محمد مشارقة
اثناء حرب الإبادة على غزة نشر 44 اكاديميا او ممن يسمون بفلاسفة اخلاقيات الحرب، في جامعة اكسفورد البريطانية، رسالة مفتوحة، تدعو الى الوقف الفوري للحرب التي وصفت بانها ” مدمرة أخلاقيا ” لإسرائيل، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية بحرية الى جانب اطلاق سراح المخطوفين.
ولتلافي اتهامهم ب “اللاسامية ” و”كراهية اليهود “، افتتح الموقعون على الرسالة وعلى راسهم جيف ماك ماهون وهو من اهم المفكرين الغربيين في مجال اخلاقيات الحروب ، بانهم ” يدينون العمل الإرهابي المروع الذي قامت به حماس ” في مستعمرات غلاف غزة ، وشرعنوا جريمة القتل الجماعية وتهجير اكثر من نصف السكان ، طرحوا ” انه بحسب القانون الدولي ، يحق لإسرائيل اتخاذ إجراءات ضد حركة حماس ” لكن الكارثة التي حلت على رؤوس الموقعين واشعلت ردود الفعل التي تتهمهم بالجهل واللاسامية لا بل التشكيك في سويتهم الأخلاقية والعلمية ، بعد ان ارفقوا بيانهم الذي يبرر الحرب بحجة تصفية حركة حماس بعبارة ” لكن هذا لا يبرر الضرر واسع النطاق الذي لحق بالسكان المدنيين “
اشعلت رسالة فلاسفة جامعة اوكسفورد ردود فعل قاسية من المجتمع الاكاديمي الإسرائيلي وخاصة أساتذة فلسفة الاخلاق، بصورة تكشف عن حجم التخادم بين المؤسسة الاكاديمية والمؤسسة الأمنية التي غلفت حرب ابادتها في غزة بغطاء عنصري لم يتردد في القول ان أطفال غزة هم ارهابيون محتملون عندما يكبرون ، وان الحرب تبرر القتل الواسع للمدنيين كعارض جانبي والتبرير للمجزرة المفتوحة والقتل الواسع للمدنيين ان “حماس تتخذ من السكان دروعا بشريا “.وان أهداف حماس المعلنة تجاه إسرائيل تبرر كل العمليات الوحشية التي يقوم بها الجيش في غزة ، وبالنسبة للنخبة الاكاديمية فان ما يجري “ليس انتقاما ، بل تطبيقا لهدف أخلاقي اسمى وهو كسر وردع القوة العسكرية لحركة حماس “.
ويسال الاكاديميون الإسرائيليون، وعلى راسهم، إسحاق بينافجاي، ومايكل جروس، ” كيف يمكن الرد ان يكون مناسبا من الناحية الأخلاقية عندما يختبئ ارهابيو حماس بين السكان المدنيين، بل ويحرمونهم من المساعدات الإنسانية المرسلة اليهم ” في تطابق واضح مع تصريحات الناطق باسم الجيش .
ما يلفت الانتباه في الجدل الأكاديمي الإسرائيلي مع علماء أكسفورد هو الإشارة الى ما يسمى ب “مدونة الاخلاق في الجيش الإسرائيلي وطهارة السلاح ” والتي يبدو انها مخصصة للتصدير التضليلي للمجتمع الدولي حين تنص ان ” على الجندي الإسرائيلي ان يبذل كل ما في وسعه لمنع الحاق الأذى بالمدنيين ” متناسين انه وبالبث الحي والمباشر جرى قصف كل المستشفيات في غزة وقطع الماء والكهرباء والدواء عنها، وان الأمهات ودعن اطفالهن الخدج في العلب الزجاجية بعد قطع الاكسجين والتنفس عنها.
يتفاخر البروفيسور نوعام زوهر من قسم الفلسفة في جامعة حيفا ان جيش بلاده يراعي هذه القواعد الأخلاقية بشأن المدنيين أكثر من أي جيش في العالم مقارنة مع الولايات المتحدة وبريطانيا في حربهما في العراق وأفغانستان. يضع زوهر المعضلة الأخلاقية لقتل الأطفال والنساء مقابل المخاطر المحدقة بالجنود اثناء العملية البرية، فيرجح الحفاظ على حياتهم هو الأولوية وان قتل المدنيين مبرر أخلاقيا، ولا يجد عبارة سوى القول ” انه امر اشكالي حقا ”
الترحيل الجماعي، أخلاقيا:
بعد عملية السابع من أكتوبر، وبلا رؤية واضحة للأهداف النهائية للحرب على غزة والتي استعيض عنها بأهداف متحركة ومتبدلة، باشر الجيش الإسرائيلي عمليته العسكرية بهدف معلن للترحيل الجماعي لسكان قطاع غزة بداية من الشمال الى الجنوب ودخل في مفاوضات إقليمية ودولية للترحيل الى سيناء لاجتثاث ” إرهاب حماس نهائيا وجذريا “، واعتبر فلاسفة اخلاق الحرب ان ذلك فعل أخلاقي وان هدفه ” تقليل الاضرار بالمدنيين”. وعندما جاهر وزراء متطرفون يمينيون وعنصريون بان هدف العملية هو تحويل كل قطاع غزة الى حديقة عامة لرفاهية السكان اليهود في غلاف غزة، تدخل فلاسفة الاخلاق في الجامعات ليضعوا اطارا أخلاقيا ونظريا يسهل تسويقه على المجتمع الدولي، فاقترحوا إضافة “الترحيل المؤقت للسكان” نحو سيناء، لان الترحيل الجماعي الدائم والنهائي برأيهم جريمة حرب وتتراجع هذه التهمة عندما يكون مؤقتا وهو اهون الشرور امام العالم.
