وقعت الوثيقة الفكرية والسياسية التي وضعها مثقفون وسياسيون سوريون (ميشيل كيلو، حازم نهار، عبدالباسط سيدا، خضر زكريا، زكي اللبابيدي، عبد الله تركماني، محمود حمزة، أحمد برقاوي، يوسف سلامة، ماجد كيالي) تحت عنوان “رؤية إلى واقع ومستقبل سورية” بمطبين كبيرين، تعلق الأول بعدم منطقية، وغائية، تقويمها الثورة السورية ومآلاتها، وتعلق الثاني بغياب اتساق محتوى الرؤية مع هدف واضعيها الذي برز في عرضهم، والمتمثل في بناء قيادة وطنية، تستطيع استعادة ثورة الحرية.
في سياق القراءة النقدية لمسار الثورة ربط واضعو الرؤية (البند الرابع) بين “طول أمد الثورة، واستعصاء أحوالها، وتهتّك قواها” و”تفجر التناقضات والانشقاقات والخلافات في صفوفها، وتعذّر توليد مركز قيادي أو مرجعية مؤسّسية لها، في السياسة والعسكرة، لقيادة الشعب وصوغ إجماعاته الوطنية”. ربط غير معقول، ذلك أن “تفجر التناقضات والانشقاقات والخلافات وتعذر توليد مركز قيادي” لم ينجم عن طول أمد الثورة، بل عن العجز الذاتي الذي عانت منه المعارضة السياسية والعسكرية؛ والتي لم تنجح في تشكيل مركز قيادي موحد، بالأحرى لم تحاول تشكيله، وقد ارتبطت المحاولات التي جرت بدفع من قوى خارجية، على خلفية سعي هذه القوى إلى السيطرة والهيمنة، لإبعاد قوى خارجية منافسة.
وأضافوا “تلاعب بعض الدول بالثورة، إن بتوظيفها وفقًا لأجنداتها السياسية، أو بدفعها لانتهاج أشكال من الصراع أعلى من قدراتها، كما في محاولاتها صوغ كياناتها وخطاباتها السياسية،
“كان الأوْلى بواضعي الرؤية التفكير في مخارج من حالة التشتت الفكري والسياسي والتنظيمي” بما يمكّنها من السيطرة عليها، أو التحكّم في تأثيراتها” (البند الخامس) من دون أن يدققوا في السبب الذي جعل عملية التلاعب ممكنة وسهلة: وجود استعداد لدى المعارضة السياسية والعسكرية للاستتباع، والسير خلف الدول الداعمة، حالة تشبه التي تحدث عنها مالك بن نبي، وسمّاها “قابلية الاستعمار”. كانت الأرض ممهدة للدول المتلاعبة، بوجود شخصيات وقوى معارضة مستعدة لبيع قضيتها وثورتها للدول الداعمة، في مقابل مكاسب شخصية مباشرة، أو وعود بتمكينها من لعب دور سياسي في الثورة؛ وفي سورية بعد انتصار الثورة.
وتحدثوا عما سموه “استغلال تيار الإسلام السياسي في صوره المتطرّفة لظروف وتعقيدات مسار الثورة، ما أدى إلى أخذ الثورة بعيدًا من الأهداف التي رسمتها لنفسها، وغرق قطاع كبير من الديمقراطيين السوريين في رهانات خاطئة على قوى العسكرة والتطرف الإسلامي” (البند السادس)، في تجاهلٍ تام لحقائق المشهد السياسي، وما يعرفه من تعدّد فكري وسياسي، وما يفرضه من انفجار صراع متعدّد القوى والأهداف والأساليب، فما يسميه واضعو الرؤية “استغلال” تيار الإسلام السياسي هو “نجاح” تيار الإسلام السياسي في فرض أجندته، والسيطرة على مراحل في الصراع، لأسباب عديدة، منها ضعف التيار الديمقراطي وفشله في قراءة معادلة الصراع، وفي أسلوبه في إدارة الصراع، فليس من المنطق في شيء إلقاء اللوم على قوى سياسية، خدمت مشروعها الخاص، وتحميلها مسؤولية فشل مشاريع خصومها العقائديين أو السياسيين.
