بن وايت ترجمة: علاء الدين أبو زينة
أثارت نتائج الانتخابات الإسرائيلية -وعلى وجه الخصوص، عودة بنيامين نتنياهو رئيسًا للوزراء بدعم من 14 مقعدًا حصلت عليها قائمة “الصهيونية الدينية”- تعبيرات كبيرة عن القلق بين الإسرائيليين الليبراليين والمحللين الغربيين.
ومع شعورهم بالخطر من احتمال منح المشرِّعَين من “الصهيونية الدينية”، بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير -الأخير كرئيس لحزب “عوتسما يهوديت”- مناصب وزارية في الحكومة المقبلة، رد البعض بتصريحات درامية تفيد بأن إسرائيل “التي كانوا يعرفونها” لم تعد موجودة.
ومع ذلك، سعى آخرون إلى التقليل من شأن فكرة أن الانتخابات في حد ذاتها تمثل تحولا زلزاليًا. وتؤكد هذه المقاربة ضيق الفجوة في التصويت الشعبي بين الكتلتين “المؤيدة لنتنياهو” و”المناهضة لنتنياهو”، فضلاً عن الأصوات “الضائعة” التي ذهبت إلى حزبين فشلا في الوصول إلى عتبة التمثيل البرلماني، “ميرتس” و”بلد”.
في الحقيقة، فهمت كلتا المقاربتين شيئًا بطريقة صحيحة وآخر بطريقة خاطئة. ببساطة، لا يشكل نجاح بن غفير، السياسي الذي يصف بفخر الحاخام المتطرف الراحل مئير كاهانا بأنه “معلمه”، تحولاً كارثيًا فحسب -إنه أسوأ من ذلك في الحقيقة.
ولعل المفتاح لكشف مغاليق هذا الواقع هو فهم مدى هيمنة القسم “المؤيد” أو “المناهض” لنتنياهو على السياسة الانتخابية الإسرائيلية على مدى الدورات القليلة الماضية -وهو خط صدع أصبح يعرِّف الكنيست بطريقة تبسيطية، باعتبار أنه يتكون من كتلتين، مما أدى إلى انهيار بعض الاختلافات والمبالغة في إبراز البعض الآخر.
يتفاقم عدم الوضوح بحقيقة أنه بالنسبة لبعض الصحفيين والنقاد، أصبح الانقسام “المؤيد لنتنياهو” و”المناهض لنتنياهو” مرادفا لـ”اليمين” و”اليسار” (أو العكس). وبذلك، يشكل هذا الخلط أساسًا للادعاءات المضللة حول ضيق الهامش المفترض لانتصار “اليمين” على “اليسار”.
على “تويتر”، سلطت نوا لانداو من صحيفة “هآرتس” الضوء على ما يقرب من 30 ألف صوت بين كتلة نتنياهو والكتلة المناهضة لنتنياهو. ووصف الدبلوماسي الإسرائيلي السابق، آرثر لينك، الذي شارك تغريدتها بموافقة على محتواها، نتيجة الانتخابات بأنها “تعادُل افتراضي”، مضيفا أنه “يمكن بالتأكيد هزيمة الكتلة الفاشية”.
واستشهد دبلوماسي سابق آخر، هو ألون بينكاس، بالأصوات التي خسرها “ميرتس” و”بلد” ليقول إن “يسار الوسط” قد هزم بالفعل “اليمين الديني” من حيث التصويت الشعبي. ومع ذلك، كان هذا “يسار وسط”، بما فيه القوميون اليمينيون مثل جدعون ساعر وأفيغدور ليبرمان.
حجبت هذه الفوضى التحليلية وضعًا أكثر أهمية بكثير من مصير نتنياهو -بالتحديد، الهيمنة الساحقة في الكنيست للأحزاب التي ترفض السيادة الفلسطينية في الأراضي المحتلة وتدعم تنويعات من الوضع الراهن القائم على الفصل العنصري.
