملات الانتخابية السابقة، مع الأخذ بعين الاعتبار المستجدات التي فرضها انتشار فيروس كورونا. وقررت اللجنة الانتخابية المركزية فتح صناديق الاقتراع لأسبوع كامل. وافتتحت مراكز مؤقتة للتصويت في موسكو وضواحيها. كما سمحت لسكان العاصمة موسكو ومدينة نيجني نوفوغراد بالتصويت الإلكتروني.
وفي ظل استمرار انتشار كورونا، أعلنت اللجنة سلسلة تدابير، منها استخدام أقلام لمرة واحدة في التصويت، والمحافظة على مسافة 1.5 متر بين الحضور، حتى عندما يعرض الجواز أمام المشرفين على الانتخابات، مع رفع الكمامة قليلاً حتى يتسنى التأكد من شخصية المقترع، واستبدال القفازات والكمامات بعد الخروج من المركز الانتخابي، وعدم السماح بالأكل والشرب أو المصافحة أثناء التصويت. وجهزت اللجنة مراكز اقتراع مؤقتة في كبريات المراكز التجارية وسط العاصمة وأطرافها وفي المطارات. كما جهزت فريقاً من أجل الذهاب إلى منازل غير القادرين على الخروج من منازلهم، وأكدت أنه لن يتم الدخول إلى البيوت مع مراعاة جميع شروط السلامة لعدم انتقال عدوى كورونا. ومع وجود قرابة 240 ألفاً من المصابين النشطين بفيروس كورونا، أبدت السلطات استعدادها لمنحهم فرصة التصويت، شرط إبلاغ اللجنة الانتخابية شفوياً أو كتابياً برغبتهم في حال عدم قدرتهم على التصويت الإلكتروني، وجهزت فرقاً خاصة بالملابس الخاصة وأدوات الوقاية من المرض.
“الأخ الكبير”
يرى معارضون أن التسهيلات والإجراءات غير المسبوقة لرفع نسب المشاركة في التصويت يمكن إدراجها في إطار سعي السلطات لإشراك أكبر عدد ممكن في تقرير مستقبل البلاد، لكن من غير المقبول إجبار الموظفين والعاملين في المؤسسات والشركات الحكومية على التصويت. وفي 23 من الشهر الحالي، طالب عدد من أعضاء برلمان مدينة موسكو العمدة سيرغي سوبيانين بـ”وقف إجبار موظفي الحكومة على التصويت”. وكان لافتاً أن المجموعة ضمت عدداً من ممثلي الحزب الشيوعي الروسي، وحزب “روسيا العادلة” المحسوبين على المعارضة “المدجنة للنظام”. وأشار البرلمانيون، في رسالتهم المفتوحة، إلى أن “التصويت المقرر في 1 يوليو يفتقد الأساس القانوني، وفيه عدد كبير من الثغرات تسمح بالتزوير على مستويات مختلفة”. وطالبوا بالتأكد من تقرير أعده المعارض الروسي ألكسي نافالني تحت عنوان “كيف يبدو الأخ الكبير من الداخل”، والذي يقدّم شهادات مدرسين وعاملين في القطاع الطبي، وبعض موظفي الدوائر الحكومية في موسكو وضواحيها، أكدوا فيها أنهم أجبروا على التسجيل للتصويت الإلكتروني، وتقديم دليل للإدارة على ذلك تحت طائلة العقوبة في حال عدم التنفيذ.
وحسب تقارير أخرى، لم يقتصر الإجبار على التصويت على المؤسسات الحكومية، بل اتّبعه عدد من الشركات النفطية وشركات بناء في موسكو. ومنذ أيام أعلنت اللجنة المركزية للانتخابات أن نحو 1.2 مليون شخص من سكان العاصمة سجلوا بياناتهم من أجل التصويت على التعديلات الدستورية. وكانت السلطات فتحت موقعاً خاصاً للتسجيل قبل 21 من الشهر الحالي على أن يُسمح للمسجلين بالتصويت حتى 1 يوليو/ تموز المقبل.
