كثيرًا ما تساءلت عن سر التناقضات الكبيرة في المواقف التي تصدر عنا – حكومات وشعوبا وأفراد – تجاه الغرب.. فالغرب في نظر الحكومات هو المستعمر الذي يعمل باستمرار من أجل السيطرة على بلادنا ومقدراتها، ولم يفكر يوما في التعامل معها كدول أو كيانات مستقلة.. هو المسؤول في نظرها عن جميع العواصف التي تحل بمنطقتنا، وهو المخطط لجميع المؤامرات التي تحاك ضد حكوماتنا، وهو المانع لأي خطوة باتجاه تقدمنا واستقلال قرارنا واستعادة دورنا الحضاري، ورغم ذلك لا تكاد ترى واحدة من تلك الحكومات تتقدم خطوة دون أمره أو تتحرك خارج مداره أو تتنفس دون اذنه.. والغرب في نظر الشعوب هو الناهب لثرواتها الساعي نحو افسادها وتشويه تاريخها وتفكيك مجتمعاتها وتغريبها عن ثقافتها وابعادها عن دينها، ورغم ذلك يسعى معظم الافراد في تلك الشعوب للوصول إلى الغرب بهدف العمل أو الدراسة أو العيش بحرية والتمتع بالحقوق الشخصية والاحساس بالكرامة الإنسانية … أيهما الغرب؟؟ هل هو العدو المستعمر الحاقد الذي زرع في منطقتنا الكيان الصهيوني والعديد من العملاء في الجيش والاعلام والسياسة لإحكام السيطرة على بلادنا ونهب ثرواتها واللعب على التناقضات الدينية والثقافية واستغلال الثغرات التاريخية لضمان استمرار النزاعات البينية فيها تحقيقًا لسيطرته عليها والتحكم بمقدراتها .. أم هو الغرب المتقدم المتحضر الذي حقق ثورة هائلة في العلم والتكنولوجيا ودافع عن حقوق الانسان وحمى الحريات وحقق الرفاهية للشعوب ونشر مبادئ العدالة … كثيرا ما حضرت نقاشات محلية بين مدافع عن الغرب ومشيد بإنجازاته العلمية والتقنية ومعجب بحجم الحريات والحقوق التي يقدمها لشعبه من جهة، وحاقد عليه باعتباره المسؤول الرئيسي عن حالة التفكك والتشرذم والتنازع والتخلف الذي هيمن على مجتمعاتنا عبر أدواته التي تنوب عنه في المنطقة من جهة أخرى.. وقد لفتني في الفترة الأخيرة العديد من المنشورات والمقالات لسوريين هاجروا حديثا إلى الغرب يمارسون فيها عادة جلد الذات واحتقار تاريخنا وثقافتنا بشكل مفرط مقابل الاعجاب بالنموذج الغربي والانبهار بالحياة الغربية والتقدم التقني والحقوقي في تلك المجتمعات.. ولا ألوم عمومهم على هذا الموقف ذلك أن النقلة الواسعة التي عايشوها بين مجتمع يخضع لسلطات استبدادية شمولية لا تعطي أي قيمة للفرد ولا تراعي خصوصياته ولا تحترم خياراته ، همها الأكبر احكام السيطرة على مقاليد الحكم دون أي اعتبار لحقوق الفرد واستقرار المجتمع ، ومجتمع يخضع لسلطات منتخبة همها إرضاء مواطنيها ورعايتهم والمحافظة على حقوقهم، قد يبرر حالة الانبهار التي تعتريهم في الفترة الأولى من عملية الانتقال هذه ، ويفسر حالة الصدمة خلال عبور تلك الفجوة الكبيرة التي تفصل مجتمعات العالم الثالث عن المجتمعات الأوروبية ، لكنني أعجب من مثقفيهم كيف انطلت عليه هذه المسألة و أدى سحر التقدم التقني والعلمي وهامش الحريات الواسع هناك إلى حالة من العمى عن رؤية المخلب الذي يختفي وراء قفاز الشعارات والوجه القبيح الذي يتوارى وراء مساحيق الحريات والحقوق والذي يستعمله الغرب للعبث في مناطقنا – سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ونفسيا – بهدف المحافظة عليها مفككة متناحرة متوترة متناقضة الأمر الذي يجعله – في نظر الحكومات والشعوب أحيانا – الحل بدل أن يكون المشكلة ، والقاضي بدل أن يكون الخصم .. أعرف الكثير من الأشخاص – قوميين واسلاميين وحياديين – كانوا يتكلمون في منتدياتهم عن الغرب بشكل سلبي، ويرسمون له صورة الشيطان في السياسة والأخلاق، وينتقدون مجتمعه المفكك الذي تذوب فيه المشاعر والعواطف والعلاقات الاجتماعية واقتصاده الرأسمالي الذي يدهس الفقير والضعيف والمسكين، ويؤكدون