لأغراض توضيحية، فكروا في الشكل الذي ستبدو عليه الحكومة الإسرائيلية من دون “الصهيونية الدينية”. في الواقع، حث البعض المعارضة الإسرائيلية على دعم إلغاء الإجراءات القانونية المتخذة في حق نتنياهو مقابل إبقاء بن غفير خارج الحكومة المقبلة. تخيلوا أنفاس الصعداء وتنهدات الارتياح لو حدث ذلك! كل شيء سيكون على ما يرام مرة أخرى. ولكن، هل يتصور أحد بجدية أن مثل هذه الحكومة ستفعل أي شيء آخر غير الاستمرار في إدامة الاحتلال العسكري وسياسات الفصل العنصري، وتعزيز المستوطنات وتوسيعها، وتهجير الفلسطينيين؟
أو لنفترض أن “ميرتس” و”بلد” قد استوفيا العتبة وتم تشكيل ائتلاف مناهض لنتنياهو. ماذا عندئذٍ؟ لا يحتاج المرء إلى التكهن بما قد تفعله كتلة “مناهضة لنتنياهو” في الحكومة، لأن واحدة تولت زمام السلطة فعليًا لمدة 18 شهرًا. وقامت هذه الحكومة الإسرائيلية، التي تضمنت أحزاب “يش عتيد” و”العمل” و”ميرتس” و”القائمة العربية الموحدة”، بتوسيع المستوطنات غير القانونية، وسعت إلى طرد الفلسطينيين في مسافر يطا، وجرمت منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية، وشنت هجومًا “وقائيًا” مدمرًا على قطاع غزة، وأشرفت على وقوع أعلى حصيلة من القتلى بين الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية.
لا يمكن التخفيف من تشدد مثل هذه القائمة من خلال توجيه اتهامات بـ”الانتقائية”. كل ما حدث في الواقع سجل رهيب بشكل لا يصدق لهذا التحالف قصير الأجل. كانت هذه الحكومة، لجميع النوايا والأغراض، حكومة يمينية عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين. وبدت وعودها بـ”تقليص الصراع” والتنازلات الاقتصادية أشبه بنسخة معادة الصياغة مما ضمنه حزب الليكود في برنامجه الانتخابي للعام 2009: لا دولة فلسطينية، وإنما مجرد تحسين الحياة اليومية للفلسطينيين. وبطبيعة الحال، ليست لدى كل حكومة إسرائيلية سياسات متطابقة تجاه الفلسطينيين. ولكن في نهاية المطاف، لا فرق سوى المفاضلة بين العديد من الطرق لتغليف الفصل العنصري بخطاب “الحكم الذاتي”.
ولا ينبغي أن يكون أي من هذا مفاجأة لكل شخص حاضر الانتباه.
على سبيل المثال، يدعم حزب “يش عتيد” الوسطي بزعامة يائير لابيد، ظاهريًا، “حل الدولتين”، لكنَّ معاييره تشمل “القدس الموحدة” عاصمة لإسرائيل، وضم “كتل استيطانية” مجهولة العدد والحجم، وحق الجيش الإسرائيلي في غزو “الدولة” الفلسطينية متى شاء، في حين أن برنامج حزب “العمل” المتراجع يشجع على “الانفصال” عن الفلسطينيين، ويلتزم فقط بتنفيذ “مستقبلي” لـ”حل الدولتين” (مرة أخرى، مع إشارة غامضة إلى الكتل الاستيطانية).
ليس ما يسمى بـ”الوسط” الإسرائيلي في حد ذاته أيديولوجية متماسكة أو موحدة. ثمة للأطراف المعنية سمات مشتركة وأخرى متمايزة على حد سواء. ولكن، عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، فإن “الوسط” الإسرائيلي يميني، وقومي، وملتزم بمجموعة متنوعة من المواقف التي تتعارض مع القانون الدولي.
