في ذكرى الجريمة النكراء التي ألقى فيها النظام السوري براميل وصواريخ الكيماوي على الغوطة الشرقية ليلة 21 آب/ أغسطس 2013، والتي استشهد نتيجتها ما يزيد عن 1400 مدني. وخمس سنوات مرت على هذا الفعل التتري، ومازال المجرم طليقًا، بل وأكثر من ذلك فإن النظام يقوم هذه الأيام باستدعاء كافة من تبقى من المسؤولين عن مقبرة مدينة زملكا، في غوطة دمشق الشرقية، إلى أجهزته الأمنية، ويقوم بالضغط عليهم ، وتبين أنه يبغي من ذلك (حسب مصادر في الغوطة) الإمساك بكل من كان له أي دور في التوثيق والتصوير ودفن الشهداء، وحول أماكن المقبرة الجماعية، كما قامت قوات النظام بتطويق مقبرة مدينة زملكا، ودخلت إلى المقبرة التي دفن فيها معظم شهداء مجزرة الكيماوي، وقامت بنبش المقابر الجماعية، ونقل رفات المدفونين إلى وجهات غير معروفة.
وجيرون في هذه الذكرى توجهت إلى شهود أحياء من زملكا والغوطة الشرقية، لتساهم في توثيق الجريمة التي لن تذهب بالتقادم بكل تأكيد، حتى لا يبقى المجرم طليقًا أبد الدهر.
القاضي محمد خير الله الحلبي من الغوطة الشرقية قال في شهادته ” حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل سمعنا صوت هدير قذائف صاروخية منطلقة من جبل قاسيون باتجاه غوطة دمشق كان هديرها مشابه لما سبقها من الصواريخ التي عادة ما كان يطلقها النظام المجرم لتفتك بأهالي الغوطة ونسائها وأطفالها وتحول أجسادهم إلى أشلاء، إلا أن الشيء المختلف هو أنها هذه المرة لم يكن لها صوت انفجار، وإنما اقتصر على صوت ارتطامها بالأرض، الأمر الذي حملنا على الظن أنها لم تنفجر. كان عدد الصواريخ حولي ١١-١٢ وقد استغرق قصفها حوالي ١٥ دقيقة، إلا أنه شعرت بعدها وعائلتي بوجود رائحة غير طبيعية، أدت الى إصابتها بضيق نفس وصعوبة في الرؤية مبدئيًا، لم ندرك الأمر لحين أن سمعنا منادين ينبهون الأهالي بالهجوم الكيماوي، وضرورة الصعود إلى الطوابق العليا من الأبنية واستخدام الكمامات، عند ذلك طلبت من عائلتي الصعود إلى سطح البناء وتأكدت أن الجيران قد وصلهم الخبر”. وأضاف القاضي ” ركبت سيارتي متجهًا إلى مكان سقوط الصواريخ، الذي كان مركزًا في منطقة المزرعة شرق مدينة زملكا وجنوبها، وهناك تفاجأت بأعداد كبيرة من القتلى والمصابين، والمسعفون يقومون باستخدام أي سيارة لنقل الجثث والمصابين، والمواطنين وعناصر الجيش الحر بادروا جميعًا إلى المساعدة في عملية الإسعاف مما نتج عنه وفاة الكثير منهم بسبب استنشاقهم الغاز السام أثناء عملية الإسعاف، وقد تم نقل الجثث والمصابين إلى كافة النقاط الطبية المتواجدة في الغوطة الشرقية لتقديم العلاج اللازم لهم، إلا أن الإمكانيات كانت متواضعة جدًا نتيجة الحصار المفروض على الغوطة منذ حوالي السنة قبل الهجوم، كان الضحايا من كافة الفئات والأعمار إلا أن نسبة الأطفال كانت تزيد عن باقي الفئات. وهذه المرة كانت الجريمة بلا دماء. وظهر جليًا من خلال تموضع الصواريخ وزاوية سقوطها أنه قد تم إطلاقها من جهة جبل قاسيون”. ثم قال ” أثناء عمليتي الإسعاف ودفن الجثث كان النظام المجرم يمطر الغوطة بقذائف المدفعية، مما زاد من أعداد الشهداء وأدى إلى حصول عدد كبير من الإصابات في صفوف المسعفين وأهالي المصابين والشهداء “.
