جورج كعدي
ثمة في الانكسارات والخسارات، بعد الحروب، ما يمكن تعويضه أو ترميمه أو حتى “رَتقْه”. ولكن ثمّة، في المقابل، ما لا يعالج بذلك كله. ومهما كابر العدوّ الصهيونيّ وتجبّر وشمخ برأسه فإنّ ما انكسر عنده وتحطّم، بعد فعله الإباديّ فائق الوحشية والإجرام في غزّة، هو غير قابل البتّة للإصلاح والترميم. في مقدمة قائمة انكسارات هذا الكيان: السمعة. لا مجال بعد اليوم، وإلى الأبد، لاسترداد سمعة “إسرائيل الديمقراطية ” أو “إسرائيل المتمدّنة في محيط متخلّف” أو “إسرائيل المتقدّمة سياسياً في محيط من النظم الشمولية والديكتاتورية”، إلى آخر الصفات المضلِّلة التي أسبغها عليها خالقوها ورعاتها وحماتها الغربيون، أو التي روّجتها هي عن نفسها كذباً وادعاءً. انكشف الكيان، وتعرّى أمام العالم أجمع، حتى أمام المجتمع الغربيّ الذي لطالما صدّق وآمن بأن “إسرائيل” هذه، “الحمل الوديع”، هي التي تتعرّض منذ نشأتها للعدوان والإرهاب من التنظيمات الفلسطينية (عجباً، ما شأن هذه الأخيرة بأرض فلسطين؟!) وفصائل المقاومة على أنواعها، انطلاقاً من أراضي دول الطوق المحيطة بفلسطين. وظلّت الكذبة سارية ثلاثة أرباع القرن لعب الصهاينة خلالها ببراعةٍ دور الضحية، فيما كانوا يرتكبون المجازر، واحدة تلو الأخرى، تحت ذريعة “محاربة الإرهابيين”، و”الإرهابيون” هؤلاء هم للمناسبة أصحاب الأرض السليبة وسكّانها الأصليون الذين يناضلون لاستردادها. حتى جاء “طوفان الأقصى” ليُسقط القناع عن وجه المحتلّ الإحلاليّ القاتل، فتبان الحقيقة للعالم أجمع، وتنزل مئات الملايين في شوارع المدن الأميركية والأوروبية والعربية، استنكاراً للوحشية الإباديّة التي تمارس في غزّة، وسط ذهول أصحاب الرأي العام في كل مكان، فرفعت الشعارات والصور المندّدة، وفوجئ الكيان الإسرائيلي نفسه بردّ الفعل عالمياً، وأدرك أن ثمّة شيئاً تغيّر في وعي الناس، وأنّ أقنعة “الضحية” و”التمدّن” و”الديمقراطية” لم تبقَ مجدية ولا تحجب الوجه الحقيقي لآخر دولة استعماريّة على وجه الأرض، وآخر دولة تمييز عنصريّ، وآخر كيان إباديّ في العصر الحديث. تحطّمت الصورة الزائفة لدى عامة البشر، ولدى كثر في طبقة المفكّرين والمثقفين، باستثناء قلّة منحرفة ظلّت تناصر القاتل ضدّ الضحية!
لن تحظى “إسرائيل” بعفو أو نسيان أو مسامحة، ولن يُعيد امرؤ على وجه الأرض النظر في حكمه على كيان مجرم يقصف الأطفال ويجوّعهم
فلنتأمّل بتبصّر موضوعيّ : كيف تستطيع “إسرائيل” هذه أن ترمّم سمعتها الموسومة بعد اليوم، وإلى الأبد، بالإجرام الإباديّ الوحشيّ الذي خلّف عشرات ألوف الضحايا ودماراً لم يُرَ له مثيل منذ مأساتي هيروشيما وناغازاكي؟ كيف يمكن منطقياً وعملياً ترميم سمعة لُطّخت بهذه الدماء والآلام الغزيرة، واقترنت بصور الضحايا من الأطفال والأمهات والآباء والمصابين الذين فقدوا أطرافاً من أجسادهم الطريّة؟ ثمة استحالة في ذلك. لن تعود الصورة الزائفة السابقة، ولن يُخدع الرأي العام العالمي ثانيةً، ولن تحظى “إسرائيل” بعفو أو نسيان أو مسامحة، ولن يُعيد امرؤ على وجه الأرض النظر في حكمه على كيان مجرم يقصف الأطفال ويجوّعهم ويدعهم يموتون برداً أو غرقاً في مياه الأمطار. حتى بعض يهود أميركا وأوروبا تظاهروا بالآلاف وحملوا شعار “ليس باسمنا” من فرط خجلهم بكيان يزعم أنّه نشأ وطناً ليهود العالم، وإذ به يشهد هجرة معاكسة تفرغه عوض أن ترفده بمزيد من المهاجرين إليه. سقط القناع، انكشف وجه المجرم، تلطّخت السمعة إلى الأبد، وهذا أعظم الانكسارات.