الحقيقة القاسية هي أنه لن يكون هناك في الكنيست الجديد سوى 10 مشرعين -من أصل 120- تلتزم أحزابهم (الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، أو “حداش”، و”راعم”) بإنهاء الاحتلال العسكري وتحقيق السيادة الفلسطينية.
في الواقع، لا يوجد سبب لتوقع أن يتغير هذا في أي وقت قريب، لا سيما بالنظر إلى الاتجاهات السائدة في الرأي العام الإسرائيلي. ثمة أغلبية قوية، 62 في المائة من الإسرائيليين اليهود الذين يعرِّفون أنفسهم بأنهم “يمينيون”. وترتفع هذه النسبة إلى 70 في المائة بين الشريحة الأصغر سنًا من الناخبين، المتأثرين جزئيًا بالتطورات في أوساط الصهاينة المتدينين، وعندما يتعلق الأمر بالجيل الأصغر سنًا من الحريديم (الأرثوذكس المتشددين).
تظهر الدراسات الاستقصائية باستمرار أن الإسرائيليين اليهود يصنفون “القضية” الفلسطينية على أنها أقل أهمية بكثير من الاقتصاد وتكاليف المعيشة. وفي استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات، قال 31 في المائة فقط من الإسرائيليين اليهود إن الحكومة المقبلة يجب أن تحاول دعم فكرة “دولتين لشعبين”.
على مر السنين، تم إهمال الاعتراف بالتطورات الواضحة وطويلة الأجل والهيكلية في اتجاهات أصوات الناخبين الإسرائيليين اليهود أو التغاضي عنها أو فقدانها وراء ردود الفعل على الدورات الانتخابية. مرة تلو الأخرى، يصبح “المتطرف” بالأمس “معتدلاً نسبيًا” مقارنة بالمتطرف الجديد. من انتخاب آرييل شارون في العام 2001 (“ساعة إسرائيل المظلمة”)، وظهور أفيغدور ليبرمان في العام 2009 كصانع ملوك (“قوة سامة تصعد في إسرائيل”)، إلى فوز نتنياهو في العام 2019 (“الحياة على وشك أن تزداد سوءا بالنسبة للفلسطينيين”)، والآن طفرة بن غفير: تتكرر الدورة مرة أخرى. وما يمكن رؤيته بوضوح شديد في سياقات أخرى على حقيقته، يظل -بالنسبة للبعض- غير مرئي أو يتم إنكاره.
لقد ساعد نموذج مؤيد/ مناهض لنتنياهو -الذي يعمل بشكل روتيني كبديل فج لـ”اليمين” مقابل “اليسار”- على تأخير إجراء مراجعة للحساب وافتراق للطرق لمجموعة من الناخبين. على النقيض من ذلك، سوف يسرّع تشكيل حكومة إسرائيلية تضم بن غفير وسموتريتش من وتيرة مثل هذه العملية. ثمة الكثيرون الذين تُعتبر “إسرائيل ليبرالية” بالنسبة لهم فكرة عزيزة أو جزءًا مما يُرشد أو يبرر السياسة الدبلوماسية: من إطار “حل الدولتين” المحتضر، إلى معارضة الجهود الرامية إلى محاسبة إسرائيل والمسؤولين الإسرائيليين في المحافل الدولية. وسوف يواجه هؤلاء واقعًا يصعب تجاهله. ويمكن أن يصل التوتر بين إسرائيل المتخيلة وإسرائيل الفعلية إلى نقطة انهيار.
مما لا شك فيه أن البعض سيستجيب لهذه التطورات من خلال تأكيد الاستجابة القائمة منذ فترة طويلة للأصوات التي تدعو إلى أن تواجه إسرائيل المساءلة عن انتهاكاتها للقانون الدولي وحقوق الإنسان. وعلى وجه التحديد، سوف يزعمون أنه سيكون من شأن التدابير المستخدمة بشكل روتيني ضد منتهكين آخرين أن تؤدي، في حالة إسرائيل، إلى “تقوية المتشددين”.