أما رئيس المجلس المحلي في زملكا يوسف الغوش فقالفي شهادته ” كانت ليلة عادية بالنسبة لأهالي زملكا والغوطة عامة، قصف متقطع بالمدفعية والصواريخ، وفي الثانية والربع صباحًا سمعنا صوت صواريخ لم تنفجر، تلتها أصوات لرمايات من المدفعية فوق المدينة، فحمدنا الله ساخرين من أسلحة المجرمين، لكن أصواتًا تعالت: كيماوي كيماوي، فذعر الناس بين مختبئ وصاعد إلى الأسطحة، أما في أماكن نزول الصواريخ فكان المشهد مختلفًا، وربما لم يسمع أكثرهم تلك النداءات، ولم يتسنى لهم كيف، وبأي ذنب قتلوا، فقد كان السارين مركزًا ، أجل لقد كانت ليلة كيماوية بامتياز. القتلى في الشوارع ممن حاول النجاة بأهله. وفي البيوت من كان نائمًا أو آثر الاختباء في بيته وحمامه متقوقعين إلى جانب بعضهم، أما من تأثر قليلًا فذهب إلى طبية زملكا التي تراكمت فيها الجثث، حيث لم يدر أن ثمة صاروخًا كيماويًا نزل بقربها، لتصل طلائع المصابين والضحايا إلى مدن الغوطة القريبة، ولتبدأ أكبر عملية إنقاذ وهي من كبريات عمليات الانقاذ التي حصلت بالتاريخ لأكثر من عشرة آلاف أصيبوا بسارين الأسد”. وأضاف الغوش ” في تلك الليلة استشهد مئات من المسعفين والمتطوعين حيث امتلأت جميع مشافي الغوطة عن بكرة أبيها، لتتم عمليات فرز القتلى الذين جمعوا بأكداس رهيبة، وغسل المصابين بالمياه و الانعاش بالأوكسجين والإبر المضادة ، ولم نكن نعرف حجم المجزرة إلى أن أصبحنا ليفصح النهار عن حجم الجريمة الكبير ولتتوضح أكبر جريمة جماعية، اقترفت بحق السوريين الثائرين أكثر من ألف وأربعمائة شهيد من المدنيين والمنقذين، يومها كنا نعد الضحايا بالجملة وحدث أن صادفنا أقرباء وأصدقاء أعزاء لنكمل العد، حينها لم يكن للحزن الخاص معنى، لقد كان حزنًا جماعيًا يبكي ضحايا شعب طالب بالحرية والكرامة، فتعرض لأبشع أنواع القتل والتعذيب والتهجير. يومها نقل الإعلام تفاصيل المجزرة وصور ضحاياها وتوقعنا خيرًا أن يقوم المجتمع الدولي بمحاسبة المجرمين وأعوانهم وتفاءلنا وتفاعلنا مع لجنة التحقيق، التي انتدبت للاطلاع على وقائع الجريمة، حيث رأوا الصواريخ وأين وقعت ومن أي جهة أتت، وحللوا التراب وعينات من جثث الضحايا، وكثيرًا ما سمعنا منهم (الأسد قاتل وأتت الصواريخ من جهة النظام) ولم ندر بأن صفقة ستجري، بحيث يكون السلاح الكيماوي مقابل السكوت عن الجاني، وإفلاته من العقاب، ولازال المجرم طليقًا”. لكنه تابع يقول” اليوم ونحن نُعد للذكرى الخامسة للمجزرة، التي اقترفت بحق أهلنا سمعنا أخبار عن نقل جثث ضحايا الكيماوي إلى جهة مجهولة، ويتم التحضير مع أطباء ومسعفين وحفاري القبور الذين بقوا في المدينة لصناعة رواية جديدة عن تلك المجزرة الكبرى، التي انتقم بها الأسد من مدينتنا الثائرة ودورها المحوري في استقطاب الثائرين من بقية المناطق. نعم لقد تم التغطية على الجاني يوم الجريمة وهاهم اليوم يحاولون إخفاء آثارها ولكن هيهات”.