وفي تقرير نشرته وكالة “رويترز” منذ أيام، أكدت أن الكرملين وجّه رسالة إلى ثلاث من الشركات الخاصة على الأقل، من أجل رفع المشاركة في الانتخابات، وطرق التأكد من تصويت الموظفين. وذكرت أن الرسالة تضمنت تذكير الموظفين بضرورة التصويت عبر اتصال تلفوني أو رسالة قصيرة. كما تضمنت الخطة، حسب وثيقة قالت “رويترز” إنها حصلت عليها، طرح عدد من “الأسئلة الصعبة” للمشاركة في ربح بعض الجوائز من قبيل “هل صحيح أن بوتين يغير الدستور لمصلحته من أجل البقاء في الحكم؟”، مع خيارات للإجابة، منها أن “بوتين يفعل هذا من أجلنا بالتحديد، كي لا يستطيع أي رئيس يأتي إلى الحكم من بعده تخريب البلاد مثل ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين”. وفي أحد التوجيهات التي تضمنتها الوثيقة فإن مدراء الشركات يمكن أن يشرحوا للموظفين إن “كان بإمكان بوتين أن يواصل حكم البلاد حتى من دون أي منصب… بوتين القائد الوطني لروسيا”.
ومعلوم أن رئيسة اللجنة الانتخابية المركزية إيلا بامفيلوفا استبقت نتائج المشاركة والموافقة على التعديلات بتسويقها على أنها “مكرمة” من بوتين. وأعلنت، قبل أيام، أن “التعديلات شرعية (من دون تصويت) لأنه صُدِّق عليها من مجلس الدوما (البرلمان) والاتحاد (الشيوخ) والبرلمانات المحلية في المقاطعات الروسية”. وشددت على أنه “يجب النظر باحترام كبير إلى أن الرئيس لم يتوقف عند هذا (التصديق على التعديلات من المشرعين)، وأن إرادته السياسية ورغبته في أن يستمع إلى رأي الشعب وليس أحكام الدستور الحالي”. وفي المقابل، حسم صف واسع من المعارضة خياراته، وقرر مقاطعة التصويت للتقليل من شرعيته. وينتقد المعارضون صيغة التصويت بنعم أم لا على تعديلات جذرية في الدستور كحزمة واحدة. ويرى معظمهم أن الهدف الأساسي هو ضمان بقاء بوتين في السلطة حتى 2036.
مباركة نصف الشعب
وحسب تقارير إعلامية تداولتها الصحف والمواقع الروسية، فإن الكرملين حدد هدفاً واضحاً يتضمن موافقة أكثر من نصف الروس على التعديلات، ما يعني مشاركة نحو 65 في المائة مع نسبة تأييد تتجاوز 70 في المائة، وهو هدف يقترب من نسب المشاركة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في 2018، وحينها بلغت نسبة المشاركة 67.5 في المائة، وصوت لصالح بوتين 76.69 في المائة. وحسب خبراء فإن “مباركة” أكثر من نصف الناخبين الروس تعطي بوتين “شرعية إضافية” للترشح في انتخابات 2024 في حال قرر ذلك، علماً أن نسبب رضا الروس الحالية عن أدائه ما تزال مرتفعة، على الرغم من تراجعها إلى 59 في المائة حسب استطلاع مركز “ليفادا” المحايد.
وعمدت السلطات إلى زيادة الدعم للأطفال، وتخفيف شروط الرهن العقاري وخفض نسبته. وروّجت عبر مقالات وبرامج أن التعديلات الدستورية تهدف لحماية التاريخ الروسي وقيم المجتمع المحافظة في وجه الغرب المعادي لعودة الدور العالمي لروسيا.
وفي تكرار لتجارب الانتخابات الرئاسية في 2018، أعلنت إدارة مدينة موسكو، بالتعاون مع عدد من الشركات، عن سحب يانصيب للمشاركين في التصويت على سيارات وشقق سكنية بعد إظهار وثيقة تُثبت المشاركة، ما يفتح المجال أمام معرفة بيانات من لم يؤدِ “واجبه الوطني”. وكذلك تنظم مقاطعة كراسنويارك (شرق البلاد) مجموعة سحوبات على شقق وسيارات. وحسب تقارير إعلامية فإن 80 مقاطعة روسية بدأت في نشاطات الترويج عبر تنظيم مسابقات، فيما ذكرت مصادر إعلامية أن تكلفة هذه البرامج في مختلف المدن الروسية لن تقل عما صرف في 2018، والتي قدرت سابقاً بنحو 14 مليار روبل (الدولار 70 روبلاً). وفي 2018 نظمت بعض المقاطعات مسابقات لأجمل “سيلفي” مع صندوق الاقتراع. وكشفت تقارير إعلامية بعدها أن الهدف هو إرسال صور للمدراء تؤكد مشاركة الموظفين بالتصويت.
المصدر: العربي الجديد