ميشيل كيلو
تحتفي النُّظم ومناصروها بما يسمّونه “فشل الربيع العربي”، ويستدلون على فشله بما آلت إليه أوضاع مصر واليمن وليبيا وسورية، وباستمرار النظم التي استهدفها ذلك الربيع، وبالصراع بين من انخرطوا فيه حول نمط النظام السياسي البديل الذي يريد كل طرف منهم إقامته.
ومع أن تمرّد السوريين يختلف من جوانب عديدة عن غيره، لكون تناقضه مع الأسدية هو محوره الرئيس والجامع الذي لم تحجبه أو تطغى عليه تناقضات تياراته المختلفة حول هويته وأهدافه، ولم ينجح جيش الأسدية في القضاء عليه، بمعونة من استجلبهم إلى سورية من غزاة وأجانب لمشاركته القتال ضد شعبها المتمرد؛ فإن هناك من يضمّ ثورة السوريين إلى تجارب الربيع العربي الفاشلة، لأنها لم تُسقط النظام القائم أو تقدّم بديلًا له في مناطق سيطرتها، ولم توحّد قدراتها وتنظيماتها وقيادتها، ولم تنجح في بلورة خطط وبرامج توجّه خطى حامليها السياسي والعسكري نحو هدف متوافق عليه وطنيًا، يكبح الالتباسات المحيطة بالصراع بين تياريه الديمقراطي والإسلامي حول مشروعيهما المتناقضين، وما يطالب به الأول من حرية، والآخر من دولة دينية، ويلقيه تناقضهما من غموض على مآل الثورة النهائي، ويثيره من شكوك حول فرص انتصارها.
لا شكّ في أن لما يُقال نصيبًا من الصحة، فالربيع العربي صنعته مجتمعات تفتقر إلى تعبيرات سياسية منظمة، وليس لديها ما يكفي من برامج وخطط يحوّل تطبيقُها حراكه من تمرّد إلى ثورة منظمة، بعيدة عن العشوائية التي وسمت دومًا تمرّد المجتمعات، حتى التمرّد الذي نجح وفتح صفحة جديدة في تاريخ البشرية، كالتمردين الفرنسي والروسي، بما كان بينهما من تباين في المنطلق والمسار والمآل، ويشبه الربيع العربي الأول، الفرنسي، منهما إلى حد بعيد، سواء من حيث الجهة التي قادتهما، وهي فئات تنتمي إلى المجتمع المدني، لم تكن أحزابًا تراتبية العضوية، ولم تمتلك نظرية ثورية صاغتها نخبة ثورية بنت حزبًا حديدي الانضباط، وزودته بخططٍ أريد بها أن تتكفل بتحقيق انتقالها إلى ثورة منظمة، عبر آليات واضحة وملزمة، تحوّل تمردًا ليست من أطلقه إلى ثورةٍ هي التي تقودها، كالثورة الروسية. يشبه الربيع العربي الثورتين في حامله المجتمعي الكثيف والمتنوع مجتمعيًا، ويختلف عنهما في هوية النظام البرجوازي الذي ترتب على تمرّد الشعب الفرنسي، الاشتراكي الذي أدت إليه الثورة الروسية، وفي عدم حسم هوية هذا النظام الاجتماعي، سياسيًا أو طبقيًا، في بلدانه، لما بين رهانيه الديمقراطي والإسلامي من تناقضات حوله، تبلغ حدود التضارب والتعارض بين النموذجين اللذين قد ينتجان؛ فالربيع العربي يعرف الذي يرفضه، ولم يقرّر متمردوه بعدُ نمطَ النظام الذي يريدونه، لاختلاط توضعات نُظم مختلفة في واقعهم: بعضها إقطاعي وبعضها الآخر شبه برجوازي. ويشبه الربيع العربي الثورتين، في الزلزال الذي أحدثه في الواقع السياسي العربي وعلاقات المجتمعات بسلطاتها، والصدع الذي أصابها به، وقد جعل من المحال عودة المجتمعات والنظم إلى ما كانت عليه قبله، وكشف حجم التنافي بين بقاء نظمها ورغبات شعوبها، وبين إرادات مجتمعاتها وخيارات حكّامها، وفضح تقادم حكوماتها وأساليبها وقد عفا الزمن على أشخاصها ومؤسساتها، وعمق التحدي الذي طرحه رفض مواطنيها لها، وترجمه الربيع العربي إلى استحالتين: إحداهما استحالة استمرار طرق الحكم السائدة في حفظ النظم القائمة، والأخرى: استحالة بقاء المحكومين خاضعين للنظم وطرقها في ممارسة السلطة.