في سياق “تبيّن الديناميات التي أدت إلى هذا الوضع”، اعتبر واضعو الرؤية “احتلال الصراع العسكري مشهد الثورة، وانحسار أشكال النضال السلمية والشعبية، ما أظهر الصراع وكأنه بين النظام وفصائل مسلحة، ما سهّل للنظام استخدام القوة المفرطة والأسلحة الثقيلة، واستدعاء أشكال مختلفة من التدخل الخارجي، بعد أن أطلق حله العسكري الأمني في بداية الثورة”. مع الإقرار بصحة الملاحظة من حيث المبدأ؛ إلا أنها لم تكشف الازدواجية التي برزت في مسألة العسكرة، حيث ساد ارتياح للعسكرة، وغض النظر عن تبعاتها والأخطار التي ستتسبب بها، في ضوء النجاحات الأولى التي حققها الجيش السوري الحر. قلة هي الأصوات التي انتقدت العسكرة وهي صاعدة في بدايتها، والبدء بحملة نقدها وتحميلها مسؤولية الفشل بعد بدء تراجعها وتآكل إنجازاتها. موقف عكسه بصورة ضمنية قول واضعي الرؤية: “وما فاقم من مخاطر كل ذلك إحلال فصائل عسكرية تتغطى بـ “الإسلام”، مدعومة من الخارج، محل “الجيش الحرّ”، ثمّة مباركة ضمنية للجيش السوري الحر والعسكرة بالتالي، فالمشكلة في الإحلال، لا في العسكرة، لكنه، في الوقت نفسه، يقفز على الواقع بإنكار تركيبة قوى الصراع بقوله “تتغطّى بـالإسلام”، فرفضنا الفصائل الإسلامية بسبب طبيعتها وأهدافها لا يمنحنا حق اتهامها أو التشكيك في انتمائها الخاص. لم يكن ما تم إحلالا، بل صراع مشاريع، خلفها قوى لها مصالحها التي تعمل على تحقيقها وتكريسها، والمحصلة فشل التيار الديمقراطي في تسويق مشروعه وخدمته فكريا وسياسيا.
يذهب واضعو الرؤية في قولهم: “إخراج الشعب، أو أغلبيته، من معادلات الصراع، ولعل هذا هو التطور الأكثر خطورةً الذي شهدته الثورة السورية” بعيدا، ذلك لأن الشعب، أو أغلبيته، لم ينخرط/ تنخرط في الثورة، حتى نتحدث عن إخراجه، من جهة، ولأن قوى الثورة لم تلتفت إلى هذا الجانب من معادلة الصراع، بالعمل على استقطاب قطاعاتٍ من الشعب، من جهة ثانية، فالعلاقة بين الشعب والمعارضة، قبل الثورة، كانت مقطوعة أو ضعيفة، كانت الحاجة ماسّة لإقناع الشعب بالثورة وأهدافها، كي ينخرط في فعالياتها، أو أقله يباركها.
تحدث واضعو الرؤية عن “الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية، والانتهاء من نظام الاستبداد” باعتبارها “مقاصد الثورة”، ورأوا في “التركيز على جانب واحد هو إسقاط النظام، وإحلال نظام آخر، مع كل ما ترتب على ذلك من بلبلةٍ وخيارات متناقضة، أضرّت بإجماعات السوريين وثقتهم بشعبهم وثورتهم، حتى لم يعد يُعرف ما إذا كانت الثورة سياسية وديموقراطية أو طائفية ودينية”، من دون التفات للتباينات والتعارضات والتناقضات في العقائد والأهداف والوسائل التي عرفتها ساحة الصراع. واقع الحال أن قوى الثورة لم تكن متفقة على محتوى الحرية والكرامة، العنوانان الأبرز للثورة، وأن المواطنة والديمقراطية ليستا جزءا من وعي معظم الثوار، ولم تكونا، بالتالي، من أهدافهم. وهذه نقطة مركزية في فشل الثورة؛ فكل قوة من قوى الثورة أسقطت عليها عقائدها وأهدافها؛ وهذا قاد إلى هدر إمكاناتها، وتشتت حواضنها وتذرّرها وفقدانها سمتها على خلفية افتقارها الفكرة الحافزة الموحدة.