إذا لم تكن قد فعلَت مُسبقًا، فإن الانتخابات الأخيرة توضح مدى الخطأ الذي ينطوي عليه هذا التصور؛ إنه في سياق الإفلات من العقاب، في حقيقة الأمر، حيث ازدهرت القومية المتطرفة والتطرف اليميني المتشدد. وفي حين أن الحملات الدولية القائمة على مبادرات المجتمع المدني، مثل “حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات” قد نمت عامًا بعد آخر، فقد دعمت الحكومات الغربية -أو حفزت عمليًا وبشكل فعال- التوسع الاستيطاني، أو هدم المنازل الفلسطينية، أو سن التشريعات العنصرية من خلال الإصرار على نهج “الجزرة واللا-عصا” في علاقاتها مع إسرائيل بدلاً من جعل الأخيرة تشعر بعواقب أفعالها.
ستكون إحدى النتائج المتوقعة لحكومة يقودها الليكود والصهيونية الدينية توسيعًا للنشاط الاستيطاني غير القانوني. ومع ذلك، تمت الموافقة على بناء آلاف الوحدات السكنية الاستيطانية في ظل ائتلاف “التغيير” الذي قاده لابيد وبينيت (بما في ذلك في كدوميم، المستوطنة التي يسكن فيها سموتريتش، في قلب الضفة الغربية).
ليست المسألة هنا ما إذا كانت الحكومة الجديدة ستكون “نفسه الحكومة المنتهية ولايتها”. من المرجح كثيرًا، بطبيعة الحال، أن يسعى بن غفير وسموتريتش إلى تحقيق أهداف مختلفة تتعلق بتسريع التوسع الاستيطاني، وهدم المنازل الفلسطينية، واستخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين العزل، وحتى ضم بعض أراضي الضفة الغربية رسميًا. لكن النقطة البارزة، بدلاً من ذلك، هي أن ثمة معارضة شبه توافقية لتقرير المصير الفلسطيني وقواعد القانون الدولي بين الأحزاب السياسية الإسرائيلية -وهو توافق في الآراء ينعكس في سياسة الحكومة بغض النظر عن تركيبة الائتلاف.
على سبيل المثال، كان قد بدأ المشروع الاستيطاني، وطوره ونمّاه كل حكومة إسرائيلية وكل رئيس وزراء إسرائيلي منذ العام 1967. وكانت المستوطنات وبنيتها التحتية دائمًا، أكثر من كونها مجرد “عقبة عملية” أمام “حل الدولتين”، إعلانًا عن النوايا وتعبيرًا عن نزعة الرفض المتأصلة.
ويشكل بن غفير، بطريقته الخاصة، تعبيرًا عن هذا الرفض نفسه لحق الفلسطينيين في تقرير المصير والسيادة. ولكن، كما تظهر نتائج الانتخابات المتكررة واستطلاعات الرأي والحقائق على الأرض بوضوح، سيكون من الخطأ الفادح أن نرى بن غفير أو الحكومة الإسرائيلية المقبلة على أنها تمثل انقطاعًا كبيرًا، أو ببساطة نتاجًا مؤسفًا لبضعة آلاف من الأصوات الضائعة.
*بن وايت Ben White: كاتب ومحلل ومدير تنفيذي للمركز الإعلامي البريطاني الفلسطيني. وهو مؤلف أربعة كتب، منها “الشقوق في الجدار: ما وراء الفصل العنصري في فلسطين / إسرائيل” Cracks in the Wall: Beyond Apartheid in Palestine/Israel ، (مطبعة بلوتو، 2018). معهد الشرق الأوسط (MEI) هو منظمة تعليمية مستقلة وغير حزبية وغير ربحية. وهي لا تنخرط في الدعوة وآراء مفكريها هي آراؤهم الخاصة.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Israeli election results are not a seismic shift – it’s worse than that
المصدر: الغد الأردنية/(معهد الشرق الأوسط)