بتقادم النظم ورفضها، وباكتشاف مدى عجزها عن ملاقاة مطالب مجتمعاتها؛ تكون المجتمعات العربية قد بدأت ربيعها، وغادرت شتاء نظمها، وقررت مفارقة الرضوخ لها، وانخرطت في دروب الثورة الأعظم في التاريخ: الثورة الفرنسية، التي أحدثت تحولًا على صعيد النظام المجتمعي، خلال الأعوام الخمسة الأولى من انطلاقتها، لكن صراعها من أجل سلطة برجوازية تعبّر عنه استمرّ طوال سبعين عامًا ونيف، ولم يرَ أحدٌ من دارسيها الكثيرين أنها فشلت بسبب المدة الطويلة التي اقتضاها انتصارها على صعيديها الاجتماعي والسياسي، أو لأن نظامًا إمبراطوريًا وآخر ملكيًا تبادلا السلطة في فرنسا بعد عام 1789، عام الثورة، بل قال جميع من أرّخوا لها إنها رسمت في هذا العام خطًا فاصلًا بين زمنين ونظامين ومجتمعين، رسم الربيع العربي خطًا مثله، يجعل النظم القائمة تنتمي إلى زمنٍ مضى، ويجبرها على إجراء إصلاح يشمل بناها وآليات اشتغالها وأهدافها وعلاقاتها بمجتمعاتها، التي لا بدّ من أن تشهد تبدّلًا عميقًا وشاملًا، ستنتمي من خلاله إلى زمن جديد، لن ينجح أحدٌ في تغييب شمسه، أو تجاهل نورها الساطع، إضافة إلى ما فضحه من عفن تاريخي وراهن في واقعنا العربي: السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وأكّده من حاجة إلى بدائل تشمل هذه المجالات جميعها، ويؤمن المواطن العربي بضرورة خضوعها لإصلاحٍ، كان أستاذنا الراحل إلياس مرقص يقول إنه سيكون البوابة التي سندخل منها إلى ما هو أكبر من ثورة!
قلتُ إن الربيع العربي يقع بين الثورتين الفرنسية والروسية، وهو أقرب إلى الأولى منه إلى الثانية، وإنه كان سيتفق مع الثانية، لو توفرت له القيادة والبرامج الكفيلة بتحويله من انتفاضات شعبية إلى ثورات تفتح لنا بوابات تاريخ جديد، أراد المتمردون تحقيقه، لكن افتقارهم إلى قيادة ثورية وموحدة، وخطط تواكب نمو ثورتهم وتحميه، حال بينهم وبين هدفهم الذي لا شكّ في أنه قادم، تدريجيًا، عبر ما ستقوم به الحكومات من إصلاحات، بعد أن فهمت درس الربيع، وعلمت أن تحاشي تجدده يوجب تحقيق مطالبه، كليًا أو جزئيًا، أو عبر انتفاضات جديدة يتوقف انتصارها النهائي والحاسم على نجاح نخبنا في بناء الأداة الثورية التي ستنظمها بالقدر الذي يقتضيه تناميها إلى ثورة تقتلع النظامين الاجتماعي والسياسي، القائمين اليوم. فماذا ننتظر كي نُنجز هذه المهمة التاريخية؟! ومتى نبدأ إنجازها؟!
المصدر: حرمون للدراسات المعاصرة