أنهم لو اضطروا للمكوث في الغرب بهدف الدراسة أو العمل فإن ذلك لن يطول لدواع كثيرة ثقافية ودينية واجتماعية ووطنية.. لكن معظمهم استقروا هناك وأسسوا لحياة مديدة، ومع مرور الزمن بدأ خطابهم يتغير رويدا رويدا عند الحديث عن الغرب، وتحولوا من منتقدين للكثير من سياساته إلى متفهمين ثم مدافعين وأحيانا متبنين لتلك السياسات.. بصراحة.. هناك مبرر قوي لوجود هذه التباينات في النظرة للغرب والتناقضات في الموقف منه.. فالغرب كلا الصورتين في آن.. الغرب هو عدونا الذي لا نتوقف عن طلب مساعدته.. وهو نقيضنا الذي نتمنى وصاله.. هو منبع الآلام والآمال.. مصدر الشرور ومبتغى الطامحين.. يشردنا من بيوتنا ثم يفتح لنا بيته.. هو خصم القومية العربية ومنبر معظم القوميين العرب.. عدو الحركات الإسلامية والحضن الدافئ لمعظم قياداتها الهاربة من تسلط حكوماتها وبطشهم.. نقيض الاستبداد والراعي الرسمي له.. المحرض على الثورة والحائل دون نجاحها.. إن تفسير هذا التناقض بسيط للغاية.. فرؤية الغرب من داخله تختلف تماما عن رؤيته من بعيد، والنظر اليه بعين الفرد الذي يبحث فقط عن هامش مناسب لحريته الشخصية ودرجة معقولة من الحياة الكريمة يختلف عن النظر إليه بعين الباحث الطامح بنهضة أمته والراغب باستعادة دورها الحضاري والحالم بدولة مستقلة تدافع عن حقوق مواطنيها وتسعى لرفاهيتهم وتهيئ البيئة المناسبة لتقدم البلد ورقيه في كافة المجالات.. إن السبب الحقيقي الذي يفسر هذا التناقض هو الغرب نفسه الذي نجح في رسم مدارين منفصلين تماما لسياسته.. مدار يمثل سياسته الداخلية – والتي يمارسها داخل حدوده فقط ويحاول جاهدًا منع تطبيقها في دولنا – تقوم على رعاية الحريات واحترام الخصوصيات وحماية حقوق الانسان والعدالة والمساواة وخلق البيئة المناسبة للإبداع والتقدم العلمي والفكري وتكريس الاخلاق الاجتماعية الضامنة لاستقرار المجتمع والتداول السلمي للسلطة تجنبا لهزات سياسية ضخمة ، في هذا المدار هناك هامش واسع جدا للحريات الشخصية والفكرية والمؤسساتية لا يخلو بالطبع من محرمات كما هو الامر بالنسبة لقانون تجريم العداء للسامية ومنع الحجاب في المؤسسات الحكومية الفرنسية …… ومدار آخر مختلف يمثل سياسته الخارجية القائمة على الفكر الاستعماري واستعباد الشعوب وامتصاص خيرات البلاد واستغلال مقدراتها ونهب ثرواتها واللعب على تناقضاتها التاريخية والثقافية والعرقية والسياسية من أجل تفكيكها ومنع تكتلها واجهاض أي مشروع يوحد رؤيتها ويركز جهودها في خدمة مجتمعها وتقدمه .. في هذا المدار لا يوجد لدى الغرب محرمات على الاطلاق، فهو مستعد لتنفيذ أقذر المهام والتخطيط لأسوأ المؤامرات وممارسة أو تغطية أبشع حالات التوحش والهمجية والتدمير والقتل والتهجير في سبيل تحقيق استراتيجيته والوصول إلى أهدافه.. وما حصل في سوريا في السنوات الأخيرة دليل واضح على ذلك – فضلا عن العديد من الأمثلة الأخرى في مختلف بقاع الارض -.. لقد سقطت كل أقنعة الغرب في سوريا، وديست كل شعاراته تحت أقدام سياساته الغادرة الظالمة.. لقد فقدت مفردات (الحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الانسان وحقوق المرأة والطفل والنظام العالمي الجديد والمجتمع الدولي والأمم المتحدة ومجلس الامن و و…. الخ) معناها لدى الشعب السوري وكل مهتم بالقضية السورية، وتمرغت كل شعارات الغرب بوحل الواقع الدامي المرير الذي شارك الغرب بصناعته وعمل جاهدا على تمريره ومنع بكل إمكاناته حسم الصراع لصالح الشعب.. ما أزال أذكر على سبيل المثال تصريحا للسيد وليد جنبلاط عندما كانت أحياء حمص القديمة محاصرة لسنوات.. قال ما معناه.. أنه سعى شخصيا من خلال علاقاته الواسعة لدى العديد من مراكز القرار في