المخبري علي ربيع مدير طبية زملكا في تلك الأثناء قال في شهادته ” في تلك الليلة أذكر أنني كنت سهران مع شباب من الكادر، وحوالي الساعة الواحدة والنصف طلبني الشباب المناوبين على جهاز اللاسلكي كي أتوجه للنقطة الطبية، تحركت أنا والشباب الذين كانوا معي وتفاجأنا أن هناك حالات اختناق نتيجة القصف بالغاز، للوهلة الأولى لم نستطع أن نحدد نوع الغاز، لكن وخلال وقت قصير ارتفع عدد الإصابات بشكل مرعب، وبهذه الأثناء وجدنا أن الكثير من المصابين كانوا يموتون بين أيدينا، ونحن عاجزين، لأن العدد كبير جدًا وأكبر من طاقتنا الاستيعابية” ثم قال ” خلال ساعات فقدنا الكثير من الشهداء، وعددًا من الشهداء كان من الكادر الطبي، وأنا أذكر أنني فقدت القدرة على الاستمرار بالعمل، خصوصًا أننا لم نكن قادرين الصعود إلى الأسطح لنأخذ نفس، أو هواءً نقيًا، لأن القصف براجمات الصواريخ لم يهدأ خلال تلك الفترة.
وعندما صحونا على حالنا في النهار وتواصلنا مع بقية الطبيات بالغوطة، عرفنا حجم الجريمة والكارثة التي تم خلالها توثيق أكثر من ١٤٠٠ شهيد معظمهم أطفال ونساء، وكان ذنبهم الوحيد أنهم ينامون في منطقة قالت لا لحكم الأسد. وفي اليوم الثاني تحولت زملكا إلى مدينة أشباح، بعدما هجرها سكانها من هول ما حصل”.
بينما تحدث ثائر ادريس عضو مجلس المحافظة من زملكا قائلًا ” في إحدى ليالي الصيف وتحديدا ليلة 21/8/2013 وفي الساعة 1.50 دقيقة بعد منتصف الليل سمعنا صوت صاروخ مختلف بصوته عما تعودنا سماعه من صنوف الأسلحة التي دأب النظام الأسدي المجرم أن يلقيها علينا في مدينة زملكا بالغوطة الشرقية، ولم نسمع صوت انفجاره فحمدنا الله، وبعد برهة سمعنا صوتين آخرين مثله وإذ بأصوات الناس في الطريق تنادي الأسد يضرب كيماوي، ومع توالي أصوات الصواريخ، التي لم نعد نستطع عدها عمت حالة من الاستنفار وبدأت تتوالى السيارات إلى المراكز الطبية في المدينة محملة بالشهداء والمصابين بالغازات، وتم توجيه الإسعافات إلى خارج المدينة باتجاه بلدات الغوطة الشرقية ولاسيما بعد أن استهدفت أيضًا المراكز الطبية في زملكا بتلك الصواريخ وأصيب الكادر الطبي واستشهد عدد من المسعفين .