في تقدير واضعي الرؤية للعوامل السلبية التي أثرت على مسيرة الثورة، قالوا: “سيطرة اعتقادين واهمين، أولهما اعتقاد القوى المهيمنة في المعارضة بإمكان حصول تدخل خارجي من أي مستوىً لمصلحة الثورة وإسقاط النظام”. وثانيهما “الاعتقاد بحتمية انتصار الثورة دفعة واحدة”. تقدير صحيح من حيث المبدأ؛ لكنه لم يلحظ دور المناخ الذي ساد في المنطقة، خصوصا في ضوء تطورات الأوضاع في ليبيا، والذي أشار إلى وجود موقف دولي مؤيد للتغيير، من جهة. ومن جهة ثانية، انتشار عقلية القياس والكسل الفكري والسياسي الذي حكم المعارضة السورية ومثقفيها الذين لم يدركوا الفرق بين ليبيا وسورية، وانعكاس النتائج السلبية للتدخل الدولي في ليبيا على الوضع السوري؛ بل راحوا يقلدون ما حصل في ليبيا خطوة بخطوة: مجلس وطني، علم الثورة، تحرير المدن والبلدات والقرى.. إلخ.
في القسم “سورية التي نريد” من الرؤية بنود ومضامين غاية في الأهمية، لكنها جاءت مرسلة من دون تفسير أو تبرير، ومن دون تصور إجرائي، أو آلية عمل، إذ تحتاج كل خطة لكي تنجح في الوصول إلى أهدافها إلى توفر سمتين، شرطين، العقلانية والعملية، فليس مقبولا طرح خطة خيالية، لا يمكن البرهنة عليها والدفاع عنها، وحيث لا تفيد خطة، مهما كانت درجة منطقيتها وعقلانيتها، من دون وجود خطة تنفيذية مناسبة.
في قسم “المرتكزات القانونية والتقنية للمرحلة الانتقالية”، لا يكتفي واضعو الرؤية بكسر
“ليس مقبولا طرح خطة خيالية، لا يمكن البرهنة عليها والدفاع عنها” الاتساق المنطقي لوثيقتهم، بالدخول في بحث شروط الحل السياسي، بل وانزلقوا نحو تقديراتٍ سياسيةٍ غير منطقية؛ وتبنوا خياراتٍ غير واقعية؛ في ميل واضح نحو الشعبوية، فالحديث عن حل سياسي قائم على إطاحة قيادة النظام وإقامة شراكة سياسية معه/ مع بقيته، في إطار مرحلة انتقالية، والعودة إلى الحديث عن هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات؛ هدفها إقامة نظام سياسي ديمقراطي تعددي… إلخ، والتمسك بمرجعيات تجاوزتها الظروف، حديث غير واقعي، في ضوء المناخ المحلي والإقليمي والدولي السائد، سياسيا وعسكريا. حديث من هذا النوع يثير أسئلة حادّة: هل هو مجرد خطأ نظري، أم رغبة في كسب تأييد شعبي على طريق حجز موقع للعب دور سياسي في المرحلة المقبلة؟
في حديثهم عن المصالحة الوطنية قالوا: “ويمكن أن يكون للجان المصالحة الوطنية دور فاعل في تفكيك النظام القديم”، في حين أن المصالحة الوطنية، كما كل مكونات العدالة الانتقالية، لا تبدأ إلا إذا توفرت إرادة سياسية على التغيير، ما يعني القبول بتفكيك النظام القديم، فالمصالحة نتيجة وليست سببا، تنفذ عند قبول أطراف الصراع بتنفيذها.
كان الأوْلى بواضعي الرؤية، كي يكونوا متسقين مع هدف مبادرتهم، التفكير في مخارج من حالة التشتت الفكري والسياسي والتنظيمي؛ وتقديم خطة عمل واضحة ومحدّدة لبعث الروح في الثورة؛ وتدعيم موقف المعارضة التي فقدت أوراق قوتها، مدخلا للضغط على النظام وحماته والمجتمع الدولي، ودفعهم إلى أخذ المعارضة على محمل الجد؛ والتعاطي مع اعتباراتها في الحل السياسي، لا الانزلاق إلى ترديد مطالب لم تعد تحظى بقبول إقليمي ودولي.
المصدر: العربي الجديد