التماثل والتناسب في استخدام القوة:
في النقاش الدائر حول اخلاقيات الحرب على غزة، طرح سؤال حول مسالة الضرر الذي يلحق بالمدنيين مقارنة بالهدف العسكري الاستراتيجي وهو تدمير حركة حماس وقوتها العسكرية، دون تقديم المؤسسة العسكرية او السياسية أي تصور عن اليوم التالي للحرب. يحشد أساتذة الفلسفة القراءات والتنظير حول ” الحروب العادلة وغير العادلة ” ، ليدوسوا بأقدامهم فكرة التناسب او التماثل في استخدام القوة المفرطة بغرض القتل ، ويقترحون لتجنيب إسرائيل الإدانة الدولية ” ان تستند احكامنا الأخلاقية بشكل مختلف في تحديد المسؤولية ، وهي ” ان حماس تتعمد تعريض مواطنيها للخطر وتستفيد من القتلى المدنيين وبالتالي فهي التي تتحمل مسؤولية المجازر التي تجري ، وبالتالي فان مسؤولية الجيش تنحصر في ان عليه ان يجمع المعلومات الاستخبارية الدقيقة اثناء القتل والتدمير وان يكون اكثر دقة وحذرا في تحديد الأهداف ، باعتبار ذلك اكثر أهمية من الحجج حول ما هو متناسب وغير مكافئ اثناء العملية العسكرية ” .
يقول البروفيسور مايكل زوهر من جامعة حيفا ” ان القانون الإنساني لم يأت لمنع الحروب او التحقيق في المسؤوليات ومن هو على حق ومن هو على باطل، ولكنه يحدد إجراءات معينة تسمح بشن الحرب مع ادراك ان المدنيين سيقتلون، “اذ لا يمكن حرب دون حدود كوارث إنسانية “.
لعل اخطر مساهمات فلاسفة اخلاق الحرب الاسرائيليون، ما يتعلق بالمختطفين، وبرايهم ان هناك خياران متعارضان ولا بد من التعايش معهما، وهما المفاضلة بين امن الدولة وامن مواطنيها، ويصلون الى خلاصة كارثية تقول ” ان مثل هذا الموقف لا يمكن للأخلاق ان تعطي إجابة شافية عليه “. ربما يفسر هذا التبرير الأخلاقي بعض المعلومات التي رددها الاعلام الإسرائيلي، وهي قرار قصف المنتجع الترفيهي القريب من غزة عندما اندفع المدنيون الفلسطينيون بعد اختراق الجدار العازل، ولم يسال احد حتى اللحظة عن المسؤولية الأخلاقية عن قتل المدنيين اليهود من طيارين يهود , او ما يتردد عن عقيدة ” هانيبال “في الجيش تقول بان اليهود الميث جنديا او مدنيا هو افضل من الأسير .
الخلاصة:
– ان الغالبية العظمى من نقاشات المجتمع الأكاديمي والثقافي الإسرائيلي، اصطفت الى جانب الجيش في تبرير القتل واسع النطاق للمدنيين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والقدس والمناطق المحتلة عام 1948، باعتبارها حربا وجودية، وقلة محدودة جدا التي حاولت إعادة عملية السابع من أكتوبر الى جذرها الأصلي وهو الاحتلال والتهجير والإهانة والقمع والحصار والقتل المستمر لسكان البلاد الأصليين.
– لم نكن بحاجة الى حرب الإبادة في غزة لإثبات ان المجتمع الأكاديمي الإسرائيلي في غالبيته، هو جزء أساسي من تركيبة المجتمع الاستعماري وفكرته المؤسسة والمندمجة في مشروع استيطاني احلالي، لا يرى الفلسطيني الا ميتا او خارج الجغرافيا والتاريخ.
– بعد هذه الحرب اللاأخلاقية، والتي يساهم المجتمع الاكاديمي الإسرائيلي في تسويغها وتبرير جرائمها ، غير تطوير فكرة المقاطعة الاكاديمية ليس فقط لكل المشتغلين في مستعمرات الضفة الغربية والقدس بل وكل الذين يبررون القتل والتدمير للشعب الفلسطيني ويؤيدون استمرار الاحتلال والاستيطان والابادة العرقية .
– من الواضح ان فلاسفة الاخلاق في إسرائيل يتناسون مبدا أساسيا وهو ” إن قيمة حياة كل إنسان، بغض النظر عن خلفيته الدينية أو القومية متساوية، وتعلو على أية قيمة أخرى”
– في الردود على علماء اكسفورد ، حديث عن غربتهم وبرجهم العاجي الذي لا يعرف حقيقة الأوضاع على الأرض ، وان خلفيتهم مسيحية كالفينية (انجليكانية)غربية ، وان لإسرائيل خصوصية دينية وثقافية مختلفة ، ورغم كل الحديث عن دولة القانون الأساس للدولة والذي يعد بمثابة دستور ، الا ان ممارسة الجيش على الأرض والتحول الذي جري في السنوات الطويلة من عمر الاحتلال للأرض الفلسطينية باتت المعايير التوراتية وفقا لتفسير الصهيونية المتطرفة ناظما لاخلاقيات الجيش وفي قراءة لمفرداتها المعلنة ، ما يشير الى ان قتل ” الغويم “الاخر طفلا او امراة او شيخا ، مبرر أخلاقيا ودينيا .
* مدير مركز تقدم للسياسات