وبدأت عجلة أرقام الضحايا تدور ويتصاعد الرقم وتم توجيه نداءات استغاثة البلدات المجاورة للتوجه إلى مدينة زملكا لنقل المصابين والمساعدة على إخلاء المدينة. توزعت أضرحة الشهداء على معظم البلدات في الغوطة نظرًا للعدد الكبير للشهداء في المدينة، والذي تجاوز 1400 شهيد مدني. ومع هول الجريمة وبالتزامن مع ذلك بدأ النظام شن عملية عسكرية برية واسعة على الغوطة الشرقية من محور زملكا لتزيد الأمور تعقيدًا”. ثم قال ” كان المشهد مؤلمًا من الناحية الإنسانية نظرًا لحجم الضحايا الهائل بحيث أبيدت عائلات بأكملها. ومن الناحية العسكرية كان المشهد متقدًا ينبض دمًا. في اليوم التالي تعالت الأصوات دوليًا لإدانة الجريمة وتداعت الأمم المتحدة لإرسال لحنة تحقيق دولية مختصة وفعلاً دخلت المدينة واستمعت لشهادات الناجين والكادر الطبي وقامت بأخذ عينات من مواقع سقوط الصواريخ وأخذت عينات من جثامين الشهداء، والتقط الجميع أنفاسهم لمحاسبة المجرم ظنًا من الإنسانية أن الإنسان أخو الإنسان. وما زال الناجون من تلك المجزرة مجزرة القرن، وحتى هذا اليوم مصرون على إيصال صوتهم وأنهم لن ينسوا شهداءهم، وفي كل مناسبة يقومون بإحياء ذكرى هذه المجزرة لحين محاسبة الأسد ونظامه المجرم. مع يقيننا أن السياسة ليست ذات أخلاق ولا ضمير وحتى اليوم وبعد التهجير وفي الذكرى الخامسة لازال المجرم طليقًا ومارس استخدام هذا السلاح مرات أخرى بعد هذه الجريمة ولم يرتدع لأنه وبالفعل سقطت الإنسانية”.
القاضي حسين حمادة يرى أن الجريمة لن تسقط بالتقادم فيقول ” نظام روما الأساسي المنشأ للمحكمة الجنائية الدولية قد حدد في نص المادة / 5 / منه الجرائم التي تعتبر فظاعات ومنها جرم الكيماوي فهذه الجرائم لا تسقط بالتقادم هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن قانون العقوبات السوري الصادر بعام 1949 المعمول به حاليًا في سورية قد نص على مبادئ تسمى وقف التقادم وانقطاع التقادم في ظروف الاضطرابات التي تمنع المتضرر من تقديم شكواه، وهذا الأمر تعاني منه سورية منذ قيام الثورة، لذا فإن المدة تكون مفتوحة أمام المتضرر في إقامة شكواه عملًا بقاعدتي وقف التقادم وانقطاع التقادم المنصوص عنهما بالقانون الوطني”.
أما المحامي أحمد الجراح فقال ” هذه الجريمة لا يسري عليها التقادم. جرائم الحروب والابادة الجماعية والعرقية لا يسري عليها التقادم. ولا انقطاع التقادم وفق اتفاقية فيينا، أما من ناحية إفلات المجرمين والمسؤولين من العقاب فالعدالة الإلهية فوق كل عدالة وهذا معتقد ويقين. وإيمان أن عدالة الله ستطول كل جبار في الأرض. وعن إفلات المجرمين من القانون الوضعي، فإن دل على شيء فإنما يدل على خلل في تطبيق القانًون الدولي وروح العدالة. وخلل في ميزان القوى العالمية حسب مصالح الدول وهناك الكثير من أحكام محاكم العدل الدولية لم تنفذ بحجج عديدة، منها على سبيل المثال أن هناك دول لم تنضم لهذه الاتفاقية. وهذا يعني عدم خضوعها لهذا القانون، وعدم الاعتراف بالعدالة الدولية، وبالتالي يفلت الكثير من المجرمين من العقاب. وبرأيي يجب أن تطبق الاتفاقية على كل الدول والانظمة بشكل ملزم بمعنى آخر لا تقبل عضوية أي دولة في الأمم المتحدة بدون الاعتراف بمحكمة العدل الدولية والقانون المطبق لديها. ليتم اجبار وإلزام الدول بالخضوع لهذا القانون حتى لا يفلت كبار المجرمين من العقاب”.
المصدر : جيرون