عبد الوهاب بدرخان
باشرت إسرائيل ارتكاب المجزرة الكبرى في غزّة، بدعم وتأييد من الولايات المتحدة والدول الغربية، للردّ على عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة “حماس” واستوحتها من خطط “حرب أكتوبر 1973” في ذكراها السنوية الخمسين. استرجعت عواصم الغرب ردود الفعل التي اعتمدتها قبل خمسة عقود، وبكل تفاصيلها ومصطلحاتها وحتى بتهوّراتها السياسية والإعلامية وعدم تحسّبها للمستقبل. لذا يبدو اليوم أن القول هو ما تقول إسرائيل، وأن الغرب مصطفٌّ وراءها وهي تنفذ حرب إبادة وتطهير عرقي علنيين ضد الشعب الفلسطيني أولاً، بالقتل والترحيل القسري، وتتوعّد ثانياً بإبادة “حماس” وغيرها من الفصائل.
لم تعد كلمة “إبادة” تستوقف أحداً بعدما كانت احتُكرت طويلاً باعتبارها من مرادفات “الهولوكوست”. وإذ قال أحد أكثر وزراء إسرائيل تعصّباً إن ما يجري هو “حرب دينية”، لم يُسمع أي صوت في واشنطن أو لندن أو باريس يرفض هذه المقولة أو يستنكر وصف زميله وزير الدفاع مَن هم في غزّة بـ”الحيوانات البشرية”.
على العكس، استطاع بتسلئيل سموتريتش ويوآف غالانت أن يضعا هذه العبارات في أفواه ساسة غربيين، بينهم مثلاً السيناتور الأميركي ليندسي غراهام، كما استطاع بنيامين نتنياهو أن يمرّر أكاذيب وصوراً ملفقة إلى الرئيس جو بايدن كي ينتزع أقصى التضامن والأسلحة الفتّاكة، معتبراً ما جرى بمثابة “محرقة” ثانية لليهود وتفجيرات “11 سبتمبر” أخرى. صحيح أن هذا عصر الأخبار الكاذبة لكن الدول قادرة بوسائلها وأجهزتها على كشف حقيقة المزاعم عن قطع رؤوس الأطفال أو اغتصابات، وإذا تغاضت عن الكذب فلأنها ترفض التراجع عن انحيازها السياسي الأعمى لأهداف إسرائيل، ليس في دفاعها عن شعبها، بل في تشبثها باحتلال الأرض الفلسطينية. الأكيد أن مدنيين إسرائيليين قتلوا خلال هجوم مقاتلي “حماس”، وأن مدنيين فلسطينيين قتلوا ويُقتلون، لكن الغرب تعامل مع “طوفان الأقصى” وكأنه بداية التاريخ فلا قبله ولا بعده، أو كأن غزّة وشعبها لم يكونا محاصرين أو لم تعد هناك قضية فلسطينية. الغرب يمنح إسرائيل ترخيصاً للإبادة، لأنه تجاهل طويلاً الاحتلال ومعاناة الفلسطينيين من هذا الاحتلال، على رغم كل التحذيرات بأن وضعاً كهذا ذاهبٌ إلى انفجار حتمي.
انصبّ اللوم في إسرائيل وخارجها على الفشل الأمني والاستخباري في كشف السرّية التي اتّبعتها “حماس”، على رغم تلقّيها معلومات وتحذيرات تعاملت معها بخفّة، كما قبل خمسين عاماً. لكن لم يكن هناك أي لوم للفشل الأميركي والدولي في إلزام إسرائيل باحترام القوانين والأعراف الدولية وبتنفيذ الاتفاقات التي وقّعتها “باسم السلام” ثم نقضتها، بل لا لوم ولا مساءلة أو محاسبة أيضاً بل تحصين لإسرائيل ضد تقارير جدّية تتهمها بارتكابها جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية ضد الشعب الفلسطيني. والآن تجري التغطية على كل هذا الفشل التاريخي الفادح بالإعداد لاجتياح غزّة خارج كل القوانين والضوابط. هناك من يقول في واشنطن إن بايدن طالب نتنياهو باحترام اتفاقات جنيف وقواعد الحرب، ويردّ الإسرائيليون بأن “حماس هي داعش” ولم تُراعَ قواعد الحرب ضد “داعش” بل كان القضاء على هذا التنظيم هو الهدف. وأصبح واضحاً أن إسرائيل ستخوض اجتياحها لغزّة من دون اعتبار لـ”حماية الرهائن” أو لـ”السلامة التامة لجنودها” أو لكونها “دولة ديموقراطية” ويهمها أن لا تنتهك القوانين الدولية.