ثاني الانكسارات البيّنة، انكسار مهابة الكيان وهيبة جيشه. كان هذا الكيان المجرم منذ قيامه المشؤوم مستهاباً، “بعبعاً” يخيف دول المحيط، إذ سُلّح حتى أسنانه بأفتك سلاح أميركيّ وأوروبيّ، وجنّد كلّ شبابه ومستوطنيه حتى أمسى كياناً لجيشٍ لا جيشاً لكيان، وظنَ أنّه بالعديد والعتاد المميّزين يكتسب مهابةً لا يجرؤ أحدٌ على مسّها، وأنّه مجتمعٌ محصّن، سوّر بجدران الفصل العنصريّ التي لا يستطيع أحد اختراقها، متباهياً بأنّه مجتمع آمن، لليهود بخاصة، فإذ به يُخترق مراراً بالأعمال الفدائية، ويهتزّ أمنه وأمانه، وصولاً إلى عملية “طوفان الأقصى” التحرّرية البطولية المجيدة (تبقى كذلك رغم الثمن الباهظ) فتسقط مهابة هذا الكيان بضربةٍ واحدة قاضية، وتُقصف مدنه ومستوطناته من قلب القطاع ثم من لبنان والعراق واليمن، ويتدافع سكانه مراراً إلى الملاجئ، وتُهجّر وتدمّر مستوطناته الشمالية، ويُضرب اقتصادُه، وتتهاوى شبكة أمانه الاجتماعي. وإذا كان اقتصاده قابلاً للترميم بعد الحرب، فإنّ مهابته و”بعبعيّته” سقطتا بلا عودة، ولن يستردّ قدرته على التخويف والترهيب بعد اليوم.
سقطت هيبة الجيش، تحديداً في الميدان البرّي، في غزّة أولاً ثم في لبنان، وقُتل مئاتٌ من جنوده وضباطه على الجبهتين
في القوة العسكرية والجيش، تصحّ مقاربة سقوط المهابة نفسها، فقد سقطت هيبة الجيش، تحديداً في الميدان البرّي، في غزّة أولاً ثم في لبنان، وقُتل مئاتٌ من جنوده وضباطه على الجبهتين، ودُمّرت مئات الآليات الثقيلة له، وقُصفت مدنه ومستوطناته وفشلت غالباً نظمه الدفاعية. لم ينجُ من السقوط إلّا طيرانه الحربيّ المجرم، الأميركي الصنع، الذي يقوده سايكوباتيون مرضى منعدمو الشعور والضمير الإنسانيين، من طينة الوحوش والبهائم. فإلّا بسلاح الجبن، الطيران الحربيّ المحلّق، الذي يقتل ولا يقاتل، يدمّر ولا يُطال، لم ينجح المدعو “جيش إسرائيل” في شيء، لا في القتال الشجاع، ولا في المواجهة وجهاً لوجه، ولا في العرف الأخلاقيّ للقتال. هذا الجيش أيضاً، مثل “الدولة”، سقطت هيبته ويسع أي مقاومة من اليوم فصاعداً أن تواجهه وتتجرأ عليه وتصدّه وتطمئن إلى أنه جيش جبان، يقتل ولا يقاتل، يدمّر ولا يحقق انتصارات، يُقلق مجتمعه ولا يطمئنه.
انكسارٌ آخر وليس أخيراً، بروز تصدّع قويّ جداً في تكوين هذا الكيان المصطنع الهجين من قوى ليبرالية علمانية غير آبهة بالدين إلّا ذريعة للتعصّب لـ”العرق” والانتماء الثقافي والاستمتاع بـ”الاختيار الإلهيّ”، وقوى دينية متطرّفة، هلوسيّة، مجنونة، وأخرى دينية منصبّة أبداً على دراسة الكتب اليهودية وحلّ ألغازها ورموزها، وفي مقدّمتها تلك التلمودية. والمقصود هنا جماعات الحريديم التي ترفض التجنيد الإجباريّ والالتحاق بالجيش، ما يكشف هشاشة هذا المجتمع المركّب من متناقضات، دينية وفاشية متطرّفة وعلمانية، لم تتحد حول الهوية ومحدّداتها النهائية، وحول الفهم المشترك للدولة (الحريديم حائرون مثلاً بين النص الديني الذي لا يجيز تعجيل ولادة الدولة اليهودية قبل مجيء المسيح، وقبولهم الدولة القائمة كأمر واقع يتمّ التعامل معه وفق اجتهادات الحاخامين، بين انصياع وتمرّد واستفادة من المال العام لامتيازات مجتمع خاص منغلق على نفسه). تصدّعات اجتماعية غير قابلة للرأب والترميم، ساهم “طوفان الأقصى” في تعويمها إلى سطح المشهد داخل الكيان الغارق في تناقضاته وفوضاه وانهياراته وتصدّعاته وانكساراته الكثيرة، وما سبق ذكره بعضٌ قليلٌ منها.
المصدر: العربي الجديد