الغرب من أجل تأمين بعض الأسلحة النوعية التي تساعد أهل حمص على حماية مناطقهم ومنع سقوطها بيد العصابة الاسدية وبضمانات شخصية منه حول كيفية استخدام هذه الأسلحة والجهة المخولة لذلك، لكنه فوجئ بتواطؤ غربي واضح من أجل اسقاط ثورة الشعب السوري ومنعه من نيل حريته وتحقيق الانتصار على يديه.. هذا مع أن كل خطاب الساسة هناك وشعاراتهم تؤيد الشعب السوري وتقف ضد العصابة الاسدية.. لقد أثبتت الثورة السورية أن شعارات الغرب ليست أكثر من قناع رخيص لوجه قبيح، وأداة للتغلغل في مجتمعاتنا والتحكم بعقول شبابنا والاستحواذ على عواطفهم.. لقد وقفت مبادئهم وشعاراتهم المعلنة – في الحرية والديمقراطية ورفض الاستبداد والاستئثار بالحكم – مع الشعب السوري، لكن مصالحهم الاستعمارية – في تقسيم المنطقة واحداث تغيير ديمغرافي ومنع نشوء حكومات منتخبة مستقلة تعمل لخدمة شعبها – تعارضت مع اسقاط الأسد ووصول قيادة منتخبة للحكم.. فداسوا شعاراتهم وخانوا مبادئهم في سبيل تحقيق مصالح دولهم واستمرار سيطرتهم على المنطقة والتحكم بمقدراتها.. يستخدم الغرب إنجازات سياسته الداخلية الملفتة لتمهيد الطريق أمام سياسته الخارجية الاستعمارية عبر غزو العقول وسبي القلوب وجذب الكفاءات والتغلغل في المجتمعات التي يسعى للسيطرة عليها.. ويستخدم سياسته الخارجية في خدمة سياسته الداخلية عبر تحقيق مزيد من الرفاهية والاستقرار والتقدم العلمي والتقني لمجتمعه من خلال الثروات التي ينهبها عبر ذراعه الاستعمارية الخارجية كثمن لحماية حكومات استبدادية يسيطر على قرارها ويمنع سقوطها بيد حكومات منتخبة طامحة بالاستقلال والتطور والتقدم.. ولعل هذا يفسر الكثير من الاحداث السياسية والانقلابات على الشرعية التي حدثت مؤخرا في المنطقة.. لا أحاول من خلال هذا الطرح أن أعفي مجتمعاتنا وثقافتنا وسياسيينا من مسؤولية التخلف والتفكك الذي تشهده منطقتنا، لكنني أحاول فقط أن أوضح أن الغرب يتحمل مسؤولية كبيرة عما يحصل عبر مراقبته الحثيثة لكل التفاصيل التي تحصل في المنطقة وتدخله الدائم لمنع تمكن أي قوة سياسية أو اجتماعية أو عسكريه مستقلة أو منتخبة من الإمساك بزمام الحكم أو التحكم بمصادر القرار لأن ذلك ينسف قواعد سياسته الخارجية القائمة على الفكر الاستعماري ومنع ظهور منافس حضاري له في المنطقة.. وبناء على ذلك لا أجد مبررًا لانضمام العديد من مثقفينا لجوقة المطبِّلين للغرب – عن وعي أو دون وعي – والجلد المستمر للذات خاصة أننا نمتلك فعلا من مقومات الحضارة وركائز الثقافة ودوافع التطور والرغبة في التغيير ما يكفي لترميم التصدعات التي أصابت جسد الامة عندما تتهيأ لها البيئة السياسية والاجتماعية المناسبة.. إن طول فترة الانحطاط التي تعيشها أمتنا لا يبرر حدوث الهزيمة النفسية لبعض المثقفين أمام الواقع الغربي المليء بالتناقضات والثغرات – رغم تطوره -.. والمعول عليهم بدل ذلك العمل على بناء نواة مشروع حضاري جديد بعيد المدى من وحي ثقافتنا ومبادئنا يلتف على السياسة الغربية الاستعمارية وأدواتها الحاكمة في المنطقة، ويستفيد من إنجازاتها في الحقوق والحريات والتقدم العلمي دون أن يكون أداة بيدها تابعا لها محكوما لسياساتها.. نعم لنقد الذات بهدف تطويرها وتصحيح أخطائها.. لا لجلد الذات بهدف تحطيمها والقضاء عليها.. نعم للإفادة والاشادة بتجارب الغرب الناجحة في بناء الذات والنهضة الداخلية.. لا للقبول بسياساتها الاستعمارية القائمة على تحطيم الآخر وإعاقة نهوضه.. نعم للاعتراف بالهزيمة في معركة وخسارة الجولة.. لا للقبول بالهزيمة النفسية وفقدان الهوية.
سري القدوة حزرت تقارير دولية من صعوبة الأوضاع التي يعيشها السكان في قطاع غزة وقالت عبر بيانات نشرت مؤخرا ان...
Read more