في هذا السياق، ذهب رئيس الدولة إسحق هرتسوغ، الذي كان يُصنّف من “العقلانيين” و”الحمائم”، إلى حدّ تبرير استهداف المدنيين في غزّة لأنهم “ضالعون مع حماس” و”لأنهم لم ينتفضوا” عليها، ولم يقل إن الغزيين يمكن أن ينتفضوا ضد الحصار والاحتلال. وقبله كان الناطقون العسكريون حمّلوا “حماس” مسؤولية ما يحصل للمدنيين الذين لا ينزحون من شمال غزّة، كما أن وزير الدفاع الأميركي أكّد أن “لا شروط ” على المساعدات العسكرية لإسرائيل، أي أنها حرّة التصرّف بالقتل والتدمير. يراد بهذه المواقف تبرير سياسة “العقاب الجماعي” التي جعلت الأطفال والنساء غالبية ضحايا القصف الهمجي الإسرائيلي، فإسرائيل لم تميّز يوماً بين بضع عشرات الآلاف المسلحين في “فصائل المقاومة” ومليونين وثلاثمئة ألف غزّي.
هذه الحملة المركّزة على المدنيين تحديداً هي التي زيّنت للعقل العسكري الإسرائيلي أن يقطع الماء والكهرباء والوقود والغذاء والدواء، وصولاً إلى فرض التهجير القسري على الغزيين واستهدافهم بالقصف وهم على دروب النزوح، وقد بلغ التوحّش أخيراً وليس آخراً إصدار أوامر بإخلاء المستشفيات… كثيرون حول العالم تذكّروا الممارسات النازية فيما هم يراقبون تشديد الحصار على غزّة، والرئيس الروسي شبّهه بحصار لينينغراد.
الكلام السياسي الوحيد الذي صدر عن نتنياهو أن الحرب المقبلة على غزّة ستسفر عن “تغيير الشرق الأوسط”، لكنه يقترب من العملية البرّية غير واثق بإمكان التحكّم بكل مجرياتها ومآلاتها. في المقابل، لم تصدر عن واشنطن أي إشارة إلى مبادرة سياسية، ولم يحمل الوزير بلينكن إلى العواصم العربية سوى مطالب متماهية مع النهج الإسرائيلي، ومن ذلك أن تُفتح “الممرات الآمنة” فقط لدفع شعب غزّة بالقوة إلى سيناء – من دون عودة – وإلقاء العبء على مصر، وهذه خطّة قديمة رفضت القاهرة مجرد البحث فيها. ولا يعني “تغيير” المنطقة، بمفهوم نتنياهو، سوى أن إسرائيل تخطّط لاجتثاث “حماس” وسواها من “فصائل المقاومة” وتتوقّع أن يسفر ذلك عن إنهاء القضية الفلسطينية، لكن من دون إنهاء الاحتلال بل بإعادة احتلال قطاع غزّة وبإنزال “نكبة ثانية” بالشعب الفلسطيني ومن دون الاعتراف بوجوده أو بحقوقه.
الأهم أن “التغيير”، بمفهوم نتنياهو، يعني أيضاً أن الغطرسة الإسرائيلية باتت تعتقد أن العرب لم يعودوا موجودين إلا لـ”التطبيع” معها، وأنهم اختاروها لقيادة منطقتهم و”لحمايتهم”، وبالتالي فإنهم لم يعودوا معنيين بقضيتهم “المركزية” بل يتعايشون مع الظلم الذي تمارسه ضد الفلسطينيين، وليس في استطاعتهم أن يُدخلوا شاحنة إغاثة واحدة إلى غزّة. أكثر من ذلك، عليهم أن يساعدوا أميركا وإسرائيل في “لجم” إيران لئلا تتدخّل بتوسيع نطاق الحرب إلى جبهات أخرى في لبنان وسوريا، فيما تطالب إيران أميركا، عبر الأمم المتحدة، بـ”لجم” الاندفاعة الإسرائيلية وإلا فإنها ستتدخّل بواسطة ميليشياتها. وهكذا تبدو الأزمة الحالية حمّالة فرص لأميركا وإسرائيل وإيران كي تتشارك في تغيير المنطقة، ليس فقط على حساب شعب فلسطيني منقسم على نفسه، بل على حساب العرب الذين تخلّوا عن خيار الحرب وتركوا القضية الفلسطينية لمشيئة أطراف أخرى لم تأخذ بخيارهم السلمي.
المصدر: النهار العربي